ثقافة

باحثون يؤكدون ضرورة الجمع بين السرد الرسمي والذاكرة الشعبية لإنتاج تاريخ وطني أكثر عمقا وعدالة

استطلاع - فيصل بن سعيد العلوي

 

إشكالية كتابة التاريخ .. من يملك حق رواية الماضي؟ 

د. ياسر عبدالوهاب:كتابة التاريخ ضمن رؤية متعددة الأبعاد تجمع بين الحدث السياسي والتجربة الاجتماعية -

د.ناصر السعدي: التاريخ الرسمي ليس زائفا لكنه ناقص ما لم يُنصت لأصوات المجتمع -

سالم الكثيري: الذاكرة الشعبية ليست بديلا عن السرد الرسمي بل امتداد إنساني له -

د.سالم النبهاني: دراسة التاريخ لا يمكن أن تكتمل بالاعتماد على مصدر واحد - 

د.هيفاء المعمرية: إعادة التوازن إلى التاريخ تبدأ من استعادة أصوات المهمشين وقراءته من أسفل -

بينما تنشغل الدراسات التاريخية التقليدية بمناقشة أدوات التوثيق وموثوقية المصادر يضع هذا الاستطلاع القارئ أمام سؤال جوهري طالما ارتبط بمفهوم التاريخ نفسه: من يملك الحق في رواية الماضي؟ ليفتح النقاش حول السلطة التي تتحكم في السرد، وكيف يمكن لصوت المجتمع وذاكرته الحية أن يعيد التوازن إلى كتابة التاريخ؛ فالتاريخ لا يُعاد إنتاجه فقط من خلال الوثائق، بل من خلال وجهة النظر التي تكتب وتختار وتقصي، وهنا تكمن الإشكالية الكبرى بين رواية السلطة التي تُشرع ذاتها عبر النصوص، ورواية المجتمع التي تسعى إلى استعادة حقها في الحضور والتمثيل.

من هذا المنطلق يناقش عدد من الباحثين العمانيين والعرب في هذا الاستطلاع إشكالية كتابة التاريخ بين رواية السلطة ورواية المجتمع مستعرضين العلاقة المعقدة بين الخطاب الرسمي والذاكرة الشعبية، وكيف تؤثر الفئات المهمشة وصوت الناس العاديين في إعادة تعريف الحدث التاريخي. إنه نقاش لا يتعلق بالمنهج، بل بمن يملك سرد الحقيقة، ولا يبحث في الوثيقة كمصدر، بل في الوعي الذي يكتبها ويؤولها، ليعيد طرح السؤال الأهم: هل يمكن كتابة تاريخ عادل إذا ظلّ الصوت الأعلى للسلطة وحدها؟

حول إشكالية كتابة التاريخ بين رواية السلطة ورواية المجتمع، يرى الدكتور ياسر مصطفى عبدالوهاب أستاذ مشارك في قسم التاريخ بكلية الآداب والعلوم الاجتماعية بجامعة السلطان قابوس أن هذه القضية تمثل واحدة من أعقد القضايا التي تواجه المؤرخ الأكاديمي المعاصر، إذ يجد نفسه في حيرة دائمة بين ما تطرحه الرواية الرسمية من سرديات موثقة، وبين ما تحفظه الذاكرة الجمعية من حكايات ورؤى تنتمي إلى صوت المجتمع وتعبّر عن معاناته وآماله. ويقول إن السؤال الجوهري في هذا السياق هو: من يكتب التاريخ؟ وهل يمكن للتاريخ أن يُروى من وجهة نظر السلطة المنتصرة وحدها، أم ينبغي أن يُصغى أيضا إلى صوت الناس الذين صنعوا الحدث وعايشوه؟.

ويشير «عبدالوهاب» إلى أن الرواية الرسمية تُكتب غالبا برعاية الدولة أو السلطة السياسية، وأحيانا الدينية، من خلال تسليط الضوء على المعارك الكبرى والإنجازات العامة. وتكمن أهمية هذا النوع من السرد في كونه يمد المجتمع بذاكرة مشتركة تستند إلى ما كتبه المؤرخون الرسميون أو الكتّاب المقربون من دوائر القرار، إلا أن هذه الرواية قد تتحول أحيانا إلى صوت أحادي للسلطة، يعكس وجهة نظرها بعد إقصاء الأصوات الأخرى التي لا تتفق معها، مما يجعلها أقرب إلى أداة لتثبيت الشرعية السياسية أو الدينية منها إلى سجل موضوعي للأحداث.

وفي المقابل، يرى أن السرد الشعبي أو رواية المجتمع يصدر عن الناس العاديين، ويعبر عن ذاكرتهم الجمعية ونظرتهم إلى البطولة والكرامة، وهو بذلك لا يسعى إلى الدقة العلمية بقدر ما يهدف إلى حفظ التجربة الإنسانية وتخليد رموزها. وغالبا ما يكون هذا السرد ناقدا للسلطة أو مُمجدا لأبطال من الشعب، لكنه في الوقت نفسه عرضة للمبالغة والانفعال، إذ تغلب عليه المشاعر على حساب التوثيق، فيفقد أحيانا دقته التاريخية رغم ما يحمله من صدق وجداني.

ومن هنا تبرز الإشكالية التي يطرحها الباحث بوضوح: كيف يمكن للمؤرخ الأكاديمي أن يحرر التاريخ من هيمنة الرواية الرسمية دون أن يسقط في فوضى السرديات المتعددة والمتناقضة؟ ويجيب بأن الحل يكمن في الجمع بين الاتجاهين ضمن رؤية نقدية واحدة، بحيث تُستفاد الرواية الرسمية بوصفها مصدرا يقدم المادة الموثقة من سجلات الدولة وبياناتها، في حين تُسهم الرواية الشعبية في الكشف عن التجارب الإنسانية وما اختزنته الذاكرة الجمعية من قصص وحكايات تعكس وعي المجتمع ووجدانه.

ويؤكد أن الرواية الرسمية كثيرا ما تُغفل -عن قصد أو بغير قصد- معاناة العامة أو تُهوِّن من تقصير الحكام، بينما يسلط السرد الشعبي الضوء على تلك الجوانب الإنسانية التي تُكمل الصورة، وتمنح التاريخ بعده الإنساني. ومن خلال الجمع بين المنهجين، يتمكن المؤرخ من تجاوز محدودية المصادر الرسمية من جهة، وفوضى السرديات الشعبية من جهة أخرى، ليعيد بناء التاريخ ضمن رؤية متعددة الأبعاد تجمع بين الحدث السياسي والتجربة الاجتماعية، وتقترب بالتالي من الحقيقة بقدر ما تسمح به أدوات العلم ووعي المؤرخ بذاته وموقعه من الحدث.

رؤية أحادية

وحول السؤال المتعلق بمدى اكتمال التاريخ الذي تكتبه السلطة أو المنتصر، يرى الباحث الدكتور ناصر السعدي أن هذا النوع من التاريخ ليس بالضرورة خطأ أو زائفا، لكنه في الغالب يعبر عن رؤية أحادية تنطلق من منظور القوة والهيمنة، فيتحول إلى سجل يعبّر عن صوت السلطة وحدها وما يرتبط بها من صراعات وتفاعلات سياسية، متجاهلا في كثير من الأحيان الجوانب الاجتماعية والثقافية والإنسانية التي تشكل جوهر التجربة التاريخية.

فحين تُكتب الأحداث بأقلام المنتصرين، فإنها تميل بطبيعتها إلى إبراز ما يعزز صورة السلطة ويكرس شرعيتها، بينما تُهمّش أو تُقصى الأصوات الأخرى التي لا تتفق مع هذا الاتجاه، وبذلك يفقد التاريخ جزءا من اتساعه الإنساني ويتحول إلى رواية ناقصة لا ترى إلا من زاوية واحدة. ويشير «السعدي» إلى أن غياب صوت المجتمع والفئات المهمشة يفضي إلى فقدان التوازن في السرد التاريخي، إذ تُختزل التجربة الإنسانية في بعدها الرسمي، وتُهمّش القصص اليومية والتفاصيل التي تنقل معاناة الأفراد وما عاشوه من تحولات.

ويرى أن هذا النقص لا يعني بالضرورة أن التاريخ الرسمي مزيف، بل أنه غير مكتمل؛ لأنه يستبعد جزءا كبيرا من الذاكرة الشعبية التي تحفظ روايات المجتمع وتعبّر عن إحساسه بالزمن والأحداث. فالتاريخ في جوهره ليس مجرد توثيق للوقائع، بل هو أيضا إعادة بناء للوعي الجمعي الذي تشكله الأصوات المتعددة داخل المجتمع. ويضيف «السعدي» أنه في الحالة العمانية لا يمكن القول إن التاريخ كتب بالكامل من قبل السلطة، وإن كان التاريخ الذي وصل إلينا هو في معظمه تاريخ السلطة وتعاقبها وصراعاتها، وهو النمط الذي ظل سائدا إلى اليوم في كثير من الكتابات التاريخية؛ حيث جرى التركيز على الأحداث السياسية وسير القادة والزعامات، بينما بقيت الجوانب الاجتماعية والثقافية أقل حضورا في التدوين التاريخي.

ومع ذلك، يؤكد أن التراث العماني يمتلك مخزونا معرفيا ثريا يمكن أن يسهم في إعادة تشكيل الكتابة التاريخية وإضفاء التوازن عليها، يتمثل في المصادر الأدبية والفقهية، إلى جانب الذاكرة الشفوية التي تحتفظ بتفاصيل دقيقة وأساليب سردية متنوعة تسهم في إنعاش الصورة التاريخية العامة. ويرى الدكتور ناصر السعدي أن الحل لا يكمن في رفض التاريخ الرسمي أو في تبني الروايات البديلة بشكل مطلق، بل في الجمع النقدي بينهما من خلال منهج تاريخي يقوم على التوازن والتحليل، بحيث تُفحص الوثيقة الرسمية إلى جانب المصادر الأخرى والروايات الشفوية لإعادة بناء الماضي بصورة أكثر شمولية وإنصافا.

تحديات العلاقة

وحول العلاقة بين السرد الرسمي للتاريخ والذاكرة الشعبية، يرى الباحث سالم بن أحمد الكثيري أن هذه العلاقة تمثل أحد التحديات الجوهرية في كتابة التاريخ العماني، إذ إن السرد الرسمي عادة ما يُكتب من منظور الدولة أو السلطة، في حين تعبّر الذاكرة الشعبية عن رواية المجتمع وما تختزنه من تفاصيل الحياة اليومية ومواقف الأفراد والجماعات التي قد تغيب عن الوثائق الرسمية. ويشير إلى أن التاريخ الرسمي يميل إلى التركيز على الجوانب السياسية والمؤسسية، بينما تمثل الذاكرة الشعبية خزان التجربة الإنسانية بكل ما تحمله من معاناة وأفراح وأشكال تعبير فطرية لا يمكن تجاهلها عند كتابة تاريخ متكامل لعمان.

ويؤكد «الكثيري» أنه لا يمكن القول بوجود تعارض حاد بين الروايتين في الحالة العمانية، غير أن هناك فجوة واضحة في مستوى التمثيل، فالسرد الرسمي غالبا ما يركّز على المحطات الكبرى كتوحيد البلاد والنهضة الحديثة والعلاقات الدبلوماسية والبناء المؤسسي والتاريخ السياسي العام، بينما تحتفظ الذاكرة الشعبية بتفاصيل أخرى تشكل روح المجتمع، مثل: الأهازيج والحكايات والممارسات الثقافية وطرائق العيش، وهي عناصر تمثل في مجموعها ملامح الهوية العمانية وتعبّر عن الوجدان الجمعي للناس في مختلف البيئات.

ويستشهد «الكثيري» بتاريخ محافظة ظفار مثالا واضحا لهذه الفجوة، موضحا أن محافظة ظفار تمتلك إرثا تاريخيا عميقا أسهم في تشكيل العمق التاريخي لعمان، من خلال دورها في تجارة اللبان وصلاتها القديمة مع الصين والهند وشرق إفريقيا، وهو الدور الذي جعل ذاكرتها التاريخية غنية بالأحداث والقصص والموروثات الشعبية. ومع ذلك، فإن السرد الرسمي «كما يشير» اكتفى في كثير من الأحيان بذكر هذه الأدوار في عناوين عامة دون التعمق في سرديات الناس أنفسهم، ودون الاقتراب من الأسئلة التي تكشف التجربة الحية مثل: كيف عاشوا؟ وكيف عبّروا عن مواقفهم؟ وكيف تأثروا بالأحداث وتفاعلوا معها؟.. ويضيف: إن الأغاني الشفوية والحكايات المتناقلة والنقوش الصخرية والأشعار المحلية تمثل طبقة موازية من التاريخ لا تقل أهمية عن الوثيقة الرسمية، إذ تختزن في طياتها تفاصيل دقيقة عن حياة الريف ومواسم الخريف والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية العابرة للحدود، وهي تفاصيل نادرا ما تُذكر في السرد المؤسسي. ويؤكد أن هذه الذاكرة الشعبية ليست بديلا عن السرد الرسمي، لكنها تكمله وتمنحه بعده الإنساني الذي لا توفره الأرشيفات والوثائق وحدها.

ويخلص «الكثيري» إلى أن إعادة التوازن في كتابة التاريخ العماني تقتضي تكاملا حقيقيا بين السردين الرسمي والشعبي، لا مفاضلة بينهما؛ لأن التاريخ لا يُكتب فقط بما هو موثق في الأرشيفات، بل أيضا بما عاشه الناس وتركوه من بصمات في وجدانهم الجمعي، وأن اللحظة الراهنة تمثل فرصة ثمينة لتعزيز هذا التكامل، خاصة مع تنامي الدراسات النقدية وتوسع جهود توثيق الرواية الشفوية، وتوجه المؤسسات الثقافية والعلمية نحو عقد الندوات والمؤتمرات المتخصصة التي تسعى إلى سد هذه الفجوة، وتقديم سرديات أكثر تنوعا وشمولا، تنصف الإنسان وتعرض تجربته في سياق التحولات الكبرى التي عاشها المجتمع العماني.

تعدد المصادر

يرى الباحث الدكتور خالد بن حمد الهنائي أن دراسة التاريخ لا يمكن أن تكتمل بالاعتماد على مصدر واحد أو صوت واحد، إذ تتعدد المصادر التي يستند إليها الباحث والقارئ في فهم الأحداث التاريخية والسياقات التي نشأت فيها، ويؤكد أن الروايات الشفوية والحكايات الشعبية، إلى جانب ما ورد في بطون كتب الأدب شعرا ونثرا، تمثل جانبا مهما ورئيسيا في قراءة التاريخ وفهم مساراته عبر العصور.

ويشير إلى أنه عند تناول أي مرحلة من مراحل تاريخ أي بلد، يمكن رصد طبيعة الأقلام التي تبنّت سرد الأحداث من منظور السلطة أو انسجمت مع رؤيتها، سواء بتوجيه مباشر أو نتيجة توافق غير معلن بين فكر الكاتب وخطاب السلطة، وهو ما يؤدي إلى صياغة النص التاريخي، أشعرا كان أم نثرا، بصورة متقاربة تكاد تبدو وكأنها كُتبت بقلم واحد. وفي المقابل، توجد روايات أخرى حملت رؤى مغايرة أو مخالفة، لكنها لم تُدوّن في الغالب، وبقيت محفوظة في الذاكرة الشفوية، متناقلة عبر الألسن جيلا بعد جيل، حاملة معها أجزاء من الحقيقة التي لم تجد طريقها إلى المصادر المكتوبة.

ويلفت «الهنائي» إلى أن هذه الروايات الشفوية، رغم أهميتها، تعرّض بعضها للاختزال أو التحريف بالزيادة أو النقصان، أو لتداخل الأحداث، نتيجة عدم تدوينها وحفظها في مصادر مكتوبة، وهو ما يفرض على الباحث التعامل معها بحذر منهجي، ومن هنا، يبرز دور المناهج العلمية في دراسة التاريخ، التي تُمكّن الباحث، من خلال أدوات نقدية دقيقة، من المقارنة بين ما دوّنته أقلام السلطة، وما احتفظت به الذاكرة الشعبية، ليعيد من خلال هذا التقاطع بناء تصور أقرب إلى الحقيقة التاريخية، ولو في إطار نسبي.

ويخلص «الهنائي» إلى أن الحكاية الشعبية والأدب لا يشكلان بديلا عن الوثيقة الرسمية، بل يضطلعان بدور تكميلي أساسي، يفتح أفقا أوسع لفهم التجربة الإنسانية، ويسهم في إعادة التوازن إلى الرواية التاريخية عبر الجمع بين السرد الرسمي وما عاشه المجتمع واحتفظ به في ذاكرته الجماعية.

تغييب الأصوات

وحول تأثير تغييب أصوات المجتمع والفئات المهمشة في كتابة التاريخ، ترى الباحثة الدكتورة هيفاء المعمرية أن هذا التغييب يؤدي إلى خلل عميق في الصورة التاريخية والوعي الجمعي الذي يتكون من خلالهما، إذ إن إقصاء شرائح واسعة من المجتمع كالنساء والفقراء والحرفيين والمناطق البعيدة عن المركز لا يعني فقط إسكات أصواتهم، بل محو جزء أصيل من التجربة الإنسانية التي تشكل جوهر التاريخ. وتشير إلى أن لهذا التغييب جملة من النتائج التي ينبغي التوقف عندها مليا، أولها تقديم صورة ناقصة للتاريخ؛ حيث يبدو وكأنه حكاية النخبة وحدها من حكام وقادة عسكريين وتجار كبار وغيرهم، فيما تُغيب الحياة اليومية وتجارب الناس العاديين الذين يصنعون في الواقع نسيج التاريخ الحقيقي. أما النتيجة الثانية فهي تشويه الذاكرة الجماعية؛ لأن تهميش أصوات المجتمع يحرم التأريخ من التنوع ويؤدي إلى ترسيخ رؤية أحادية.

وتضيف أن النتيجة الثالثة هي فقدان العدالة التاريخية، إذ تُمحى الفئات المهمشة من السرد وكأنها لم تكن جزءا من الماضي، رغم أن وجودها أساسي لفهم تطور المجتمعات وسياقاتها الاجتماعية في تلك الحقب.

وفي ما يتعلق بإمكانية إعادة كتابة التاريخ من أسفل، تؤكد «المعمرية» أن ذلك ممكن بل وضروري إذا ما أُريد للتاريخ أن يكون أكثر إنصافا وتوازنا. وتشير إلى أن هذا الاتجاه يُعرف في الدراسات الحديثة باسم «التاريخ الاجتماعي» أو «التاريخ من أسفل»، وهو منهج يركز على استعادة صوت المجتمع وتمكين الذاكرة الشعبية من أن تكون جزءا من السرد التاريخي الرسمي. وتوضح أن في سلطنة عمان جهودا قائمة في هذا المجال، من بينها جمع الروايات الشفوية وتسجيل قصص كبار السن عن حياتهم السابقة، وتوثيق الأغاني الشعبية والحرف والصناعات التقليدية والموروثات الاجتماعية المرتبطة بالمناسبات مثل: الزواج والولادة وغيرها، وهي جهود تسهم في حفظ التاريخ غير المكتوب وإعادته إلى الوعي العام.

وتشير إلى أن الباحثين في التاريخ الاجتماعي يمكنهم الإفادة من مصادر متنوعة لإعادة بناء هذا التاريخ، منها السجلات والوثائق الرسمية كسجلات المحاكم الشرعية التي تُظهر نزاعات الناس وعقود البيع والشراء والمواريث، وكذلك الرسائل الخاصة وعقود المزارع التي تقدم لمحة عن حياة القرى و«القبائل» في فترات زمنية مختلفة. كما يمكن الرجوع إلى الأدب الشعبي الذي يعكس روح المجتمع ووعيه، فالأمثال والشعر الشعبي يعدان مرآة دقيقة للحياة اليومية ولفهم الناس لعالمهم في تلك الأزمنة.

وتضرب «المعمرية» أمثلة واضحة من التاريخ العماني لتوضيح مظاهر التهميش، منها تغييب دور النساء في المصادر التاريخية رغم أن لهن حضورا فاعلا في الزراعة والحرف ورواية الشعر الشعبي، وهو ما يجعل من هذه الروايات مدخلا لإعادة إبراز «التاريخ من أسفل»؛ لأنها تعبّر عن الحياة اليومية بصدقها وتفاصيلها الصغيرة. كما تشير إلى أن الحرف اليدوية تمثل مجالا آخر من مجالات التهميش، فالتاريخ العماني ركز طويلا على التجارة البحرية والإمبراطورية العمانية في شرق إفريقيا، بينما لم يُعط الاهتمام الكافي لحياة البدو في الصحراء والمزارعين في القرى وكيف نظموا مواردهم المائية عبر الأفلاج وتعاونوا جماعيا في مواجهة الطبيعة، رغم أن هذه الجوانب تشكل جزءا أساسيا من الهوية الثقافية العمانية.

وتختتم الدكتورة هيفاء المعمرية بالقول إن إعادة التوازن إلى كتابة التاريخ تستدعي التركيز على الفئات المهمشة بمختلف تنوعاتها، وقراءة التاريخ من أسفل بما يضمن تقديم صورة أكثر اكتمالا وعدالة، لأن التاريخ لا يمكن أن يُكتب من منظور السلطة وحدها، بل من تعدد الأصوات التي شكلت الوجود الإنساني وأسهمت في صنع الذاكرة الوطنية بكل ثرائها وتعقيدها.