هل تآكلت الديمقراطية في عام 2025؟
الثلاثاء / 9 / رجب / 1447 هـ - 11:56 - الثلاثاء 30 ديسمبر 2025 11:56
«عمان»: لا تبدو الديمقراطية في نهاية 2025 وكأنها سقطت على يد انقلاب واحد أو زعيم واحد أو حزب واحد.. لكن المؤكد أنها تبدو وكأنها منزل قديم ما زالت واجهته قائمة، لكن الهواء يتسلّل من الشقوق الواضحة جدا على جدرانه. ما زال الكثير من الدول تجري انتخابات بشكل دوري، وكثير من الحكومات ما زالت تتحدث باسم «الشعب»، أما الدساتير فما زالت أيضا تستذكر في المناسبات الرسمية. ومع ذلك، فإن الإحساس الذي يلتقطه المراقبون -وكذلك المؤشرات- هو أن جوهر الديمقراطية يتراجع بشكل ملحوظ جدا.
كان عام 2025 عام «تثبيت الاتجاه» أكثر من كونه عام «التحوّل المفاجئ»؛ أي أنه لم يبتكر أزمة جديدة بقدر ما كشف أن أزمات السنوات السابقة لم تكن عابرة. هذا ما تقوله مؤشرات مثل Freedom House التي تتحدث عن تسعة عشر عاما متتالية من تراجع الحرية، وتربط ذلك بعام انتخابي عالمي كثيف شهدت فيه الانتخابات نفسها تلاعبا وعنفا وتعطيلا في عدد كبير من الحالات. وهو ما يعمقه تقرير V-Dem الذي يصف ربع قرن من «الأوتقرطة» الزاحفة، ويقدّم صورة كمية للفكرة التي أصبحت بديهية في النقاش العام وهي أن التراجع صار كتلة بشرية وسياسية ضخمة.
لكن السؤال الأهم الآن هو لماذا تتراجع الديمقراطية، وكيف تتغير طبيعة التهديد؟ لا تبدو أزمة الديمقراطية في مجرد «صعود الاستبداد».. الأمر متعلق أيضا بسؤال ماهية «الشرعية» نفسها! من شرعية القواعد إلى شرعية القوة، ومن شرعية المؤسسات إلى شرعية الزعيم، ومن شرعية الحقيقة المشتركة إلى شرعية «السردية» التي تنتصر في المنصات.
حين تتحول الانتخابات إلى قشرة
الفكرة التي تكررت كثيرا خلال هذا العام في الحديث عن الديمقراطية هي أن الانتخابات لم تعد ضمانة كافية. لم تختف صناديق الاقتراع، ولكنها باتت في بعض الأماكن أقرب إلى الديكور. لا يستغني الاستبداد المعاصر عن لغة الديمقراطية؛ يستولي عليها ثم يفرغها، لأن الشرعية الانتخابية ما زالت العملة الأكثر قبولا في العالم.
وحتى داخل الديمقراطيات التي لا تعاني من تزييف مباشر، يبقى الخطر قائما حين تصبح المنافسة غير عادلة بحكم واقع المال، والسيطرة الإعلامية، وإعادة رسم الدوائر، أو تحويل المؤسسات الرقابية إلى مجرد أدوات. في مثل هذه الحالة يصبح التصويت لحظة من لحظات السياسة لا محكمها النهائي. كان هذا واضحا في الكثير من انتخابات 2024 والتي ألقت بظلالها على عام 2025.
التهديد الزاحف.. لا الانقلاب
وإذا كان القرن العشرون قد علّم العالم أن الديمقراطية يمكن أن تُغتال بدبابة، فإن العقدين الأخيرين يعلّمانه أنها قد تُستنزف بمشرّع، أو بمدّع عام، أو بمنصة اجتماعية، أو بسلسلة «استثناءات» صغيرة تُصبح مع الوقت قاعدة الحياة السياسية.
هذا ما يظهر في النقاش الأوروبي حول «تفكيك الديمقراطية من الداخل» عبر تآكل دولة القانون. كان أوروبا تتحدث في عام 2025 عن الكيفية التي يمكن فيها لحكومات منتخبة أن تُضعف استقلال القضاء، وتضغط على الإعلام، وتعيد صياغة القواعد بما يضمن ديمومة النفوذ.
وفي الولايات المتحدة، أخذ هذا النقاش شكلا آخر، ليس صراعا على صندوق الاقتراع فقط، بل على «حراسة القانون». وحذر قضاة متقاعدون في أمريكا من أن تراجع سيادة القانون هو لحظة يتحول فيها كل شيء إلى سياسة، وقضاء، وأمن، وحتى تعريف الحق والباطل في المجال العام.
وهذه ليست تفاصيل داخلية أو حالة عابرة إنها بنية يتم التأسيس لها وذاهبة نحو الرسوخ وربما التشريع.
أزمة الحقيقة
لعل أكثر ما يميز 2025 هو انتقال الخطر من المؤسسات التقليدية إلى فضاء المعلومات. فلم تعد الانتخابات تُخاض فقط في الشوارع والمناظرات والصحف، لكنها في طبقات متراكبة من المحتوى المولّد، والمقتطع، والمفبرك. هذا الخطر لم يبدأ في 2025، لكنه اتخذ شكلا أكثر صعوبة مع انتشار أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي التي تجعل «التزييف» أقل كلفة وأكبر أثرا. وناقش العالم أجمع، تقريبا، خطر التضليل الإعلامي على الديمقراطية والحقيقة.
ويمكن النظر إلى هذا الخطر عبر معادلة معقدة جدا. فالمشكلة لا تكمن في أن بعض الناس يُصدّقون خبرا كاذبا.. إنها تتجسد في اللحظة التي يبدأ فيها الناس بالشك في وجود حقيقة يمكن الاتفاق عليها أصلا. هنا يمكن للجميع أن يصف كل محتوى بأنه «مفبرك»، ويصبح الطرف الآخر قادرا على الرد بالقول: «بل هذه هي الحقيقة المخفية» وهنا تتآكل الثقة بالإعلام، وبالخبير، وبالقاضي، وبالحكومات وبجميع المؤسسات.
الديمقراطية نظام يُفترض أنه يتغذى على النقاش العام، فإذا صار النقاش العام نفسه ساحة تضليل وإرباك، يصبح النظام كمن يقود في ضباب كثيف - قد لا يصطدم الآن، لكنه يسير نحو الاصطدام حتما.
حين يختنق الإعلام اقتصاديا
يختنق سياسيا
في كل حديث عن تراجع الديمقراطية، يوجد فصل لا يهتم به الكثيرون ولكنه يستحق الصدارة هو الاقتصاد السياسي للإعلام. تتجاوز حرية الصحافة فكرة الحق الأخلاقي إلى كونها بنية رقابية. لكن الصحافة لا تستطيع ممارسة هذا الدور حين تضعف إمكانياتها الاقتصادية. وفي هذه اللحظة يتحول المجال العام إلى توازن قوى بين منصات سريعة وصحافة بطيئة وموارد شحيحة.
يقول مؤشر RSF لحرية الصحافة في 2025: إن الوضع العالمي صار «صعبا» لأول مرة في تاريخ المؤشر، وسلط الضوء على العامل الاقتصادي كضغط متزايد.
صحيح أن المنصات كثيرة وفيها الكثير من الكلام لكنها تفتقر إلى الدقة والموضوعية والمهنية. وغياب الصحافة المهنية التي تتحرى الدقة والصدق على حساب صعود منصات وسائل التواصل الاجتماعي من شأنه أن يغير سلوك الجمهور. يتحول الجمهور إلى قارئ لا يقرأ ليعرف، ولكنه يقرأ ليثبت مواقفه أو ليجد ما يوافق غضبه. وهكذا تتحول السياسة إلى اقتصاد انتباه، لا اقتصاد حجج.
الشعبوية.. إعادة تعريف الشرعية
لا أحد يتفق على تعريف الشعبوية أو على وصفها، لكن ثمة اتفاق على أنها في 2024 و2025 لم تكن موجة مزاجية عابرة، كانت مشروعا يحاول تعريف «من هو الشعب؟»، و«من يملك الحق في تمثيله؟»، و«هل المؤسسات وسيط شرعي أم خصم؟». في أوروبا على سبيل المثال ربط صعود القوى الشعبوية بتآكل الثقة في المؤسسات الوسيطة، وبإحساس متنام بأن الديمقراطية لم تعد قادرة على إنتاج العدالة أو الكفاءة.
هذا التحول يغيّر قواعد اللعبة. في الديمقراطية الليبرالية التقليدية، الخلاف سياسي لكنه محكوم بقواعد مشتركة. في الديمقراطية الشعبوية، القواعد نفسها تصبح محل نزاع. وحين تصبح القواعد محل نزاع، يصبح كل شيء قابلا للتسييس وعندها لا تعود الديمقراطية تنافسا على برامج بل صراع على هوية الدولة.
وهنا تلعب الأرقام دورها، فعندما يتحدث مؤشر V-Dem عن ربع قرن من الأوتقرطة، فهو لا يتحدث عن حكومات قمعية فقط، ولكن عن مسار ثقافي وسياسي أعاد توزيع «القبول الاجتماعي» بالسلطة.
تبدو الصورة الآن عبر كل هذه الطبقات أقرب إلى حقيقة التراجع الجماعي والكبير وفي مختلف طبقات الديمقراطية بمعناها الراسخ في وجدان الحضارة الغربية. والأرقام والمؤشرات وتوصيف الحالة يشير إلى أن الديمقراطية في الغرب تعيش على الاقتراض من رصيدها الرمزي أكثر مما تولد رصيدا جديدا.
ما الذي يبقى من الديمقراطية
حين تتآكل؟
أحد الأسئلة المهمة يحاول أن يناقش تعريف الديمقراطية الذي ما زال صالحا؟ هل هي انتخابات؟ أم منظومة الضوابط؟ أم ثقافة قبول الآخر؟ أم اقتصاد يضمن حدا من العدالة؟ الحقيقة أنها كل ذلك معا. ولهذا فإن تآكلها غالبا ما يكون متعدد المسارات: قد تبدأ من المنصة الرقمية، أو من قانون انتخابي، أو من أزمة اقتصادية، أو من قاض يُهاجم في الإعلام، أو من صحيفة تُفلس، ثم تتجمع هذه الشقوق الصغيرة لتُحدث كسرا كبيرا.
السؤال الذي سيحكم السنة التالية
إن أهم سؤال يمكن أن يطرح في الساعات الأخيرة من عام 2025 حول الديمقراطية هو أي نموذج سيكسب في 2026؟ نموذج «الديمقراطية كقواعد» أم نموذج «الديمقراطية كإجراءات» أم نموذج «الشرعية كصفقة»؟
إن انتصرت «القواعد»، فهذا يعني استعادة مكانة القضاء المستقل، والإعلام القادر اقتصاديا، ومؤسسات رقابية تملك أن تقول «لا». وإن انتصرت «الإجراءات»، فسنبقى أمام انتخابات تُجرى بانتظام لكن بأثر أقل، لأن البيئة العامة تُدار لتوجيه النتائج أو لتقويض الثقة فيها.
وإن انتصرت «الصفقة»، فستتحول السياسة إلى إدارة مصالح قصيرة المدى، تتقدم فيها القوة على المبدأ، ويصبح السؤال: من يربح؟ أهم من السؤال ما القاعدة؟
لم يحسم عام 2025 الإجابة، لكنه جعلها أكثر إلحاحا.. لكن الجميع يطلب من الديمقراطية أن تسرع نحو الأمام رغم كل الأيادي التي تسحبها للخلف وتحاول تقييد أرجلها. أما الخلاصة فإن الديمقراطية لم تمت ولكنها أنهكت كثيرا. والأنظمة المنهكة لا تسقط دائما بضربة واحدة. كثيرا ما تسقط لأنها لا تجد من يصدق أنها ما زالت تستحق الدفاع عنها.