العرب والعالم

غزة.. عام من الموت جوعا

 

«عمان»: لم يكن الموت جوعا في غزة خلال عام 2025 نتيجة ثانوية للحرب، ولا أثرا جانبيا لانهيار السوق والخدمات تحت القصف. كان جزءا أساسيا من طريقة إدارة الحرب. المسار الذي يبدأ عند بوابة المعبر وينتهي عند قدر فارغ في خيمة نزوح صار بنية سياسية كاملة، تُفتح وتُغلق، تُخفَّف وتُشدَّد، وتُستخدم لرفع الكلفة عن طرف أو لرفع الكلفة على طرف آخر. بهذا المعنى، لم يعد سؤال الحرب في عام 2025 حول كم قُتل في الغارات؟ فقط، تحول السؤال إلى ما هو أصعب وأمر؛ من يملك قرار إدخال الغذاء والوقود والدواء إلى قطاع غزة؟ وكيف يُترجم هذا القرار إلى حياة يومية أو إلى موت بطيء؟ يكتسب السؤال مرارته فإن العالم أجمع لم يستطع إدخال لتر حليب واحد كان يمكن أن ينقذ حياة طفل حديث الولادة استشهدت أمه وهي تحاول الفرار به من خيمة إلى خيمة في مشهد شتات يذكر بهشاشة العالم أخلاقيا. 

تعاملت دولة الاحتلال الإسرائيلية بقيادة نتنياهو وائتلافه اليميني، مع المعابر والمساعدات باعتبارها رافعة أمنية وسياسية، فيما تعاملت حركة حماس مع ملف المساعدات بوصفه جزءا من شروط أي تهدئة، ودليلا على جدية الوسطاء. دخلت الولايات المتحدة، في عهد الرئيس ترامب، على المسار من زاويتين متناقضتين: خطاب يقول إن الناس يتضورون جوعا، وسياسة تبحث عن «آلية» توزع الغذاء بطريقة لا تُقوّي حماس بوصفها خصم إسرائيل، ولو كان ذلك على حساب تقويض المنظومة الإنسانية التقليدية. 

كانت النتيجة سنة مؤلمة في بعدها الإنساني والأخلاقي لا يمكن أن تنسى ليس في تاريخ القضية الفلسطينية ولكن في تاريخ أخلاق العالم المتقدم بأسره.. كانت أبسط متطلبات الحياة والمتمثلة في كسرة خبز وجرعة ماء تدار كما تدار جبهات القتال. 

يناير: هدنة على الورق 

بدأ عام 2025 في غزة بالمرحلة الأولى من وقف إطلاق النار، كان ذلك في 19 يناير، ولمدة 42 يوما، وبدأ في ذلك الوقت بندا سيصبح لاحقا عنوان العام: 600 شاحنة يوميا، بينها حصة للشمال. في اللحظة الأولى بدا الرقم كأنه عودة إلى منطق «الحد الأدنى» الذي يمكن أن يوقف الانزلاق نحو المجاعة. دخلت الشاحنات، وتحسنت الحركة قليلا، وتراجعت حدة القصف مقارنة بأشهر سابقة. 

لكن الواقع اللوجستي التهم الوعد بسرعة. الفارق بين «الدخول» و«الوصول» كان الفجوة التي لا يراها السياسيون في البيانات الصحفية. الشاحنة التي تعبر لا تعني أن الغذاء وصل إلى الأسر، ولا أن الوقود وصل إلى المستشفيات، ولا أن حليب الأطفال وصل إلى الحضانات. كانت غزة في تلك المرحلة مكانا يعاني ثلاثة اختناقات في آن واحد: اختناق البنية حيث الطرق مدمرة، والوقود الشحيح يجعل النقل الداخلي أزمة مستقلة. 

واختناق السيطرة حيث مسارات الحركة الداخلية تخضع لتقييد وتبدل وتعقيد. واختناق في تفسير معنى الـ600 شاحنة. هل تُعد الشاحنات التجارية ضمن الرقم؟ هل تُعد شحنات القطاع الخاص «مساعدات»؟ ومن يملك حق العدّ أصلا؟ 

ظهر في تلك المرحلة ما سيعرف لاحقا بالسوق السوداء في بيع المواد الغذائية. كما ظهر التهافت الكبير والاندفاع ناحية نقاط التوزيع قبل أن يتبين أن إسرائيل والمتعاملين معها كانوا وراء هذا الأمر الذي استغل لاحقا لقنص الرجال والأطفال. 

مارس: الجوع يتحول إلى توقيت سياسي 

توقفت حركة الشاحنات بتاريخ 2 مارس. كان السبب الذي أعلنته إسرائيل يتعلق بملف الرهائن وشروط تنفيذه. لكن الأثر لم يكن تفاوضيا، كان تحولا وجوديا. بدأ الجوع الحقيقي يتسلل إلى جميع مدن ومخيمات القطاع. وزادت حدة القصف وبات واضحا للجميع أن إسرائيل تمارس إبادة جماعية. 

وسرعان ما اكتشف العالم الفرق بين الحصار كعقوبة والحصار كمنظومة إدارة. الأول يتصوّر أنه مؤقت، والثاني يخلق اقتصادا جديدا قائما على الندرة الدائمة في كل شيء. من هنا بدأ استعمال كلمة «هندسة» يتكرر في وصف ما يجري. لم تكن هناك وثيقة رسمية معلنة من إسرائيل تقول «جوّعوا غزة»، ولكن النتيجة على الأرض بدت مرسومة بخطوط واضحة: تقليص تدفق الحياة إلى حد يجعل المجتمع يعيش على الحافة، بحيث يصبح أي تحسن مرهونا بشروط سياسية. 

وفي منتصف مارس عاد القتال على نحو أوسع، مع تصريحات إسرائيلية بأن الضربات ليست «هجوم يوم واحد». ستخرج لاحقا تصريحات من وزراء وقادة عسكريين تطالب رسميا بسياسة التجويع وقصف أي مظهر من مظاهر الحياة في قطاع عزة. 

مايو: طريق المساعدات جزء من الخطر

ظهرت «مؤسسة غزة الإنسانية» في شهر مايو. كانت المؤسسة بدعم أمريكي وتنسيق إسرائيلي. وكان هدفها السياسي هو محاولة خفض الضغوطات الدولية حول موضوع التجويع. قُدم نموذج «غزة الإنسانية» باعتباره حلا للفوضى ولمنع «تحويل المساعدات» إلى حماس. لكنه حمل من البداية ملامح إعادة تصميم سياسية أكثر من كونه إصلاحا إنسانيا. 

ومع الأيام تم «عسكرة الإغاثة» وأصبحت منافذ توزيع الغذاء التابعة لمؤسسة غزة الإنسانية موقع اشتباك يومي يقتل فيه المئات من الأطفال والنساء والرجال. صممت آلية التوزيع في فضاء يخضع لمعادلات السيطرة العسكرية، وليس لمعايير الأمان الإنساني. 

وطالبت مئات المنظمات، في شهر يوليو، بوقف الآلية التي تعمل بها المؤسسة، معتبرة أنها تضع المدنيين أمام خيارين: المخاطرة بحياتهم أو العودة بجوع مضاعف. في الخلفية كانت الأمم المتحدة تقول إن الحل ليس في إنشاء ممرات ضيقة جديدة، ولكن في فتح المعابر وتوسيع شبكة توزيع آمنة. لكن إسرائيل كانت تصر على أن المنظومة التقليدية فشلت وأن هناك تحويلا للمساعدات. أما واشنطن فكانت ترى أن «السيطرة» شرط لمنع استغلال الإغاثة. وبين هذه المواقف كانت غزة تُجرّ إلى مزيد من الجوع. 

أغسطس: الجوع قضية أخلاق وسياسة

انتقل الجوع في أغسطس من لغة التحذير إلى لغة التشخيص. أعلن التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي أن المجاعة تأكدت في محافظة غزة، مع توقعات بالامتداد. وقالت منظمة الصحة العالمية: إن أكثر من نصف مليون شخص باتوا عالقين في ظروف مجاعة، وفاقة كبيرة.. ووفيات يمكن منعها. 

وجاء ردّ إسرائيل بالرفض القاطع، واعتبرت التقرير قائمًا على مصادر غير موثوقة، وبأن الجهد الإنساني كبير. لكن قوة لحظة أغسطس لم تكن في «الجدل» بل في ما كشفته من أن الحرب الحديثة قادرة على إنتاج مجاعة في بقعة حضرية تحت نظر العالم، وأن الخلاف على المنهجية لا يغيّر حقيقة الانهيار في أجساد الأطفال وفي عجز المستشفيات. 

لكن الجوع لا يأتي وحده. يأتي معه انهيار الماء والصرف الصحي، ويأتي معه المرض. وهذا يفسر لماذا يمكن لحدث يبدو «غير عسكري» أن يلخص العام. أصابت ضربة لنقطة جمع مياه في النصيرات في يوليو وقتلت أطفالا كانوا ينتظرون الماء. تحدثت إسرائيل عن خلل، وعن أن الهدف كان عنصرا مسلحا. لكن المعنى السياسي كان أوسع من ذلك بكثير. تحول الحصول على الماء إلى نقطة لقنص الأطفال.. وأصبح الطابور الطويل وسيلة للموت، وأن أدوات القتل التي يستخدمها الحصار لا تنحصر في نقص الطعام ولكن أيضا في تفكيك شروط الأمان اليومية. 

صار الجوع والعطش منذ تلك اللحظة أكثر من أزمة إنسانية، صار تهمة سياسة وسؤالا قانونيا. وصار الأمر برمته اختبارا صريحا للنظام الدولي: ماذا يعني أن تتكرر التحذيرات ثم تُعلن المجاعة ثم تستمر القيود والاختناقات؟ 

سبتمبر إلى نوفمبر: الهدنة تعود بـ«خط أصفر»

في 9 سبتمبر نفذت إسرائيل ضربة في الدوحة استهدفت قيادة حماس، في خطوة صدمت الوسطاء؛ لأنها طالت عاصمة دولة تلعب دورا مركزيا في المفاوضات. قُتل في الهجوم ابن خليل الحية، واعتُبر الحدث رسالة قاسية مفادها أن إسرائيل لن تكتفي بالميدان في غزة، بل ستلاحق القيادة السياسية في الخارج. كان ذلك توسيعا لصراع بدا أنه لا يضع حدودا للساحات، ويجعل التفاوض ذاته هشًا. 

ثم في 10 أكتوبر بدأ وقف إطلاق نار جديد برعاية أميركية، مع خطة متعددة البنود، وتبادل رهائن وأسرى، ووعد بزيادة كبيرة في تدفق المساعدات. ظن الكثيرون أن الجوع سيتراجع تلقائيا. لكنه لم يتراجع بهذه البساطة. كانت غزة في حاجة إلى ما هو أكثر وأكبر من الشاحنات، كانت بحاجة إلى استعادة منظومة حياة متكاملة، إلى بنية ماء، وكهرباء، ونظام صحي، ومواد إيواء، وأسواق تعمل ضمن حد أدنى من الاستقرار. 

وعادت مرة ثانية إسرائيل إلى المراوغة. تقول إنها تفي بالتدفق المطلوب من المساعدات أو تقترب منه، ومنظمات إنسانية ومصادر في غزة تقول إن المتوسط أقل بكثير، وإن جزءا كبيرا من الشاحنات تجاري أو لا يصل للفئات الأشد ضعفا. يضاف إلى ذلك أن «النوع» لا يقل أهمية عن «العدد». دخلت سلع غذائية منخفضة القيمة ولا تناسب الأطفال ولا تعالج سوء التغذية. وبقيت القيود على المواد الطبية وعلى معدات تبريد اللقاحات الأمر الذي جعل ما بقي من المؤسسات الصحية خارج الخدمة تقريبا. 

وفي 17 نوفمبر تبنى مجلس الأمن قرارا يؤسس لفكرة قوة استقرار دولية وإطار حوكمة انتقالية. بدت المحاولة وكأنها مخرج سياسي، لكنها اصطدمت عمليا بالميدان: من يملك السلاح؟ من يضمن الأمن؟ وهل ستنسحب إسرائيل؟ وهل تقبل حماس بنزع سلاحها وفق الشروط الإسرائيلية؟ وهل توجد دول مستعدة لإرسال قوات؟ وكانت الأسئلة أكبر كثيرا من النصوص. 

وفي ديسمبر جاءت علامة سياسية خطيرة جدا حينما وصف رئيس الأركان الإسرائيلي إيال زامير «الخط الأصفر» داخل غزة بأنه «حدود جديدة» و«خط دفاع متقدم»، بما يعني أن وضعا مؤقتا قد يتحول إلى تقسيم طويل الأمد يترك إسرائيل في السيطرة على أكثر من نصف القطاع. هذا الأمر من شأنه، إذا ما حدث، أن يحول الجوع في قطاع غزة من أزمة طارئة إلى «سياسة جغرافيا» حيث تصبح نصف المساحة مقفلة، والزراعة مقيدة، وعودة السكان مشروطة.. أما الإعمار فإنه معلق ولا أحد يريد الحديث عنه بشكل عملي. 

وزاد الأمر تصريحات وزير الدفاع إسرائيل كاتس التي تحدثت عن عدم مغادرة غزة وعن فكرة إعادة التوطين، قبل أن يخفف مكتبه لغتها. لكن مجرد ظهور هذه اللغة في لحظة هدنة يكشف الكثير من التناقض.. فهناك اتفاق يقول بشكل واضح «انسحاب تدريجي»، وهناك تيار سياسي وعسكري يتصرف كما لو أن البقاء الطويل ممكن، وربما مرغوب. وهذا التناقض هو الذي يجعل الهدنة عاجزة عن تحويل وقف النار إلى نهاية للجوع.. وللحرب. 

6 ديسمبر: الشتاء يكشف 

مأساة ما بعد الحرب 

جاء ديسمبر بالشتاء والأمطار والفيضانات في المخيمات؛ فغرقت الخيام، وتحول البرد إلى سبب للموت. مات رضع بسبب انخفاض الحرارة، وانهارت مبانٍ متضررة على ساكنيها. لم يكن الطقس سببا في كل ذلك ولكن الأمر كانت نتيجة مباشرة لحرب جعلت خيار الإيواء المؤقت دائما، والحديث عن الإغاثة أكثر بكثير عن تحققها. كان الواقع على الأرض أيضا يمنع الناس من ترميم بيوتهم أو العودة لها. 

ثمة نتيجة انتبه لها أهل غزة كما انبه لها العالم أجمع وهي أن المساعدات عندما تتحول إلى بنية سياسية فإنها لا تستطيع أبدا أن تعالج آثار الحرب.. إنها تمنع الانهيار الكامل فقط.. ليس لسكان غزة فقط ولكن للنظام العالمي برمته. 

لم تعش غزة في 2025 عاما من الحرب، عاشت عاما من الجوع، والحياة على حافته، والإبادة، والخذلان والمجازر اليومية والتهجير والشتات. كانت غزة خلال هذا العام مرآتنا لحقيقة العالم وحقيقة الإنسانية التي كان يتحدث عنها. لم يتعامل العالم مع الجوع في غزة باعتباره عارض، ولكن كأداة للضغط وإعادة التشكيل. وحتى من كان يرفض هذه الأداة العسكرية/ السياسية لم يستطع التحرك ضدها قيد أنملة. كان الجميع يتفرج بما في ذلك القوى العظمى في العالم، كانوا يتفرجون كيف أن عملية الوصول إلى كيس طحين أو لتر ماء عملية تكلف العائلة فقد أحد أفرادها. وما زال العالم يتفرج اليوم على (كيف يصبح الشتاء في غزة حكما بالإذلال.. والموت لاحقا من شدة البرد.)؟ لا يصبح الأمر بهذا التوصيف نتيجة متوقعة لحرب مدمرة، أو لخلل في آليات توزيع المساعدات.. الأمر لا علاقة لها بفكرة المساعدات، إنه مشكلة نظام عالمي لم يعد قادرا على تحقيق الحد الأدنى من الأخلاقيات التي يتحدث عنها أو التي اكتسب شرعيته منها. وحين ذلك يكبر السؤال من سؤال عن غزة إلى السؤال عن النظام العالمي نفسه.