كي لا تخدعنا الشهادات!
السبت / 6 / رجب / 1447 هـ - 19:05 - السبت 27 ديسمبر 2025 19:05
في النصف الأول من هذا العام (2025) أُلقي القبض على طبيب هندي يُدعى إن. جون كام بعد انكشاف واحدة من أخطر قضايا انتحال صفة طبيب في السنوات الأخيرة. فقد تبيّن أنه ظلّ لسنوات يقدّم نفسه على أنه طبيب قلب عائد من المملكة المتحدة مستندًا إلى شهادات طبية مزوّرة وسيرة مهنية مختلقة. هذا الطبيب المزيف كان يعمل في مستشفى ميشن في مدينة داموه بولاية ماديا براديش، وانكشف حين لاحظت سلطات الولاية شكاوى متزايدة حول ممارساته «الطبية». وخلال التحقيق تبيّن أنه أجرى خمس عشرة عملية جراحية خلال خمسة وأربعين يومًا فقط انتهت سبع منها بوفاة المرضى. كما كشفت مراجعة أوراقه أن شهاداته الجامعية والتخصصية لا وجود لها في سجلات الجامعات التي ادّعى التخرّج منها، بل إن رقم تسجيله الطبي لا يعود إليه في الأصل وإنما إلى طبيبة امرأة.
تذكرتُ هذه القصة وأنا أتابع الأخبار التي انتشرت كالنار في البترول قبل نحو أسبوعين عن تفكيك شرطة ولاية كيرلا الهندية في مطلع الشهر الجاري شبكة عابرة للولايات متخصصة في تزوير الشهادات الجامعية وكشوف الدرجات، بعد مداهمة لبلدة بونّاني التابعة للولاية. أهمية هذه المداهمة تكمن في أنها فضحت واحدة من أخطر قضايا التزوير التعليمي في الهند بعدما كشفت التحقيقات عن معدات طباعة متقدمة وأختام جامعات مزوّرة، ومركز إنتاج رئيسي في بولاتشي بولاية تاميل نادو، وشبكة توزيع امتدت إلى ولايات أخرى. عُثِر في مواقع مختلفة على أكثر من مائة ألف شهادة ووثيقة مختومة بينما تحدثت تقديرات الشرطة والتحقيقات الأولية عن احتمال أن تكون الشبكة قد زوّدت ما يزيد على مليون شخص بوثائق مزوّرة خلال سنوات نشاطها. نعم، لستُ مبالِغًا؛ الشرطة قدرت أنهم مليون منتحِل للشهادات التي كانت الواحدة منها تُباع بسعر يتراوح بين خمسين ألف روبية هندية و150 ألفا تبعًا لاسم الجامعة والتخصص.
تُرى كم من هؤلاء المليون كانت شهاداتهم لمزاولة الطب؟ وكم منهم قدِموا إلى مستشفيات عُمان؟! أطرح هذين السؤالين ليس تشكيكًا في أهلية الأطباء الهنود الذين يملأون مستشفياتنا -لا سمح الله-؛ فالطب في الهند متقدم كما نعلم، وأظن أنه لو أجري إحصاء في عُمان لوُجِدَ أن الهند هي الوجهة العلاجية الأولى للعُمانيين خارج بلادهم (أفتح هنا قوسًا لأضيف أن كاتب هذا المقال نفسه قادم لتوه من رحلة علاجية مع أسرته في الولاية نفسها التي اكتُشِف فيها التزوير: كيرلا).
إذن ليس هذا تشكيكًا في الأطباء الهنود؛ فقد يكون المستفيدون من الشهادات المزورة من جنسيات أخرى، هذا عدا أن الانتحال لا جنسية له أصلا بمعنى أن المنتحِل بانتهاكه للأخلاق والقوانين يمثل نفسه فقط لا غير، ووصمة العار تلتصق به هو لا بلده. لكن التساؤل الحراق هو: هل توجد لدى مؤسساتنا الطبية آليات أخرى غير الشهادات للتحقق من أن هذا الطبيب حقيقي وليس مزيفًا؟ والسؤال يعمم بالطبع؛ فهناك أيضا مهندسون مزيفون، ومعلمون مزوَّرون، ومهن أخرى توفرها هذه الشهادات المزيفة، وقد كشفت صحيفة «تايمز أوف عُمان» منذ نحو ثلاث سنوات (وتحديدًا في عددها الصادر في 6 أبريل 2022) عن أن فرق التقييم والتفتيش في وزارة الصحة سجّلت عددًا من المخالفات، من بينها اكتشاف وافد مرخّص له رسميًّا بوصفه عاملًا زراعيًّا يعمل كأخصائي نظر في محل بصريات بمحافظة البريمي! إضافة إلى ضبط عاملة منزل كانت تعمل فنية ليزر في عيادة جلدية بمحافظة مسقط!
وعليه، وأمام واقع كهذا لا ينبغي الاكتفاء بالاتكاء على الشهادة فقط كدليل كفاءة نهائي، خصوصًا في المهن الحساسة كالطبيب والمهندس والمعلم وأستاذ الجامعة. لا بد من آليات عملية أخرى للتأكد من هذه الكفاءة، أولها من وجهة نظري إجراء اختبارات مهنية معيارية تشرف عليها هيئات مستقلة، وتقيس المعرفة التطبيقية لصاحب المهنة لا الحفظ النظري فقط، يلي ذلك فترات تدريب أو ممارسة خاضعة للإشراف الإلزامي قبل الترخيص الكامل، مع تقييم دوري للأداء. يضاف إلى هذا ضرورة إبقاء التواصل مفتوحًا مع منصات التحقق الرقمية الدولية، وتبادل البيانات بين الجهات التعليمية والمهنية في عُمان من ناحية، والجهات الأخرى في شتى أنحاء العالم من ناحية أخرى. بهذه الإجراءات وحدها يمكن تقليص احتمالات الخداع، وحماية الأرواح والمصالح العامة، واستعادة الثقة في مهن تقوم أساسًا على الأمانة والمعرفة.
سليمان المعمري كاتب وروائي عُماني