أفكار وآراء

الذكاء الاصطناعي في العام الجديد

راشانا شانبهوج 

ترجمة: قاسم مكي 

على مدى ثلاثة أعوام انبهر العالم بذكاء نموذج الذكاء الاصطناعي للدردشة النصية «شات جي بي تي»، ومؤخرا جدا ذهل من إبداع «سورا» نظيره المولّد لمقاطع الفيديو. وتوقعا منها للتحول الذي يمكن أن يُحدِثه الذكاء الاصطناعي ضخَّت شركات التقنية الأمريكية الكبيرة 400 بليون دولار في مراكز البيانات ومكوِّنات بنيته التحتية الأخرى خلال عام 2025. 

ووفقا لأحد التقديرات سيتم إنفاق 7 تريليونات دولار بنهاية هذا العقد في استثمارات الذكاء الاصطناعي؛ مع ذلك تسجل الإيرادات المتحققة منه حتى الآن مبلغا ضئيلا لا يتعدَّى 50 بليون دولار في السنة، أو حوالي ثُمْن إجمالي الإيرادات السنوية لشركة آبل أو ألفابت. 

ومع تعوُّد العالم على الإنجازات التقنية للذكاء الاصطناعي يتحول التركيز إلى جوانب أخرى. ففي عام 2026 من المتوقع أن تسيطر عواقبه الاقتصادية والمالية والاجتماعية على اهتمام الناس. 

لنتناول الجانب الاقتصادي أولا. يستخدم حوالي 800 مليون شخصا حول العالم نموذج الدردشة «شات جي بي تي». ويقرُّ العديد من الموظفين في استطلاعات الرأي أنهم يستخدمون الذكاء الاصطناعي في العمل؛ لكن عدد المستخدمين لا يزال متواضعا إذا أحصينا الشركات التي تتبناه رسميا. 

فحسب مكتب الإحصاء بالولايات المتحدة تقول ما تزيد قليلا عن 10% من الشركات التي توظف أكثر من 250 شخصا أنها أدمجت الذكاء الاصطناعي في عملياتها الإنتاجية. ووجد استطلاع بواسطة معهد ماساشوستس للتكنولوجيا في يوليو أن 95% من المشاريع التجريبية للذكاء الاصطناعي بالشركات فشلت في توليد أي عائد على الإطلاق. 

نتيجة لذلك يركز جميع أصحاب رأس المال المغامر ورواد الأعمال وشركات التقنية العملاقة في منطقة وادي السيليكون الأمريكية على شيء واحد هو كيفية تسريع تبني الذكاء الاصطناعي بواسطة الشركات. فهنالك ثروة يمكن اكتسابها إذا أمكن للشركات وهي تضمين الذكاء الاصطناعي في عملياتها وتعزيز الإنتاجية. 

لقد ظهرت شركات ناشئة لمساعدة الشركات العاملة في صناعات معينة أو لتنفيذ عمليات محددة. على سبيل المثال تعمل منصة «هارفي للذكاء الاصطناعي» مع المحامين لتحليل أعداد كبيرة من العقود فيما تساعد منصة «سِيَرّا» الشركاتِ على استخدام الذكاء الاصطناعي في خدمة العملاء. حتى أوبن أيه آي وانثروبك وهما مختبرا الذكاء الاصطناعي الرائدان في العالم يخصصان بعض الخدمات لمساعدة الممولين أو الباحثين في علوم الحياة. لذلك سيكون معدل التبني الرسمي للذكاء الاصطناعي ومدى نجاح هذه الجهود مؤشرا مفتاحيا يجب الانتباه له في عام 2026. 

هذا مهم ليس فقط لتأثير الذكاء الاصطناعي على الإنتاجية والنمو الاقتصادي ولكن أيضا للازدهار المالي الهائل الذي يرتكز على نجاح هذه التقنية. فحسب بنك إنجلترا شكلت أسهم الشركات التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي ما يصل الى 44% من الرسملة السوقية لمؤشر ستاندارد آند بورز- 500 الأمريكي في أوائل أكتوبر. ومعدل أسعار أسهم سلّة شركات الذكاء الاصطناعي إلى أرباحها المستقبلية (وهذا مقياس لتقييماتها) مفرط في ارتفاعه إذ يصل إلى 31 مقارنة بمعدل 19 لأسهم شركات المؤشر في مجموعها. وإذا تسارع تبني هذه التقنية سيستمر المستثمرون في اعتقادهم بأن إفراطهم في الاستثمار وصبرهم عليه ستنتج عنهما في نهاية المطاف أرباح وفيرة. لكن أي مؤشر على أن مكاسب الذكاء الاصطناعي ستتباطأ أو لن تتحقق على الإطلاق سيقود إلى تراجعات حادة في تقييم أسهم شركاته. 

يوضح التاريخ أن التقنيات حتى المفيدة منها مثل: السكة الحديد أو الإنترنت اقترنت بها المغالاة في الإنفاق المالي (الاستثمار). وإذا حدث تصحيح في سوق الذكاء الاصطناعي (إعادة تقييم أسهم شركاته) ستترتب عنه تداعيات على اقتصاد أمريكا. 

لقد ساهم الاستثمار في مراكز البيانات وآثار الثروة الناجمة من الارتفاع المتسارع بسوق الأسهم في حجب أثر الرسوم الجمركية وانخفاض الهجرة وأوضاع عدم اليقين. (آثار الثروة مصطلح اقتصادي يُقصد به في هذه الحال إحساس الأفراد بالثراء نتيجة لارتفاع قيمة حيازاتهم من أسهم شركات الذكاء الاصطناعي مما يدفعهم الى زيادة انفاقهم وتحريك الاقتصاد- المترجم). لكن إذا تعثر ازدهار الذكاء الاصطناعي قد تختفي تريليونات الدولارات من ثروة العائلات الأمريكية. مسارعة الشركات الى استيعاب هذه التقنية من شأنها طمأنة المستثمرين. غير أن مخاطره تثير نوعا مختلفا من المخاوف يتعلق بتأثير الذكاء الاصطناعي على الوظائف. 

من أجل الحفز على تبني الذكاء الاصطناعي تسعى شركاته للدفع باتجاه استخدام روبوتات ذكية يمكنها أداء سلسلة من المهام بشكل شبه مستقل من البداية وحتى النهاية مثل العاملين البشر. لكنها تفعل ذلك على مدار الساعة (طوال اليوم) وبتكلفة أقل. 

تسويق الذكاء الاصطناعي بهذه الطريقة الجذابة لكي يكون بديلا مباشرا لمنتجي البرمجيات أو وكلاء خدمة الزبائن قد يكون أسهل استيعابا لمسؤولي الشركات. مثلا شركة «آرتيزان» الناشئة في سان فرانسيسكو أطلقت حملة إعلانية تدعو الشركات الى «الكف عن توظيف البشر». لكن من الصعب التفكير في طريقة أكثر فعالية من ذلك في إثارة السخط ضد الذكاء الاصطناعي واعتباره سارقا للوظائف ومهددا بإحلال العاملين. 

شرع بعض المعلقين سلفا في تحميل الذكاء الاصطناعي مسؤولية المعدلات العالية لبطالة الخريجين في أمريكا. لكن الأدلة على ذلك ضعيفة. فالبطالة وسط الخريجين ببساطة قد تعكس تحولا في طلب أصحاب العمل على المهارات. أو ربما نتيجة لاتجاهات سبقت تدشين نموذج الدردشة «شات جي بي تي» مثل إفراط شركات التقنية والخدمات المهنية في التوظيف أثناء الجائحة. 

توصلت بعض الدراسات، بما في ذلك دراسة أجراها مختبر «يال» للموازنة، إلى أن الذكاء الاصطناعي ليست له آثار مزعزعة في سوق العمل. ولم تجد دليلا على أن الصناعات «كثيفة» الذكاء الاصطناعي تستغني عن عدد أكبر من العاملين مقارنة بالصناعات الأخرى. 

وتشير «ازدهارات» التقنية في الماضي إلى أن المخاوف من البطالة الواسعة لا تتحقق. فالشركات التي تتبني التقنية بسرعة أكبر تستفيد من ارتفاع الطلب على منتجاتها أو خدماتها، ويقودها ذلك إلى توظيف المزيد من العاملين، والوظائف الجديدة تحل محل الوظائف القديمة؛ لكن من الطبيعي أن يشعر الناس بالقلق من التغيير. 

لم يشهد العالم من قبل ما يماثل الضجة والآمال التي اقترنت بالذكاء الاصطناعي. ولا تزال طبيعة تأثيره غير واضحة. هل سيجلب انتعاشا اقتصاديا أم انهيارا ماليا أم سخطا اجتماعيا؟ سيبدأ العالم في معرفة ذلك في عام 2026. 

 راشانا شانبهوج محررة شؤون الأعمال بمجلة الإيكونومست.