«نفحات الرَّبيع» يفتِّح أكمامه من جديد
السبت / 6 / رجب / 1447 هـ - 19:29 - السبت 27 ديسمبر 2025 19:29
في أيام صدور ديوان «نفحات الربيع»، عن دار رؤى بمسقط عام 2017م، لأستاذنا الشيخ أحمد بن منصور البوسعيدي (ت: 2023م)، احتفلنا نحن أصدقاء الشاعر بهذا المولود الشعري، وصرنا نتبادل الرسائل عن هذا الأنيق في طباعته، والذي بالتأكيد سيكون إضافة جديدة للمكتبة العُمانية، يثري الحياة الثقافية والأدبية بإلهاماته، فالشعر يجدد فينا متعة الإحساس بالأشياء التي يكتبها عنها الشاعر، وصفًا أو غزلًا أو نسيبًا أو رثاءً، وغيرها من الأغراض التي يطرقها الشعراء في قصائدهم، متعة أن ننْصُت إلى صوت الشاعر المُنغَّم بموسيقى الشعر والخيال الحالم والجمال المُلهم.
والقارئ لهذا الديوان يلمس بذائقته قِطافًا من حياة الشاعر، التي عاشها في قريته الجميلة «الفيقين» بولاية منح، حيث الإحساس بتاريخ القرية الضارب في القِدَم، وتنوع الحياة النامية بين أمكنتها، فمن تلك الأمكنة السَّاحرة، من الحارة القديمة بأسقفها المزخرفة بالنقوش، ومن مساجدها الأثرية بمحاريبها المُتْرَعة بأسرار الصلوات، ومن تنويمات الأمهات لأطفالهن، وقصص الآباء وهم يتحدثون عن أسفارهم وترحالهم، والأحاديث التي يسردها الناس في لقاءاتهم، تفتَّحت قريحة الشيخ ابن منصور البوسعيدي، حتى سالت كلماته رقيقة في الأوراق.
في القصائد التي أهداها لأصدقائه، أشبعها الشاعر بطرافة أدبية وطراوة لفظية، حتى أنه كتب قصيدة في اقتلاع نخلة تسمى «قَشْ سلمان»، وقصيدة أخرى عِتابيَّة من امرأة لزوجها، وسمَّاها «بستان الحنان»، وردوده الشعرية على بعض المراسلات التي تصله، فالديوان أشبه بسيرة ذاتية ناعمة للشاعر، منظومة بلغة مُغتَرفة من مقروءاته، فلا يحتاج قارؤه إلى قاموس يبحث فيه عن معنى كلمة، وإنما تتلطف في ذائقة القارئ، لتنساب بسهولة وسلاسة.
ويبدو على الشاعر تواضع شديد وهو يتحدث عن ديوانه، فقد سألته مَرَّة عن قصيدة له، وقال: ستجدها في «نفحات الغَرْبي»، والغَرْبي ريح عاتية تأتي من جهة الغرب مُحمَّلة بالتُّراب، قلت له: هذا تواضع منك، هي «نفحات الرَّبيع» يا شيخ أحمد، فقال: أرجو ذلك، ومع مرور الأيام، بدأ يعتاد على الديوان، حتى أخبرني أنَّه نفد، وسيعاد طباعته بإضافة قصائد جديدة نظمها بعد صدوره، ونأمل من أبنائه أن يسعوا إلى إعادة طباعته، في حلة إخراجية يرضى عنها والدهم، وهو الآن في غيابة الموت رحمه الله.
تنبع تجربة الشاعر أحمد بن منصور من تأثره بأساتذته، فقد كان لهم الفضل في توهُّج جذوة الشعر في داخله، من بينهم الشاعر يزيد بن خالد بن وليد البوسعيدي (ت: 1956م)، عمل قاضيًا في أكثر من ولاية عمانية، خلال النصف الأول من القرن العشرين، وحين عاد إلى قريته «الفيقين» انهمك في تدريس علوم العربية، إلى جانب ذلك فهو شاعر عَذْب، له مقدرة بيانية في وصف الطبيعة، تجلَّت في وصفه للرَّوض والخمائل.
والمؤسف أنَّ الشاعر محا ديوانه بالماء قبل وفاته، ولم يبق من قصائده إلا النزر اليسير، من محفوظات ابنه النحوي خلف بن يزيد (ت: 2017م)، وبعض من تلامذته، وخسرنا ديوانًا شعريًا كان يمكن أن يضيف لمسات بيانية بوصفه الرائق، وتسجيله لتفاصيل من حياته في قصائده الشعرية المفقودة.
ويحفل ديوان أحمد بن منصور بقصائد في وصف الروض، تشَرَّبَ حبها من أستاذه الشاعر يزيد، الذي سبقه بالوصف، كقصيدته التي وصف فيها النسائم، والرَّبيع الذي يلبس الطبيعة حلة مزخرفة بالزهور، يقول الشاعر يزيد:
يا نسيمَ الجَنوبِ رَقَّ الهَواءُ
فاصْبحينا قد أمطرَتنا السَّماءُ
وأتانا الرَّبيعُ والبَرْدُ وَلَّى
وبَدا الزَّهْرُ يومَ وَلَّى الشِّتاءُ.
فعلقت نفس الشاعر ابن منصور بهَوَى هذا الفصل الجميل، ولذلك نجده في ديوانه «نفحات الربيع» يعيد تجربة أستاذه المَمْحُوَّة بالماء، ويكتب قصائد في وصف الرَّبيع، تدخل في ديوانه براعات استهلال يفتتح بها الشاعر، كقوله:
فصلُ الرَّبيعِ أتى أم جَنَّةٌ فُتِحَتْ
أبوابُها فشَذَتْ منها الرَّياحينُ
سَقَى البَساتينَ مِنْ وَسْمِيِّهِ دِيَمٌ
فأوْرَقَ الوَرْدُ والرُّمانُ والتينُ
وبعضها قصائد كاملة، منها قصيدته «محاسن الرَّبيع»، التي نظمها عام 2015م:
جاءَ الرَّبيعُ بزَهرِ الوَرْدِ والثَّمَرِ
وَغَرَّدَ الطيْرُ بالآصالِ والبُكُرِ
ولا شك أن الشاعر أحمد بن منصور استعذب الحياة في القرية الجميلة، بفلجها الرقراق وحقولها الخضراء، كما استعذب الكتابة عن فصل الرَّبيع، بكل الايحاءات التي يحملها اسمه وموسمه الزاهر، ومنذ منابت الشعر العربي الأول، منذ أن أرسل الأعشى بكائيته (وَدِّعْ هُرَيرَةَ إنَّ الرَّكبَ مُرْتَحِلُ)، نشيجًا حزينًا يخترق حجب الغيب، لتصل إلى القلوب من بعده، بلوحة تشكيلية رسم فيها روضته الجميلة: (ما رَوْضَةٌ مِنْ رِياضِ الحَزْنِ مُعْشَبَةٌ .. خَضرَاءَ جادَ عليها مُسبِلٌ هَطِلُ)، ومرورًا بغناء البحتري للربيع، أنشودة صدحت بها الأفواه مع تفتح البراعم: (أتاكَ الرَّبيعُ الطَّلقُ يَختالُ ضاحِكًا .. مِنَ الحُسْن حتى كادَ أنْ يتَكلَّما)، وإلى روضيَّات الشاعر العباسي الصَّنوبري الكثيرة، وحتى روضة عبدالله الخليلي: (وَخَمِيلَةٍ حَاكَ الرَّبيعُ بساطَها .. خُضْرًا ونَمْنَمَها بزَهرٍ كاس)، إلى روضة البوسعيدي هذه، سلسلة شعرية ذهبية مرصَّعة بدرر القصائد، تؤكد أنَّ عشق الشعراء للرَّوض صورة لأرواحهم الخضراء.
ومن هذا التأثر والتأثير، نبت الشعر في مروج وجدانه المُمْرِع بالاخضرار، غير أن حبه لفصل الربيع جعله يستثقل قدوم الشتاء، وحالته الصحية لا تتصالح مع برد الشتاء اللاسع والبرد القارس، يعضده قول الشاعر الفزاري: (إذا كانَ الشِّتاء فأدْفِئُونِي .. فإنَّ الشَّيخَ يَهزِمُهُ الشِّتاءُ)، وفي ديوانه قصيدة بعنوان «رحيل الشتاء»، يئن فيها ضجرًا من برودة الطقس، فيضطر مُكْرَهًا إلى ارتداء المعاطف والتَّدَثُّر بالبرانيس الثقيلة، وهو ما يزعجه ويكدِّر عليه صفو أيامه، يقول:
إذا الشِّتاءُ بيَومٍ صَارَ مُنصَرِفًا
فلمْ أكُنْ جَازِعًا أو قلتُ يا أسَفا
إرْحلْ سَريعًا فعَيني غَيْرُ بَاكيَةٍ
حُزْنًا عليكَ فما قدْ جَاءَ مِنكَ كَفَى
هناك رافد آخر غَذَّى تجربة الشاعر، وهي حياته الأولى في بيوت الطين، بما تشكله من أنموذج للألفة والترابط، جعلها منبعًا للحنين الدَّفين، ومبعثًا لصور شعرية رسمها في أكثر من قصيدة، مع أن الشاعر سلك كغيره مسلك الشُّعراء الذين كتبوا قصيدة المناسبة، والإخوانيات، وإهراق الشعر فيما لا طائل من ورائه، فضاع كثير من المياه هدْرًا، في سواقي لا تنمو في حوافها الأشجار المثمرة.
أكتب هذه المقالة بوحي ينسجم مع احتفاء جامعة نزوى بالشاعر أحمد بن منصور، صباح الخميس الثامن عشر من ديسمبر، بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية، أحيت معها ذكرى الشاعر البوسعيدي، بتقديم قراءات تعريفية ونقدية، بذل لها القائمون على تنظيم الفعالية جهدًا، وصلت به الندوة إلى مبتغاها، ولهم الشكر على التنظيم والتقديم.
وفيما كان المحاضرون يقرأون مختصرات بحوثهم، كنت وكأني أرى الشاعر بعين خيالي، يتكئُ على عصاه، في مشيه الوئيد بين البيت والمسجد، في طريق معشوشب بالرَّياحين والأشجار الظليلة، وأراه وهو يودِّع مكتبته في مرضه الأخير، ويمرر يده على أغلفة كتب أحبها، كما ودَّع من قبل أكمام الزهور المتفتحة، حول المنزل الذي أقام فيه، أثناء زيارته للبوسنة في صيف 2018م، وقال وهو يغادر المكان: مع السَّلامة إلى يوم القيامة، ثم تخيلته قادمًا من وراء الزمان، يدخل قاعة الندوة الاحتفائية، ويجلس طيفه بين الحضور، يستمع بإنصات إلى ما يقوله الباحثون عن قصائده، ليبقى الديوان بين أيدينا، قطعة من خيال الشاعر، ونفحة من ربيع حياته، يفتِّحُ نوَّارَه من جديد.