المنطقة.. والتحول مِن الإيديولوجيا إلى الاقتصاد
الاثنين / 8 / رجب / 1447 هـ - 20:31 - الاثنين 29 ديسمبر 2025 20:31
منذ الحملة الفرنسية التي قادها الفرنسي نابليون بونابرت (ت:1821م) بداية القرن التاسع عشر الميلادي على الشرق بعدما دخلت السلطنة العثمانية مرحلة الهرم المعروفة بـ«الرجل المريض»، حتى أعلن كمال أتاتورك (ت:1938م) موتها رسمياً بحلها وإقامة الدولة التركية الحديثة عام 1924م؛ خلال هذه المرحلة عرف المسلمون التحول الكبير الذي حدث في أوروبا، فأحدث لديهم ردة فعل بالعمل على تحديث مرافق الدولة وأنظمتها في تركيا ومصر وإيران. وتجديد الفكر الإسلامي الذي بدأ لدى مسلمي شبه القارة الهندية، ثم انتقل إلى مصر عبر جمال الدين الأفغاني (ت:1897م)، ليدشن تلميذه محمد عبده (ت:1905م) حركة الإصلاح الديني.
هذان الأمران غرسا بذور الأيديولوجيا الدينية لدى المسلمين؛ سواءً بالموقف السلبي مِن تحديثات المدنية الغربية التي لم يعرفها المسلمون إلا بمدافع الاستعمار وسفن نهب ثرواتهم، أم بالموقف الإيجابي عبر تجديد الفكر الإسلامي، ومحاولة النهوض بالأمة الإسلامية.
لقد أنعشت الحملة هذا الجسد الخامل ـ ورُبَّ ضارةٍ نافعة ـ خلال القرن التاسع عشر الميلادي، ليدخل المسلمون طور الانبعاث في القرن العشرين.
بدايةً دعم الغرب ممثلاً ببريطانيا العرب للتحرر مِن الخلافة العثمانية، ثم وجدوا أنفسهم بعد انكشاف نواياه الاستعمارية أنَّ عليهم التحرر مِنه، ومقاومة مدنيته التي جاءت لتكتسح ثقافتهم، فانبعثت لديهم إيديولوجيتان: العروبية متمثلة في البعث العربي والقومية العربية، وقد انتهت القومية باكراً عام 1970م، وانتهى البعث بشقيه -العراقي عام 2003م، والسوري عام 2024م- نهاية مأساوية. والإسلام السياسي الذي تصاعد مِن حركة إصلاح حتى العنف ببعض توجهاته، وتعتبر الإخوان المسلمون أوسع حركاته انتشاراً وتنوعاً في طرق الوصول إلى الحكم، وأنجحها ولاية الفقيه في إيران، بيد أنَّه قد أدى المُراد مِنه وانتهت صلاحيته.
إنْ كان الإسلام السياسي والقومية العربية قد نبتا في التربة العربية وبيئتهما الإسلامية فإنَّه كان في الساحة لاعب آخر غريب أقوى حيلةً وأشد عنفاً، وهو الشيوعية. فبانتصار الثورة البلشفية عام 1917م في روسيا تمددت الشيوعية عبر الاتحاد السوفييتي والصين، لينضوي تحتها كثير مِن الدول.
وقد وصلت إلى الحكم في بعض الدول العربية سواء بالانتخابات أم الانقلابات، وأخطر ما حصل هو اقتراب الشيوعية مِن منابع النفط العربي ما حدا بالسياسة الغربية أنْ تعجّل في بناء استراتيجية تمكّن إيران الشاهنشاهية، وتدعم الإسلام السياسي؛ لمواجهة الشيوعية والقومية معاً. وقد نجحت الاستراتيجية في القضاء على القومية التي انتهى زخمها بموت جمال عبدالناصر عام 1970م، وعلى الشيوعية بتفكك الاتحاد السوفيتي عام 1990م، وكانت إحدى أدوات التفكيك تبني «الصحوة الإسلامية»، وحشد الشباب المسلم لحرب السوفييت في أفغانستان، في عقد الثمانينيات مِن القرن العشرين الميلادي.
هذه التحولات الدراماتيكية المتسارعة والمتشابكة أدخلت المنطقة في صراع مذهبي عنيف راح ضحيته آلاف البشر، ووصل لهيبه إلى حواف أمريكا بضرب مصالحها في العالم ما أدى بها أنْ تتبنى «النظام العالمي الجديد» فارضة به الديمقراطية الغربية. غير أنَّ هذا النظام واجه تحديين عميقين: تجذّر إيديولوجيا الإسلام السياسي الرافض للديمقراطية الغربية، وإنْ قَبِل بعضه بصندوق الانتخابات. وقد استند الرفض على الممارسات الغربية منذ الاستعمار الغربي إلى الليبرالية الأمريكية التي ساست العالم بالإفقار والنار، بدءا مِن صندوق النقد الدولي، وانتهاءً بالحروب المدمرة. وتشبث الحكومات بأنظمتها غير الديمقراطية ما جعلها تتوجس مِن سياسات أمريكا في دعم التحول الديمقراطي.
لم تنتهِ المعركة كما أرادتها أمريكا، وإنَّما ازدادت أواراً حتى وصلت إلى قلبها بغرفتيه: العسكرية «البنتاجون» والاقتصادية «برجي التجارة» بهجمات 11 سبتمبر 2001م ما أثار غضبها ونزلت بترسانتها الهائلة مدمرةً أفغانستان والعراق.
واليوم نتيجة انكشاف جوانب مِن الأحداث ونشر بعض وثائقها ظهر أنَّ المقصود ليس هذين البلدين وحدهما، وإنَّما أيضاً إلقاء الرعب في دول المنطقة. ومع ذلك؛ فقد واصلت أمريكا عبر أذرعها الإعلامية تهييج الشعوب على أنظمتها، حتى انفجرت بأحداث الربيع العربي أواخر 2010م، لتدخل حقبة جديدة مِن الصراع، وتحدث تحولاً جذرياً ليس على نطاق تغيير الخارطة السياسية فحسب، وإنَّما أعمق مِن ذلك بتغيير الخارطة الديموغرافية؛ بحيث أدت الأوضاع إلى انهيارات في بُنى الاجتماع القديمة.
أدت الأوضاع كذلك إلى تغيّر المفهوم السياسي لإدارة الدولة؛ فقد انتهت العقيدة السياسية القائمة على الإيديولوجيا الدينية والقومية، وأصبحت تقوم على الاقتصاد. ويبدو أنَّ أنظمة المنطقة والغرب لاسيما أمريكا قد توافقوا على هذه السياسة، ويمكن أنْ نقرأ تجلياتها في إدارة الرئيس الحالي دولاند ترامب الذي عقد صفقات بترليونات الدولارات مع بعض الحكومات الخليجية.
والسؤال: ألا يُعد الاقتصاد هو الآخر أيديولوجيا؟ إنَّ الاقتصاد وفقاً للمفهوم الجديد ليس مجرد منظومة بيع وشراء وتبادل مصالح اقتصادية بين الأطراف، وإنَّما هو شبكة معقدة وضخمة مِن المعاملات والاتفاقيات لبقاء الدول وأنظمتها، ولهيمنة الشركات الكبرى العابرة للقارات، ويأتي الإنسان ليس بوصفه محور التنمية الاقتصادية، وإنَّما بكونه مستهلكاً ما تنتجه هذه الشركات المحروسة بقوة الدول. إنَّه جندي غير حر في المعركة الكونية الناعمة المسماة بالسوق الحر لا يتلقى الأوامر بوحي من المعتقدات، وإنَّما بدافع من الرغبات. إيديولوجيا رصاصها الفتاك هو الدولار الذي يُقبِل عليه الجميع برضى كإقبال الفراش على النار.
إنَّ التحول مِن إيديولوجيا الدين والقومية إلى الاقتصاد يعتبر طوق النجاة لدى دول المنطقة؛ فهو الطريق إلى استقرارها وازدهارها، وهو ما يرضي شعوبها الغرثى إلى لقمة العيش الكريمة، والمحتاجة إلى بناء حياتها المحطمة. لقد أدت الأوضاع بالشعوب إلى الكفر بالأيديولوجيات السابقة. إنَّ ما تريده الشعوب هو الحياة الطبيعية المتمثلة في مصدر الدخل الضامن للمعيشة، والبيت وتكوين الأسرة والتعليم والصحة، وهذا ما تبشر به الحكومات شعوبها بعد خمسين عاماً مِن الممارسات الأيديولوجية القاتلة. في ظل الدولة الوطنية المهتمة بنفسها فقط -دون طموحات قومية عربية وعالمية إسلامية- سيعاد بناء الإنسان ثقافياً ونفسياً، وسيعاد كذلك تأويل مقولات الدين وتشريع القوانين بما يخدم مفهوم الدولة الجديدة التي ترسخ وجودها.
وبعد؛ فهل التحول القادم هو تحقيق حلم «المدينة الفاضلة والإنسان الكامل»، كما تبشر به الأنظمة شعوبها في انتقالها نحو اقتصاد قوي واستثمار مستدام؟!
يقول التاريخ قولاً فصلاً: إنَّه لا وجود للمدينة الفاضلة والإنسان الكامل. إنَّ هذا التحول الذي تمضي فيه دول المنطقة ساحبة معها شعوبها يجب أنْ تحذر منه، ليس برفضه؛ فهو عصب الحياة، لكن عليها أنْ تعلم بأنَّ التحول ليس بريئاً لتُحْسِن الظن به، ولا بسيطاً لتعالجه بمرهم القروح. وإنَّما تقبع وراءه استراتيجيات دولية بعيدة المدى في إطار مِن الصراع على البقاء. إنَّها غابة لا يرحم القوي فيها الضعيف، ولا الذكي الحاذق البليد الغافل فيما يستلزمه التحول مِن فواتير باهظة الثمن في الهُوية والدين واللغة، وقَبْلها الإنسان ذاته.
ينبغي لساسة دول المنطقة أنْ يُخضِعوا التحول للفحص بأدوات علمية منهجية مِن قِبَل خبراء مختصين ومراكز اقتصادية علمية وطنية؛ فالمنطقة وإنسانها غير قادرين على خوض تجربة مؤلمة جديدة. ولا ينبغي كذلك إغفال الشروط الموضوعية للتحول، والأوضاع الاجتماعية السائدة بالبلاد، وأهمها الدين. إنَّ الدول التي تتبنى التحول الذي يغفل عن الدين، أو تعمل على تأويل نصوصه بما يخدم تطلعاتها الاقتصادية تجهّز لنفسها قنبلة موقوتة قد لا نعلم زمن انفجارها، لكنها ستنفجر عاجلاً أم آجلاً.
إنَّ الإنسان ليس فماً يبلع فقط، ولا رقماً مالياً متحركاً، وإنَّما هو عقل يفكر وقلب ينبض، وهذا أهم وأخطر؛ فإنْ لم تُتح له الفرصة أنْ يعمل تحت ضوء الشمس مشاركاً في اتخاذ القرار الذي يمسه فإنْ للفكرة أنفاقها التي تسلك فيها مبتغاها، وقد تكون النتيجة لا يحمد عقباها.