العرب والعالم

400 شهيد وأزمة وقود ودواء .. نتيجة تلاعب الاحتلال بالهدنة

 

غزة- «عُمان»- بهاء طباسي: في وقتٍ كان يُفترض فيه أن يشكّل وقف إطلاق النار متنفسًا لسكان قطاع غزة، تواصلت خروقات الاحتلال بوتيرةٍ متصاعدة، عسكريًا وميدانيًا، بالتوازي مع تشديد خانق للحصار، ومنعٍ ممنهج لدخول الأدوية والسولار والمستلزمات الطبية، وتعطيلٍ متعمّد للانتقال إلى المرحلة الثانية من الاتفاق. واقعٌ مركّب أعاد غزة إلى مشهد النار المفتوحة، وإن بصيغة أقل ضجيجًا، لكنه أكثر فتكًا بالمدنيين والمرضى والمنهكين أصلًا من الحرب.
ميدانيًا، لم تتوقف الغارات الجوية وعمليات النسف، خصوصًا في مناطق شمال رفح وشرقي خان يونس ومدينة غزة، حيث سجّلت الساعات الماضية تصعيدًا لافتًا تمثّل في نسفٍ ضخم، وقصفٍ مدفعي متزامن مع إطلاق نار كثيف، واستهدافٍ مباشر لتجمّعات المواطنين، في خرقٍ صريح لبنود وقف إطلاق النار، وتحت ذريعة «الخط الأصفر» الذي بات يتقدّم على حساب الجغرافيا والسكان معًا.
صحيًا، يتكشّف المشهد عن انهيار متسارع للمنظومة الطبية، بفعل منع إدخال الأدوية التخصصية، ونفاد السولار اللازم لتشغيل المولدات، ما أدى إلى توقف كلي أو جزئي للعمليات الجراحية في عدد من المستشفيات، وإعلان مستشفى العودة في النصيرات توقفه عن تقديم الخدمات الصحية، في مؤشرٍ خطير على اقتراب القطاع من شلل صحي شامل.
سياسيًا، تتقاطع الخروقات الميدانية مع مماطلة إسرائيلية واضحة في تنفيذ المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار، وسط تصريحات رسمية تؤكد نوايا البقاء العسكري وإعادة الاستيطان، في وقتٍ تتحرك فيه الأطراف الإقليمية والدولية، من أنقرة إلى واشنطن، لمحاولة إنقاذ الاتفاق من الانهيار الكامل.


تصعيد ميداني
سجّل الميدان الغزّي، خلال ساعات مساء اليوم، سلسلة خروقات عنيفة، شملت نسفًا ضخمًا وغارات جوية مكثفة شمال رفح، ترافقت مع إطلاق نيران كثيف من الدبابات الإسرائيلية شرق خان يونس، قرب دوار بني سهيلا، حيث أُجبر السكان على الاحتماء داخل خيامهم أو بقايا منازلهم المدمّرة.
وفي تطور بالغ الخطورة، أطلقت طائرة مسيّرة إسرائيلية قنابل متفجرة باتجاه تجمعٍ للمواطنين على شارع صلاح الدين شرقي خان يونس، في مشهد أعاد إلى الأذهان نمط الاستهداف المباشر للمدنيين، رغم سريان وقف إطلاق النار. كما استهدف قصف مدفعي متزامن مع إطلاق نار مكثف مناطق شرق مخيم البريج وسط قطاع غزة.


غارات على مدينة غزة
وفي مدينة غزة، شنّت طائرات الاحتلال غارات على مناطق انتشار الجيش الإسرائيلي شرقي المدينة، بالتزامن مع إطلاق كثيف للنيران، في مشهدٍ يوحي بمحاولات تثبيت نقاط جديدة داخل المناطق المتاخمة لما يُعرف بالخط الأصفر. الأمر ذاته تكرر شرقي خان يونس، حيث نفذ الجيش الإسرائيلي عملية نسف ضخمة داخل مناطق انتشاره، فيما شنت الطائرات سلسلة غارات داخل مناطق الانتشار في مدينة رفح.
وأفادت طواقم الإسعاف والطوارئ بوقوع إصابات بنيران قوات الاحتلال في مناطق انتشارها وخارجها في جباليا وبيت لاهيا شمالي القطاع، كما استشهد فلسطيني بنيران إسرائيلية في شمال القطاع. وذكرت مصادر طبية لـ«عُمان» أن الشهيد هو «سامي أحمد أبو درابي»، الذي استشهد في منطقة تل الذهب ببيت لاهيا، إلى جانب إصابة آخرين، فيما سُجلت إصابتان بنيران الجيش الإسرائيلي في مخيم حلاوة ببلدة جباليا.


أطفال في مرمى الخطر
في قلب هذا المشهد، تروي الطفلة الفلسطينية «لينا» تفاصيل يومها داخل خيمةٍ نُصبت فوق حطام منزل عائلتها قرب الخط الأصفر، وسط مدينة خان يونس. خيمةٌ بيضاء كبيرة، أقيمت داخل هيكل خرساني لمبنى مدمر، بلا جدران، مكشوفة تمامًا للهواء والبرد والخطر، بينما يقف أطفال صغار على حافة السقف الخرساني المتهالك، يطلون على أسفلٍ مليء بالركام والحديد الملتوي.
تقول لينا بصوتٍ تختلط فيه البراءة بالخوف: «نحن متواجدون في موقع منزلنا في منطقة دوار أبو حميد. قمنا بنصب خيام في منطقة بيتنا، لكنهم يواصلون إطلاق النار علينا. الدبابات تقترب، وكذلك القذائف، وطائرات الكواد كابتر تحوم فوق المنطقة».


وتضيف لـ«عُمان»: «نحن نشعر بالخوف، فهي تأتي وتلقي القنابل، وإطلاق النار كثيف جدًا عندنا. في كل يوم يهدمون منزلًا. لقد وضعوا المكعبات الصفراء بجوارنا، وهي قريبة منا جدًا، والدبابات تروح وتجيء في منطقتنا».
تكشف شهادة الطفلة كيف تحوّل «الخط الأصفر» من إجراءٍ عسكري نظري إلى أداة عملية للاستيلاء على مساحات واسعة من القطاع، غير منصوص عليها ضمن اتفاق وقف إطلاق النار، حيث يُدفع السكان قسرًا إلى النزوح الصامت، أو البقاء تحت تهديد القتل.


الخط الأصفر
المحلل السياسي إياد جودة لـ«عُمان»، يرى أن ما يجري يتجاوز الخروقات التقليدية، ليصل إلى تغييرٍ جوهري في قواعد الاشتباك. يقول: «منذ ليلة 25 ديسمبر الحالي، غيّر جيش الاحتلال تكتيكه، وأصبح يلقي براميل خفيفة الوزن من طائرات أكبر حجمًا، وتتحول هذه البراميل إلى حدود جديدة».


ويضيف: «ألقى الاحتلال مثل هذه البراميل الليلة الماضية في حي التفاح شرق مدينة غزة، وأصبح الاقتراب من اللون الأصفر يعني في ذهن المواطن الغزي الموت والقتل، بصرف النظر عن وزن الجسم أو نوعه، سواء كان مكعبًا إسمنتيًا ضخمًا أو برميلًا فارغًا».
ويوضح جودة: «هكذا أصبحت الحدود الجديدة لقطاع غزة، يحددها مكان سقوط البراميل التي تتطاير من السماء بطريقة عشوائية. ولتثبيت هذا الارتباط، قتل الاحتلال نحو 400 مواطن غزي منذ توقيع الاتفاق في أكتوبر الماضي، بذريعة اقترابهم من الخط الأصفر».


انهيار صحي
بالتوازي مع التصعيد الميداني، تتفاقم الأزمة الصحية في قطاع غزة. فبحسب رئيس المكتب الإعلامي الحكومي، إسماعيل الثوابتة، فإن المواد التي تدخل إلى غزة «تفتقر للمستلزمات الجراحية المتخصصة وأدوية الأمراض المزمنة»، مع تسجيل «نقص حاد في أدوات العمليات، وأجهزة جراحة العظام، وأدوية التخدير».


ويؤكد الثوابتة أن «نحو 500 ألف عملية جراحية معلّقة بسبب شبه انهيار المنظومة الصحية»، مشيرًا إلى أن ما يدخل غزة من مستلزمات طبية «لا يتجاوز 10% من الاحتياج الفعلي»، وأن الاحتلال «يمنع إدخال معدات طبية حيوية بذريعة أمنية واهية».
مدير دائرة الصيدلة بوزارة الصحة، علاء حلس، يرسم صورة قاتمة للواقع الدوائي، قائلًا: «أكثر من 52% من قائمة الأدوية الأساسية في وزارة الصحة هي صفر، وأكثر من 71% من قائمة المستهلكات الطبية صفر، وأكثر من 73% من مواد الفحص المخبرية صفرية، وأكثر من 59% من مستهلكات الفحص المخبري أيضًا صفر».


أزمة وقود
وفي تطور خطير، أعلنت إدارة مستشفى العودة في النصيرات توقفها عن تقديم الخدمات الصحية والطبية، يوم الخميس، بسبب أزمة الوقود، ما يهدد حياة آلاف المرضى.
وحمّل مدير جمعية العودة الصحية والمجتمعية، رأفت المجدلاوي، الاحتلال المسؤولية الكاملة عن انقطاع السولار، مؤكدًا أن استمرار قطع الإمدادات «يعرقل سير عمل المنظومة الصحية».
وأوضح أن مستشفى العودة يعمل منذ السابع من أكتوبر 2023 ضمن «منهجية إدارة أزمة» لترشيد استهلاك الوقود، لكن «رصيد السولار المتبقي قد نفد»، في حين يبلغ الاحتياج اليومي الأساسي نحو «2600 لتر».


وأشار إلى أن توقف الخدمات سيحرم «نحو 3000 مستفيد يوميًا» من الرعاية الصحية، وسيتسبب في توقف العمليات الجراحية المجدولة، وخدمات الولادة الطبيعية والقيصرية والطارئة لنحو «60 سيدة يوميًا»، إضافة إلى توقف خدمات الطوارئ ورعاية الأطفال بشكلٍ تام.


مماطلة سياسية
يتزامن هذا الانهيار مع تعطيلٍ واضح لدخول المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار. وأفاد مصدر في وزارة الخارجية التركية بأن الوزير هاكان فيدان التقى، الأربعاء 24 ديسمبر، مسؤولين من المكتب السياسي لحركة «حماس» في أنقرة، لبحث وقف إطلاق النار ودفع الاتفاق نحو مرحلته التالية.
ونقل المصدر أن مسؤولي «حماس» أبلغوا فيدان بأنهم استوفوا متطلبات الاتفاق، لكن إسرائيل «تواصل استهداف غزة لمنع الانتقال إلى المرحلة الثانية»، مشيرين إلى أن دخول المساعدات الإنسانية «غير كافٍ»، وأن الأدوية وتجهيزات المساكن والوقود «مطلوبة بشدة».