العرب والعالم

سؤال 2025 في لحظته الأخيرة.. هل انتهى النظام العالمي؟

 

«عمان»: لا يموت «النظام العالمي» كما تموت الإمبراطوريات في قصص الكتب عندما تسقط العاصمة أو يستسلم الجيش. يموت النظام ببطء في الوقت الذي يفقد قدرته على الإلزام. حين تصبح القواعد قائمة على الورق، لكن القرار الفعلي ينتقل إلى مكان آخر، إلى ميزانيات التسلح، وإلى خرائط العقوبات، وإلى غرف التكنولوجيا، وإلى الحروب التي لا تجد من يوقفها. لهذا يبدو اليوم سؤال هل انتهى النظام العالمي القديم سؤالا ملتبسا جدا؟ أو ربما أننا نبالغ في توصيف لحظة اضطراب عابر؟! 

ما تكشفه السنوات القريبة، وبصورة أوضح في 2024 و2025، هو أننا لا نعيش «نهاية» بالمعنى القاطع، لكن المؤكد أننا نعيش انتقالا ـ تراجعا تدريجيا لهيبة منظومة ما بعد 1945، وصعودا متوازيا لبنية جديدة لا تملك مركزا واحدا ولا سردية واحدة ـ إلى بنية يمكن تسميتها «نظاما متشظّيا». 

والتشظي هنا ليس بالمعنى المجازي، إنه وصف سياسي لواقع صار يمكن قياسه من خلال عدد الصراعات الذي يتزايد إلى مستويات غير مسبوقة منذ منتصف القرن العشرين، ومن خلال الإنفاق العسكري الذي يقفز بوصفه ردّ الفعل الأكثر مباشرة على فقدان الثقة في «القواعد» وآليات فضّ النزاعات التجارية. وعلى الضفة الأخرى، تتراجع الشرعية القيمية التي كانت تمنح النظام الليبرالي وزنه الرمزي: تراجع في الديمقراطية وحرية الإعلام، واستقطاب داخلي يضعف قدرة الدول الكبرى على ادعاء قيادة أخلاقية مستقرة. 

لكن التشظّي هنا لا يعني الفوضى المطلقة. الفارق بين الفوضى والنظام المتشظي أن الفوضى تعني غياب القاعدة، بينما التشظّي يعني تعدد القواعد وتعدد مراكز الإلزام. يصبح العالم أشبه بخريطة لها أكثر من «قانون»: قانون داخل كتلة ما، وقانون مختلف داخل كتلة أخرى، ومناطق عازلة تعيش على المواءمة والازدواجية، وتُجبر على دفع «ضريبة عدم اليقين» في كل قرار اقتصادي أو دبلوماسي. 

عندما يفقد الأمن لغته المؤسسية 

النظام الذي وُلد بعد الحرب العالمية الثانية كان يحمل وعدا واضحا هو الحد من الانزلاق إلى الحرب عبر مؤسسات، وعبر ميزان ردع مضبوط، وعبر فكرة أن الشرعية لا تنبع فقط من القوة بل من القاعدة التي تنظّمها. اليوم تبدو هذه القاعدة أقل قدرة على العمل كمرجعية واحدة. ليس لأن البشر صاروا أكثر ميلا للعنف، بل لأن السياسة الدولية عادت إلى سؤالها العاري: من يضمن؟ ومن يردع؟ ومن يملك القدرة على فرض معنى «الشرعية»؟ 

في هذا المناخ، يصبح ارتفاع عدد الصراعات مؤشرا بنيويا على عدم جدوى آليات الاحتواء وعلى وأن «الكلفة الإنسانية» وحدها لم تعد تصنع إكراها سياسيا كافيا لوقف التصعيد. ومع تزايد النزاعات تتضخم ميزانيات التسلح. وهنا يُقال الكثير عن سباق السلاح، لكن المسألة أعمق، فالسلاح ليس فقط استعدادا للقتال، إنه إعلان عن انهيار الثقة في التعهدات والقواعد. والدولة التي تدفع أكثر للسلاح تقول ضمنيا إنها لا تتوقع أن المؤسسات الدولية ستحميها حين تتعرض للخطر، ولا تتوقع أن القاعدة وحدها ستردع خصومها. 

وهنا يتغير معنى الأمن من مفهوم تُديره المؤسسات إلى مفهوم يُديره الشك. وما يقوله الشك دائما هو أن كل دولة ستبحث عن ضمانها الخاص، ولو على حساب ضمان الآخرين. هذه هي البذرة الأولى لأي نظام متشظ : فقدان الثقة في المركز. 

حين تتحول القواعد إلى تفاوض دائم 

لا تتجلى أزمة النظام القديم في توقف التجارة العالمية؛ التجارة تستمر لأن السوق حاجة وليست فكرة. الأزمة تتجلى في شيء أكثر دقة وهو تراجع قابلية إنفاذ القواعد. عندما كانت منظومة التجارة العالمية في أوج قوتها، كانت تمتلك ما يشبه «قضاء» دوليًا يحسم النزاعات ويمنح الاقتصاد لغة قانونية مشتركة. ومع تعطل هذا الأمر تتحول القواعد إلى تفاوض دائم، وتتحول الخلافات إلى ضغط سياسي، وتصبح الدول الصغيرة أكثر هشاشة لأنها تفتقر لأدوات الردع التجاري. 

وتظهر هنا حلول جزئية مثل اتفاقات تحكيم بديلة، وتفاهمات داخل مجموعات، وترتيبات «لمن يريد». في الظاهر يبدو الأمر إصلاحا عمليا لكنه في الجوهر هو مؤشر على أن العالم ينتقل من «قاعدة واحدة للجميع» إلى «قواعد متعددة» بحسب الكتل والقدرات. وهذا تحول خطير لأنه يغيّر روح العولمة؛ فالعولمة القديمة كانت تُغري بفكرة السوق المفتوحة تحت مظلة قانون عالمي. أما العولمة الجديدة ـ إن جاز التعبير ـ فهي عولمة انتقائية: اندماج هنا، وانفصال هناك؛ انفتاح في السلع، وتقييد في التكنولوجيا؛ تعاون في الاستثمارات، وتسييس في سلاسل الإمداد. 

وهكذا يصبح الاقتصاد أقل شبها بسوق عالمي واحد، وأكثر شبها بشبكة أسواق مترابطة لكن غير متساوية في القواعد. 

السياسة تستوطن الاقتصاد 

وإذا أردت أن ترى صورة النظام الجديد بوضوح، انظر إلى العقوبات. كانت العقوبات تاريخيا استثناء، وتُستخدم ضد حالات بعينها، وتُرفع حين يتحقق هدف سياسي، وتبقى محكومة بفكرة «الظرف». أما اليوم فقد تحولت إلى بنية، فتوسعت القوائم، وتضخم الامتثال، وأصبح الاقتصاد العالمي يعيش في ظل شبكة محظورات تُعيد رسم العلاقات لا بين الدول فقط، بل بين الشركات والبنوك والتكنولوجيا. 

والعقوبات في هذا السياق هندسة، هي التي تقرر أي تكنولوجيا يمكن أن تنتقل، وأي أموال يمكن أن تعبر، وأي تجارة تصبح محفوفة بالمخاطر. وهي تخلق «مناطق ظل» في الاقتصاد العالمي. 

وحين تصبح العقوبات بنية دائمة، يتحول الاقتصاد إلى مسرح ردع سياسي. وهذا يغيّر معنى السيادة. 

أزمة شرعية قبل أن تكون أزمة قوة 

كان النظام الليبرالي الدولي يتغذى، جزئيًا، من فكرة أن القوة الغربية ليست قوة مادية فقط، بل قوة معيارية: حقوق إنسان، حريات، حكم قانون، مؤسسات. لكن هذا الغطاء الأخلاقي تضرر على نحو عميق. في الداخل الغربي هناك استقطاب حاد، وتراجع في الثقة بالمؤسسات، وتنامي الشعبوية، وموجات تشريعية وإجرائية تثير أسئلة عن الحريات والرقابة. وفي العالم الأوسع، تتراجع الديمقراطية في دول كثيرة، وتستعيد «الدولة الأمنية» مكانتها كحل سريع للفوضى. 

منصات موازية أم عالم جديد؟ 

يبالغ الكثيرون في الحديث عن «نظام بديل» جاهز. لا توجد حتى الآن سلطة عالمية جديدة تحل محل المنظومة القائمة. ما يوجد هو تكاثر منصات تسعى لتعديل التوازن، مجموعات تتوسع، وأطر تعاون بين دول الجنوب، وتفاهمات مالية وتجارية، ومحاولات لإعادة توزيع النفوذ داخل المؤسسات القائمة أو خارجها. هذه الحركات لا تصنع نظاما واحدا، لكنها تصنع تعددا في مراكز الشرعية. 

من «القواعد» إلى «إدارة المخاطرة» 

إذا أردنا اختزال التحول الجاري في عبارة واحدة، فهي هذه : العالم ينتقل من منطق النظام» إلى منطق «إدارة المخاطر». فالنظام يفترض قاعدة عامة تُطبق على الجميع، ولو بتفاوت. أما إدارة المخاطر فتفترض أن القاعدة نفسها غير كافية، وأن كل دولة وكل شركة وكل مجتمع ينبغي أن يبني خطة نجاة خاصة. 

لهذا تعود مفاهيم كانت تبدو قديمة: السيادة الاقتصادية، الأمن الغذائي، أمن الطاقة، التصنيع المحلي، التحكم في البيانات، حماية التقنية. وهذه المفاهيم لا تعود لأن الناس يحنّون للماضي، بل لأن العولمة حين تتسيّس تصبح مصدر قلق لا مصدر طمأنينة. 

وفي هذا التحول تتغير أيضًا طبيعة التحالفات. التحالفات لم تعد كتلا صلبة طويلة الأمد بالضرورة؛ باتت كثير منها تحالفات «ملفّية»، تتقارب الدول في الطاقة وتختلف في الأمن، وتتقارب في التجارة وتتباعد في القيم، وتتشارك في التكنولوجيا وتتصارع في الجغرافيا. 

ماذا يعني هذا لعام 2026؟ 

يبدو السؤال الحقيقي الآن ليس، هل انتهى النظام القديم؟ ولكن هل سيتحوّل التشظي إلى قاعدة مستقرة أم إلى فوضى متسارعة؟ يمكن رصد ذلك عبر أربعة مسارات: 

1-عودة الإلزام المؤسسي: هل تستعيد المؤسسات قدرتها على فرض قواعد مشتركة أم يستمر الالتفاف عليها بحلول جزئية؟ إذا استمر الالتفاف، فذلك يعني أن «النادي داخل النادي» صار شكلا دائما للحكم العالمي. 

2-منحنى الصراعات: هل يتراجع عدد بؤر النزاع أم يتزايد؟ لأن الحرب ليست حدثًا أمنيًا فقط؛ إنها ماكينة تدمير للقواعد، ومنتج مباشر للتشظي. 

3-تسييس التكنولوجيا والمال: هل تتوسع القيود التقنية والمالية أم يظهر اتفاق على قواعد مشتركة للذكاء الاصطناعي وسلاسل الإمداد والبيانات؟ مستقبل النظام الجديد يتحدد كثيرًا في التكنولوجيا أكثر مما يتحدد في الخطب. 

4-الشرعية القيمية: هل تعود السياسة الدولية إلى معيار أخلاقي مقنع، أم يستمر تآكل الخطاب الحقوقي مع اتساع الفجوة بين القول والفعل؟ لأن نظامًا بلا شرعية قِيمية يتحول سريعًا إلى صراع دائم على تعريف الحق نفسه. 

العالم لم ينهَر.. لكنه لم يعد واحدا 

الخلاصة هي أن العالم لم يسقط في فراغ كبير، لكنه خرج من وحدته. المؤسسات القديمة لا تزال قائمة، لكن قدرتها على ضبط السلوك تتراجع. لا يوجد نظام عالمي جديد مكتمل، لكن هناك ولادة متقطعة لبنى بديلة، ومنصات موازية، واصطفافات متعددة. وما نسميه اليوم «نظاما جديدا» قد لا يكون نظاما على الإطلاق بالمعنى الكلاسيكي، بل حالة طويلة من التعايش بين قواعد متنافسة، ومراكز إلزام متداخلة، ومخاطر تُدار بدل أن تُحل. 

ربما كان هذا هو تعريف المرحلة، ليس نهاية التاريخ ولا بدايته، بل نهاية الوهم بأن العالم يمكن أن يحكمه قانون واحد، وبداية واقع تتفاوض فيه القوى على القواعد كما تتفاوض على الحدود. وفي هذا الواقع، لن تكون المسألة لمن يملك القوة فقط، بل لمن يملك القدرة على صياغة القاعدة، وتطبيقها، وإقناع الآخرين بأن لها معنى.