ثقافة

في البحث عن "معجم تاريخي" للعربية

مرفأ قراءة...

 

(1)
بعد ما يزيد على القرن ونصف القرن ربما من الحلم به فكرةً، ثم الشروع في بذر البذور، ثم الانتظار لعقود طويلة إلى أن قيض الله من المؤسسات والرجالات المؤمنين بقيمة وضرورة وجود هذا المعجم الذي طال وتأخر ظهوره كثيرا.. ها هو 'المعجم التاريخي للغة العربية' يظهر للنور في صورتين وافرتي المعرفة والاتساع والرصد والتتبع.. إننا بإزاء إنجاز غير مسبوق وكبير وضخم في تاريخ العربية؛ لغة وثقافة وحضارة وإنسانيةً.
أصبح لدينا الآن وبين أيدينا «المعجم التاريخي للغة العربية» في صورته الذي أنجزه مجمع اللغة العربية بالشارقة، وأصبح لدينا «المعجم التاريخي للغة العربية» الذي أعلن عن اكتماله في الدوحة (وكلاهما خير ورخاء وعلم ومعرفة تعم الجميع).. لكن لا بد من العودة إلى الوراء لعقود طويلة لنبحث عن البذرة أو النواة التي حملت في طياتها هذا الحلم/ المشروع الكبير.. ما هو؟ وما ضرورته؟ وما حاجتنا إليه؟ ولماذا كان يلح عليه وفي طلبه وفي السعي لإنجازه كبار أعلام النهضة والفكر والثقافة العربية في القرن العشرين؟
(2)
تفيدنا كتب تاريخ اللغة العربية، والباحثة عن بداياتها الأولى وما أنتج بها من شعر أو نثر، تفيدنا بأن أكثر الشعر والنثر الجاهليين، في ما قبل الإسلام، قد ضاع، كما تدل عليه عبارة أبي عمرو بن العَلاء الشهيرة: «ما انتهى إليكم مما قالته العرب إلا أقَله، ولو جاءكم وافرًا لجاءكم علم وشعر كثير»، وبرغم ذلك فإن ما وصلنا من نقوش وحفائر وكتابات تدل على وفرة ما أنتجه العرب لغويا؛ لفظا ودلالة ومعنى، جملة وتركيبا ونحوا وصرفا، وأنه من أجل هذا نستطيع أن نثبت ولا نستطيع أن ننفي، نستطيع إذا صح عندنا بيت من الشعر الجاهلي أن نقول: إن ألفاظه ومعانيه تعرفها العرب، ولكن لا نستطيع إذا لم نجد أن نقول: إن العرب لا تعرف هذا اللفظ ولا هذا المعنى، كما يقول العلامة أحمد أمين في «فجر الإسلام».
ولقد أجمع المؤرخون أن العرب في الجاهلية كانوا يعيشون قبائل، وهذه القبائل تختلف فيما بينها -كثرة وقلة- في 'اللغة' وفي 'اللهجة'، فقد تستعمل قبيلة كلمة ولا تستعملها القبيلة الأخرى، أو تستعمل غيرها، وهناك كثير من الروايات التي تؤكد هذا التعدد في اللهجات، فقد روي 'أن أبا هريرة لما قدم من دَوْسٍ عام خَيْبرَ لقي النبي صلى الله عليه وسلم -وقد وقعت من يده السكين- فقال له: ناولني السكين، فالتفت أبو هريرة يَمْنَة ويَسْرة، ولم يفهم ما المراد باللفظ، فكرر به القول ثانية وثالثة، فقال: آلمدية تُريد؟ وأشار إليها فقيل له: نعم، فقال: أو تسمى عندكم السكين؟، ثم قال: ولله لم أكن سمعتها إلا يومئذ'.
هذا التعدد في اللهجات، والتنوع في الأداءات اللغوية، بدأ توحيدها فعليا قبل الإسلام، واستمر هذا التوحيد في الإسلام، فقد تكون قبيلة استعملت كلمة لم تستعملها الأخرى، أو استعملت غيرها، خصوصًا وأن بعض البيئات الطبيعية والاجتماعية لقبيلة قد تُخالف ما للقبيلة الأخرى؛ فقبيلة على الساحل وأخرى في جبل، وثالثة في سهل وهكذا.
من هنا أصبح من المسلم به أن هذه اللهجات والأصوات، والمفردات والمعاني والتراكيب، صارت كلها في طريق التطور والتغير والتحول، ومن ثم أصبح لها 'تاريخ' لا بد من رصده وتتبعه واستقصائه وتدوينه.. من هنا تبرز على الفور أهمية وقيمة وضرورة أن يكون هناك ما يسمى بـ 'المعجم التاريخي للغة العربية'.
(3)
لكن من المهم وقبل البدء في استقصاء الجهود المبكرة للغاية للبحث عن كيفية وضع 'معجم تاريخي للغة العربية'، لا بد من إشارة موجزة إلى وضعية 'الكلمات الجديدة' أو الدافع الحضاري والوظيفي لقبول كلمات جديدة بالآليات التي تعورف عليها 'التعريب' و'الاشتقاق' و'القياس'.. وما إلى ذلك. أو ما يسميه الباحثون اللغويون (اتجاهات التغير في البنية والمعجم). يحدثنا عن ذلك العالم اللغوي الجليل وأحد رواد علم اللغة الحديث المرحوم الدكتور محمود فهمي حجازي، في بحثه التأسيسي التأصيلي 'علم اللغة العربية'؛ يقول:
أما التطور في الكلمات فأبعد مدى وأكثر وضوحًا، إن وزن فاعل ووزن مفعول والأوزان الأخرى هي هي، لم يكد يطرأ عليها تغير في 'البنية'، ولكن التغير في هذه الأوزان يكمن في بناء كلمات جديدة لم يكن يعرفها المجتمع البدوي القديم. ولننظر نظرة بسيطة إلى مادة جمع في 'لسان العرب' مقارنين إياها بنفس المادة في معجم دوزي، والمعروف أن كل المادة التي في لسان العرب المؤلف في القرن السابع الهجري قد أخذت من معاجم سبق تأليفها في مراحل سابقة، وهذه المعاجم أخذت مادتها بدورها من الرسائل اللغوية التي أثمرت عنها حركة جمع اللغة في البادية في أواخر القرن الأول وعلى امتداد القرن الثاني وأوائل القرن الثالث.
والاستثناء الوحيد هنا هو ما أخذه صاحب «لسان العرب» من معجم «تهذيب اللغة» للأزهري، فقد سجل الأزهري بنفسه في القرن الرابع الهجري مادة لغوية في البادية. إن مادة اللسان إذن مادة 'بدوية' وجلها يرجع إلى القرن الثاني الهجري، فماذا تفعل الحضارة العربية الإسلامية والعلوم الناشئة والمجتمع الحضري في العراق والشام ومصر والمغرب والأندلس بهذا المعجم البدوي الذي يعرف للجمل أكثر من مائة اسم، وماذا يفعل المفكر الأندلسي بمائة اسم للأسد؟!
(4)
لقد نشأت كلمات جديدة مع الضرورات الحضارية الجديدة، ولولا هذه التجديدات لما عرفنا الحضارة العربية الإسلامية في أبعادها المأثورة. وعندما حاول المستشرقون الأوربيون قراءة التراث العربي الإسلامي لم يسعفهم «لسان العرب» في الفهم الدقيق للكلمات وطال تفكيرهم، وحاولوا بالمقارنة فهم السياق حتى عرفوا المقصود معرفة تصيب أحيانًا وتجافي الصواب أحيانًا.
وهنا ظهرت الحاجة إلى تأليف معجم مكمل للمعاجم العربية، وقام المستشرق الهولندي دوزي بعمل هذا المعجم. ومن الطريف هنا، يقول الدكتور حجازي، أن نقارن مادة من المواد في اللسان كمثل للغة البادية بما جمعه دوزي كنموذج للكلمات التي استخدمت في عصر الحضارة العربية الإسلامية. وكي نكمل الصورة لننظر في المعجم القيم الذي ألفه عالم هندي جليل في القرن الثالث عشر الهجري هو 'التهانوي'، وهذا المعجم هو «كشاف اصطلاحات الفنون»..
لم يكن هناك مفر مع التطور الحاصل والاستيعاب لأعراق وثقافات شتى انصهرت وامتزجت، أن يحدث التداخل، وتظهر مفردات لم تكون موجودة أو مستعملة..
وبالتالي أصبحت هناك حاجة بل ضرورة المرونة في قبول المفردات والتراكيب الجديدة. كان القدماء يتحدثون عن 'الدخيل' وعن الكلمات التي ترِد إلى اللغة العربية من لغات أجنبية، وقبول هذا الدخيل علامة ثراء تبدأ من القرآن الكريم الذي ضم عدداً من المفردات الأجنبية، ووضعها في سياق لغوي، وكان بذلك يؤسس لمبدأ ينبغي أن نمضي عليه إلى الآن، فنتقبل المفردات والتراكيب التي دخلت، والتي فرضت نفسها.
ولا أدل على ذلك من أن المعاجم الأجنبية في الإنجليزية والفرنسية وغيرها من اللغات تتغير باستمرار. ومن يراجع أية طبعة من طبعات المعاجم العالمية الشهيرة في اللغة الإنجليزية مثلاً، أكسفورد أو وبستر أو غير ذلك من المعاجم، سوف يجد أن المعاجم يُعاد النظر فيها كل فترة زمنية، وتدخل فيها مفردات لم تكن موجودة من قبل، لأن اللغة الإنجليزية قد تقبَّلتها وأخذتها واستوعبتها بمرونة وليس بجمود أو رفض عصبي على نحو مطلق.
من هنا ظهر إلى النور، وبخاصة في العصر الحديث، ومع تأسيس الجامعات ومجامع اللغة العربية في النصف الأول من القرن العشرين، ظهرت دعوات التحديث المستمر للمعاجم، والحرص على تطويرها، بما يجعلها سهلة الاستخدام وميسَّرة بالنسبة إلى من يحتاج إليها، وظهرت كذلك الضرورة الملحة للعمل على إنجاز معجم تاريخي للغة العربية.. ومن هنا ظهر المرسوم الملكي المصري (في ذلك الوقت) بوضع معجم تاريخي للغة العربية..