انحسار سلطة الأطباء في الرعاية الصحية
دروف خولار - ترجمة: بدر بن خميس الظّفري
الخميس / 4 / رجب / 1447 هـ - 19:31 - الخميس 25 ديسمبر 2025 19:31
بعض المرضى لا يثقون بنا، وآخرون يقولون إنهم لا يحتاجون إلينا. وقد آن الأوان لأن نعيد النظر في صورتنا عن أنفسنا، لا بوصفنا كهنةً أعلى للرعاية الصحية، بل باعتبارنا ما كنّا عليه دائمًا، معالجين.
قبل فترة غير بعيدة، تولّيت علاج رجل في منتصف العمر، سأسمّيه جيم، كان يتمتع بصحة جيدة، لكنه بدأ يشعر مؤخرًا بالخمول. نصحه أحد أصدقائه بتجربة المكملات الهرمونية. وبعد أن شاهد جيم على وسائل التواصل الاجتماعي أن روبرت إف. كينيدي الابن، وزير الصحة والخدمات الإنسانية في إدارة دونالد ترامب، يروّج للمكملات باعتبارها جزءًا من نظام «مكافحة الشيخوخة»، وهي برامج تسوّق بوصفها وسائل لإبطاء التقدّم في العمر، طلب أحدها من شركة تقدم خدمات طبية عن بُعد. وبعد بضعة أشهر، لاحظ تورمًا وألمًا في ربلة ساقه.
حذّره برنامج تشات جي بي تي من احتمال إصابته بجلطة دموية. التقيت جيم للمرة الأولى في غرفة الطوارئ. وأظهر فحص بالموجات فوق الصوتية وجود انسداد في أحد أوردة الساق، وهو أمر قد يسبب مضاعفات خطيرة إذا انتقل إلى الرئتين. فأوقف المكمل، وبدأ بتناول دواء مميّع للدم.
ما لفت انتباهي في حالة جيم هو أن رحلته الصحية، حتى لحظة دخوله المستشفى الذي أعمل فيه وهو يعرج، جرت بالكامل خارج النظام الصحي التقليدي. فقد وجد العلاج عبر الأحاديث المتناقلة بين الناس؛ ومنحته وسائل التواصل الاجتماعي وحركة «لنجعل أمريكا صحية مجددًا»، قدرًا من المصداقية؛ وزودته به شركة تبيع مباشرة للمستهلك. أما تشخيص الجلطة فكان من نصيب الذكاء الاصطناعي، فيما اقتصر دوري على تأكيده. ولم يكن جيم قد راجع طبيبًا منذ سنوات.
على امتداد القرن الماضي، تمتع الأطباء باحتكار شبه كامل للمعرفة الطبية ولتقديم الرعاية الصحية. لم يكن أمام المرضى خيار يُذكر سوى اللجوء إلى الأطباء، ولم يكن على الأطباء أن يبرروا كثيرًا دورهم بوصفهم حراس البوابة.
أما اليوم، فإن مجموعات كثيرة تتنافس على امتلاك السلطة الطبية: شركات ناشئة في الذكاء الاصطناعي، ومؤثرو العافية، ورواد إطالة العمر، وأتباع حركة «لنجعل أمريكا صحية مجددًا». وغالبًا ما يكون ذلك عبر تقويض مكانة الأطباء.
ففي كتابها الأكثر مبيعا «طاقة جيدة»، كتبت كيسي مينز، مرشحة دونالد ترامب لمنصب الجراح العام، أعلى مسؤول طبي حكومي في الولايات المتحدة، أن أكثر أيام حياتها معنى «جاءت من تجاهل فريق من الأطباء» كانوا قد أوصوا والدتها بعلاج مكثف للسرطان في نهاية العمر. ومينز، التي تدربت في مجال الجراحة قبل أن تتجه إلى الطب البديل، ألمحت إلى أن أطباء والدتها كانوا متأثرين بمصالح مالية.
وفي فبراير الماضي، قال بيل جيتس في برنامج «ذا تونايت شو»، وهو برنامج حواري تلفزيوني أمريكي شهير، إن الذكاء الاصطناعي سيجعل الاستشارة الطبية المتقدمة، التي كانت مقيدة بندرة المختصين المهرة، متاحة بلا كلفة وشائعة خلال العقد المقبل، مضيفا أن البشر لن يعودوا مطلوبين «في كثير من الأمور».
وفي الواقع، أظهر استطلاع حديث أن نحو نصف الشباب يعتقدون أن الأفراد الذين يجرون أبحاثهم الخاصة يمكنهم أن يعرفوا معلومات بقدر ما يعرفه الطبيب. ويقول قرابة 40 في المائة إنهم اتبعوا نصائح استقوها من وسائل التواصل الاجتماعي بدلًا من الرجوع إلى مقدمي الرعاية الصحية، وذلك على الرغم من أن نحو أكثر من نصف مائة مقطع فيديو رواجًا عن الصحة النفسية على منصة تيك توك تحتوي على معلومات مضللة أو غير دقيقة، وفق تحقيق أجرته صحيفة الجارديان.
وفي الولايات المتحدة، يعرّف نحو أربعة من كل عشرة آباء أنفسهم بأنهم من أنصار حركة «لنجعل أمريكا صحية مجددًا». وفي المقابل، تشير نتائج استطلاع أجرته مؤسسة جالوب، وهي مؤسسة أمريكية متخصصة في قياس الرأي العام، إلى أن ثقة الأمريكيين بالأطباء تراجعت بمقدار أربع عشرة نقطة منذ عام 2021، لتصل إلى أدنى مستوياتها منذ عقود. وفي عام 2025، لم يعد الطبيب في العيادة سوى مزود واحد للرعاية الصحية ضمن سوق يزداد تنافسية.
تاريخيًّا، استمد الطب قوته من نوع خاص من السلطة الثقافية، تمثل في القدرة على تحديد ماهيّة الأمراض، ومن المصاب بها، وما الذي ينبغي فعله حيالها، فضلًا عن تحديد ما الذي يُعد دليلًا أو حقيقة. وفي كتاب «التحول الاجتماعي للطب الأمريكي»، الذي نُشر لأول مرة عام 1983، يذكر عالم الاجتماع في جامعة برينستون بول ستار ركيزتين للسلطة المهنية وهما: الشرعية والاعتماد.
فالشرعية توفّر الأساس الذي يجعل الناس يقبلون التأثير في حياتهم، فيما يشير الاعتماد إلى الضرر الذي قد يتعرضون له إذا لم يقبلوا ذلك التأثير. ويرى ستار أن السلطة، على نحو متناقض ظاهريًّا، تتسم بالقدرة على الإكراه أو الإقناع، لكنها تتقوّض حين تضطر إلى اللجوء إلى أيٍّ منهما. فإذا اضطررت إلى إقناع الناس بأنك على صواب، فذلك لأنهم في الأصل لا يرون أنك كذلك.
يشهد الطب اليوم نوعًا من التفكيك وإعادة التركيب. فقد بات في الإمكان الحصول على خدمات طبية متخصصة «حسب الطلب» من مصادر كثيرة خارج إطار دائرة الأطباء، حتى وإن كان بعض هذه الخدمات ضارًّا بالصحة. والنتيجة أن الطب لم يعد قادرًا على الاعتماد على سلطته الثقافية كما كان في السابق. ففي نظام صحيٍّ متشظٍ ومشحون بالتنافس، يُطلب من الأطباء إقناع المرضى بقيمة خبرتهم، وأحيانًا منافسة مقدمي خدمات آخرين.
وقد يكون من الضروري الاعتراف بأننا لم نعد كهنة الرعاية الصحية الأعلى. وربما حان الوقت لأن نرى أنفسنا، مرة أخرى، كما كنّا دائمًا: معالجين.
لم تكن مهنة الطب قوية على الدوام. فلعدة عقود طويلة بعد تأسيس الولايات المتحدة، واجه الأطباء منافسة من ممارسي «الطب التجانسي»، وهو نظام علاجي بديل يقوم على مبدأ «المثل يعالج المثل»، وكذلك من المعالجين بالأعشاب، والصيادلة التقليديين، والقابلات، والمعالجين الدينيين، ناهيك عن الأمهات أنفسهن.
وكان بعض الأطباء يعملون في وظائف ثانية. وقد شجّع بنجامين راش، الطبيب وأحد الآباء المؤسسين، طلاب جامعة بنسلفانيا، وهي أول كلية طب في البلاد، على زراعة قطعة أرض، حتى يتمكنوا من إطعام أنفسهم حين تضعف حركة المرضى. وإلا، حذّرهم، فقد يحملون في صدورهم «رغبة سيئة في انتشار المرض في جواركم».
وفي القرن التاسع عشر، بدأ الأطباء تعزيز سلطتهم عبر توحيد معايير التعليم الطبي والترويج له. وسنّت معظم الولايات قوانين لتنظيم ترخيص ممارسة الطب، وإن كان تطبيقها متفاوتًا. غير أن المرحلة الشعبوية التي أعقبت انتخاب أندرو جاكسون، أحد الرؤساء المفضلين لدى دونالد ترامب، شهدت إلغاء كثير من متطلبات الترخيص، وسط تصاعد الشك في نخب الأطباء وخبراتهم.
ولم تترسخ سلطة الأطباء من جديد إلا في القرن العشرين، عندما تضافرت جهود كليات الطب، والجمعيات الطبية، وهيئات الترخيص الطبية. وهي ثلاث مؤسسات قادرة على تقديم الدعم لأي مهنة، لتمنح الأطباء مستوى جديدًا من النفوذ.
وبعض التحديات التي تواجه سلطة الطب اليوم، ومنها التحولات السياسية والتغيرات التكنولوجية، نشأت خارج الحقل الطبي. لكن بعضها الآخر يبدو رد فعل على أوجه قصور مزمنة. فهناك عشرات الملايين من الأمريكيين لا يملكون طبيب رعاية أولية. وفي مساحات واسعة من البلاد بلغت فترات الانتظار لمراجعة الأطباء مستويات قياسية هذا العام. وأكثر من نصف مقاطعات الولايات المتحدة لا يوجد فيها طبيب نفسي. ويشعر كثير من الناس بأن مقدمي الرعاية الصحية لا يقضون وقتا كافيا لفهمهم. وفي الوقت نفسه، تشير التقديرات إلى أن الأخطاء الطبية تلحق الضرر بمئات الآلاف من الأمريكيين سنويا.
ويقدّم قطاع رعاية سنّ اليأس، الذي تبلغ قيمته مليارات الدولارات، مثالا كاشفا عمّا يجري في الرعاية الصحية عموما. فهذا المجال عانى تاريخيا نقصا في الدراسة والتمويل، لكنه شهد انفجارا في الاستثمارات خلال السنوات الأخيرة. فبين عامي 2019 و2024، تضاعف تمويل رأس المال المغامر المخصص لصحة المرأة أكثر من ثلاث مرات، وأصبحت النساء قادرات على الوصول إلى أنواع من الرعاية لم تكن متاحة لهن سابقا. غير أن هذه الأموال لا تتجه بالضرورة إلى المهنيين الطبيين. ففي بعض الحالات، يستغل ما يُعرفون بـ «مؤثري سنّ اليأس» ما يشبه «حمّى ذهب سنّ اليأس». وقد رأت الكاتبة فيف جروسكوب في صحيفة الجارديان أن «الإدراك المتأخر بأن هذه النساء كنّ يعانين نقصا في الخدمة... تزامن، للأسف، مع ذروة الرأسمالية الشرسة». كما حذّرت كيرستي وورك، الصحفية في هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) من أن كثيرا من النساء تقدم لهن وعود بالتخفيف من «أعراضٍ مُنهِكة» إذا اشترين مكملات أو أنواع شاي أو حتى ملابس نوم تحمل علامات تجارية خاصة.
إن الجهود الجادة لجعل الطب أكثر سهولة ويسرا قد تقود أحيانا إلى رعاية منقوصة واستغلالية، جزئيا لأن الشركات قد تكون منفصلة عن الأخلاقيات التي تضبط الممارسة الطبية. فبالنسبة إلى كثير من الشركات الناشئة في مجال الصحة، يُعد بيع الحبوب والمنتجات أبسط من تقديم أشكال الرعاية الشاملة التي توفرها العيادات التقليدية؛ كما أن كتابة الوصفات الطبية أسهل من بناء علاقات طويلة الأمد مع المرضى. ففي العام الماضي، وافقت شركة سيريبال، التي كانت تصف نفسها بأنها أسرع شركة صحة نفسية نموا في التاريخ، على دفع غرامات بملايين الدولارات بسبب الإفراط في وصف أدوية منبهة لعلاج اضطراب نقص الانتباه وفرط الحركة.
وفي الشهر الماضي، وبعد تحقيق أجرته صحيفة وول ستريت جورنال، أُدين مسؤولون تنفيذيون في شركة دَن غلوبال، وهي شركة ناشئة في مجال الصحة النفسية، بدفعهم بقوة نحو وصف دواء «أديرال»، وهو دواء منبه يُستخدم لعلاج اضطراب نقص الانتباه. وخلال المحاكمة، شهدت إحدى الطبيبات بأنها كانت «تكتفي بختم الوصفات» من دون إجراء زيارات متابعة للمرضى.
ووفقا لمسؤول تنفيذي سابق، كان الرئيس التنفيذي يشجّع الموظفين على «ليّ القوانين»، ويقول لهم: «أول شخص يُعتقل، سأشتري له سيارة تسلا».
تحمل الحلول التكنولوجية لمعالجة مواطن ضعف الطب إمكانات مماثلة، كما تنطوي في الوقت نفسه على مخاطر لا تقل جسامة. فالذكاء الاصطناعي بات يبدو، على نحو متزايد، قادرا على التعامل مع حالات طبية معقدة.
وقد أعلنت المملكة المتحدة خططا لإطلاق ما يشبه «تشات جي بي تي خاص بالخدمة الصحية الوطنية» ليكون نقطة الاتصال الأولى للمرضى المحتاجين إلى رعاية أولية. وفي الولايات المتحدة، تقدم شركة دوكترونيك الناشئة زيارات طبية مجانية عبر الإنترنت مع «طبيب» يعمل بالذكاء الاصطناعي، مع إتاحة خيار مراجعة طبيب بشري لاحقا مقابل رسوم.
ولطالما كان الأطباء حراسا على بوابة التكنولوجيا الطبية، غير أن التكنولوجيا اليوم قد تصبح هي الحارس الذي يحدد الوصول إلى الأطباء.
غير أن الرعاية الصحية القائمة على الخوارزميات تأتي بمخاطرها الخاصة. فكثيرون يقولون إنهم تلقوا نصائح طبية خاطئة من روبوتات المحادثة، وإن التمييز بين المعلومات الطبية الصحيحة والخاطئة التي يولدها الذكاء الاصطناعي ليس بالأمر السهل. وتشير أبحاث حديثة إلى أن هذه الروبوتات، حين تُزوَّد بمعلومات غير صحيحة، تميل إلى تكرارها وتوسيعها.
وفي عرض قدمته إلى الجهات التنظيمية، حذرت رئيسة الجمعية الأمريكية لعلم النفس من أن روبوتات محادثة «تتنكّر في هيئة معالجين نفسيين» قد تكون «نقيضا» للرعاية المسؤولة. كما تتهم عدة دعاوى قضائية نماذج شركة أوبن إيه آي بالإسهام في حالات انتحار بين شبان، علما بأن الشركة نفت هذه الادعاءات في إحدى القضايا أمام المحاكم.
وفي وقت سابق من هذا العام، سمح قاضٍ بالمضي قدما في دعوى جماعية ضد شركة يونايتد هيلث كير.
ووفقا لموقع ستات المتخصص في الأخبار الصحيّة، أُجبر مرضى ضمن برنامج ميديكير، وهو برنامج التأمين الصحي الفيدرالي لكبار السن، على مغادرة مرافق إعادة التأهيل، أو على إنفاق مدخراتهم لمواصلة العلاج، لأن أداة ذكاء اصطناعي قررت أنهم كان يفترض أن يتعافوا بحلول ذلك الوقت. وأفادت التقارير بأن إحدى الشركات التابعة وضعت أهدافا تهدف إلى مواءمة فترات إعادة التأهيل بدقة مع مخرجات الذكاء الاصطناعي. وقد نفت يونايتد هيلث كير هذه الاتهامات، قائلة لموقع ستات إن الأداة لم تُستخدم لاتخاذ قرارات التغطية.
وروت امرأة تُدعى ميجان بينت قصة والدها، الذي كان في مركز لإعادة التأهيل بعد جراحة لإزالة ورم سرطاني من دماغه. ووفقا لأداة الذكاء الاصطناعي، لم يكن بحاجة إلا إلى بضعة أسابيع للتعافي، في حين قدّر جراح الأعصاب حاجته إلى ثلاثة أشهر. ربحت بينت استئنافين نيابة عن والدها، لكن بعد الاستئناف الثالث، رفضت الشركة تغطية علاجه. عاد الرجل إلى منزله مصابا بالتهاب السحايا، ثم عاد إلى المستشفى بعد ساعات قليلة، وتوفي.
وكان بول ستار، عالم الاجتماع في جامعة برينستون قد تنبأ على نحو دقيق بأنّ «تَشَرْكُنَ» الرعاية الصحية، أي تحولها إلى نموذج تقوده الشركات، سيعيد تشكيل النظام الصحي الأمريكي، وأن الأطباء سيفقدون قدرا من استقلاليتهم وسلطتهم. لكن ما فاجأه حقا، كما قال لي مؤخرا، هو صعود روبرت إف. كينيدي الابن، وما وصفه بـ «التحول الجذري» في سياسة العلوم الفيدرالية.
ففي عام 2025، ووفقا لصحيفة نيويورك تايمز، منحت إدارة ترامب تمويلا لآلاف المشاريع البحثية أقل من المعتاد، وهو ما أثّر في كل جوانب الطب تقريبا. وخلال هذا العام، قامت وزارة الصحة والخدمات الإنسانية الأمريكية بتسريح آلاف الموظفين، وأضعفت برامج حكومية مخصصة لمكافحة التبغ، والسلامة البيئية، والوقاية من الإصابات، والصحة الإنجابية. وقال ستار: «هذا جزء من مسعى تقوم به فئة من النخب لاستخدام الخطاب الشعبوي لتقويض فئة أخرى من النخب. لم أكن أتوقع أن تصل الأمور إلى هذا الحد، وبهذه السرعة».
وليست الأموال وحدها هي التي يُعاد توزيعها، بل الثقة أيضا. فعندما يدعو ترامب النساء الحوامل إلى «القتال بكل ما أوتين» من أجل تجنب تناول دواء تايلينول، وهو مسكن ألم شائع، مستندا إلى علاقة محل نزاع بالتوحد، أو عندما يعيد كينيدي تشكيل أهم لجنة استشارية للقاحات في البلاد بعد الإيحاء بأن أعضاءها السابقين كانوا فاسدين، فإن الرسالة الضمنية هي أن الأطباء لا يمكن الوثوق بهم كمصادر للحقيقة.
وقالت صوفيا روزنفيلد، أستاذة التاريخ في جامعة بنسلفانيا ومؤلفة كتاب «الديمقراطية والحقيقة»: «إن كون حركة «لنجعل أمريكا صحية مجددا» طفيليّة إلى هذا الحد على حركة «لنجعل أمريكا عظيمة مجددا» يوحي بأن ما يحدث في مجال الصحة ليس سوى جزء من تطور أوسع». وأضافت: «كل هذه الدعائم التي ساعدتنا على تنظيم انتقال المعرفة تمرّ بأزمة». ووفقا لاستطلاع حديث أجرته مؤسسة كاي إف إف بالاشتراك مع صحيفة واشنطن بوست، فإن كثيرا من الآباء غير متأكدين من صحة مزاعم كينيدي بشأن اللقاحات، فيما يفتقر نحو نصفهم إلى الثقة في قدرة الوكالات الصحية الفيدرالية على ضمان سلامة اللقاحات.
وعندما تُزاح مصادر السلطة القائمة، تصبح حالة عدم اليقين سمة مقصودة، لا خللا عارضا.
كانت مهنة الطب في القرن العشرين قوة مهيمنة؛ أما اليوم، فقد باتت أشبه بقوة إقليمية. وعندما تفقد القوة المهيمنة مكانتها، يكون أمامها أكثر من مسار. يمكنها السعي إلى الاستعادة، أي إعادة بناء «الإمبراطورية»، وهو ما قد يعني في هذه الحالة التشديد مجددا على دور الحراسة والتحكم في الوصول إلى الرعاية.
ويمكنها الانكفاء، بما قد يفضي إلى التخلي عن الدور العام الواسع للطب، والاكتفاء بالتركيز على الدخل والمهارات التقنية الضيقة. أما المسار الثالث، وهو في رأيي الأفضل، فهو إعادة الابتكار. إذ يستطيع الأطباء إعادة تشكيل مهنتهم عبر الاعتراف بالمشهد الطبي المتعدد الأقطاب الذي يعملون ضمنه اليوم، والاضطلاع بدور أشبه بـ«مُثبّت النظام»، من خلال التعاون مع قوى أخرى للمساهمة في صياغة القواعد والأعراف والعلاقات. فالقوة العظمى قد تتصرف وكأنها قادرة على الوقوف وحدها، أما القوى المتوسطة فتدرك قيمة الدبلوماسية وبناء التحالفات.
وإعادة ابتكار مهنة الطب ستتطلب انخراطا أوسع مع العالم خارج المستشفيات والعيادات. فكثير من الأطباء باتوا نشطين على وسائل التواصل الاجتماعي، وبرزت مجموعة من «أطباء تيك توك» الذين حصدوا ملايين المتابعين عبر مقاطع مصوّرة مبسطة وجذابة.
كما يبدو أن عددا متزايدا من الأطباء مهتمون بقيادة شركات للرعاية الصحية بأنفسهم، أو بخوض غمار العمل السياسي؛ ففي فبراير الماضي، أطلقت منظمة ضغط حملة تهدف إلى إيصال مائة طبيب إلى مناصب منتخبة بحلول عام 2030. غير أن الدبلوماسية تعني أيضا الاستعداد لمعارضة الآخرين. فقد أصدرت الأكاديمية الأمريكية لطب الأطفال والكلية الأمريكية لأطباء النساء والتوليد ومنظمات طبية أخرى هذا العام توصيات تعارضت مع مواقف الحكومة الفيدرالية.
وقبل أسابيع قليلة، كتب اثنا عشر مسؤولا سابقا في هيئة الغذاء والدواء الأمريكية، وجميعهم أطباء، أنهم «قلقون بشدة» إزاء «أحدث حلقة في سلسلة تغييرات مقلقة»، بعد أن خططت الهيئة لجعل الموافقة على اللقاحات الجديدة أكثر صعوبة. وكتبوا أن مثل هذه الخطوة «قد تُضعف قوة الهيئة، وكذلك صحة الأمريكيين وسلامتهم».
وليست كلية الطب مكانا للتدريب التقني فحسب، بل فضاءً للتشكّل الأخلاقي أيضا؛ فأن تصبح طبيبا يعني تبنّي طريقة تفكير، وكذلك طريقة سلوك. وقال ريتشارد بارون، اختصاصي الطب الباطني وطب الشيخوخة، والذي قاد حتى وقت قريب المجلس الأمريكي للطب الباطني: «ما نحاول فعله هو ما يجمع أبقراط، وأطباء القرن التاسع عشر، وأطباء اليوم، وهو: مساعدة الناس على الشعور بتحسن». وأضاف: «الطريقة التي نفعل بها ذلك تتغير باستمرار. أما الغاية، فلا تتغير أبدا». وهذا لا يعني أن الأطباء لا يخطئون، فهم يفعلون ذلك أحيانا وبشكل فادح، لكن المهنة المزدهرة هي التي تضع معاييرها، وتصحح أخطاءها، وتدافع عن نفسها في وجه التسليع غير المنضبط والاستغلال. وحتى اليوم، وفي لحظة يسودها قدر كبير من الشك، يبدو أن الجمهور لا يزال يقدّر ذلك. فالأمريكيون، على اختلاف خلفياتهم وتوجهاتهم السياسية، ما زالوا يثقون بدرجة كبيرة في أطبائهم الشخصيين.
وخلال السنوات الأخيرة، ومع تكاثر مصادر السلطة الطبية البديلة، شعر بعض الأطباء بالإحباط إزاء التحولات التي طرأت على طبيعة عملهم.
فأطباء الأطفال يقضون وقتا أطول في إقناع الأهالي بتطعيم أطفالهم؛ وأطباء الأورام يضطرون إلى طمأنة المرضى عندما تثير فحوصات التصوير بالرنين المغناطيسي لكامل الجسم، التي لا يوصي بها الأطباء عادة، إنذارات كاذبة. وأحيانا، أشعر بالانزعاج لأنني مضطر إلى ثني شخص عن إجراء شائع على وسائل التواصل، أو إلى إقناعه بأنه يحتاج إلى مضاد حيوي. وغالبا ما ينظر الأطباء إلى هذه المحادثات بوصفها تشتيتا، أو انحرافا عن «الطب الحقيقي».
لكن ينبغي لنا أن نفهمها على أنها باتت أكثر أهمية، بل في صميم عملنا. فاليوم، ينبغي أن تحل وجهة نظر الطبيب محل أوامر الطبيب.
وعندما التقيت جيم، كان ميلي الأولى أن أوبخه بسبب أخطار المكملات الغذائية، ولاحظت أنني أكاد أتبنى نبرة «ألم أقل لك؟»، التي كثيرا ما تميز الخطاب الصحي. غير أنني، وأنا أستمع إلى قصته، أصبحت أكثر فضولا وأقل انتقادا. وعلى الرغم مني، بدأت أستخدم أبسط مهارة في الطب، وربما في التفاعل الإنساني عموما: حاولت أن أرى الأمور من منظوره. قلت له إنني لو كنت مكانه، ربما كنت سأتصرف بالطريقة نفسها. وخلال الزيارة، لاحظت أيضا أن مستوى السكر في دمه مرتفع، وهو مؤشر محتمل على الإصابة بالسكري. وكان مطمئنا أنه وافق على مراجعة طبيب. بل إنه سألني إن كنت سأتولى رعايته. للأسف، عملي يقتصر على المرضى المنوّمين في المستشفى. وفي عالم تتوزع فيه السلطة، تصبح كل محادثة للطبيب فرصة لمساعدة المرضى على إدراك قيمة العلم والطب في حياتهم.
وخلال هذا العام، وجدت نفسي أستحضر قولا مأثورا سمعته لأول مرة في كلية الطب: «عالج أحيانا، وخفّف الألم غالبا، وواسِ دائما». وغالبا ما يُنسب هذا القول إلى أبقراط، لكنه على الأرجح يعود إلى إدوارد ليفينغستون ترودو، وهو طبيب أسس في القرن التاسع عشر مصحّة لعلاج السل في شمال ولاية نيويورك، في زمن لم تكن فيه المضادات الحيوية موجودة. ومع ازدياد قوة الطب، انصب تركيزه أكثر فأكثر على الشفاء على حساب المواساة.
غير أن ذلك ليس قدرا محتوما. وقال بارون: «الطب لن يستعيد مكانته القديمة. ولماذا يفترض بالإنسان العادي أن يهتم أصلا بما إذا كان للأطباء موقع مميز؟ ما يهمه هو: من سيساعدني عندما أحتاج إلى المساعدة؟».
ومؤخرا، تحدثت مع امرأة مسنّة سأسمّيها مارجريت، كانت قد عانت لعقود من إدمان الكحول، وكثيرا ما فَكّرَتْ في الإقلاع عنه. وقبل نحو عام، ساعدتها طبيبة الرعاية الأولية في الحصول على العلاج. وقالت: «كانت هي من واجهني بالحقيقة». وذات مساء، بدأت مارجريت تعاني أعراض انسحاب الكحول، من قلق ورعشة وتسارع في ضربات القلب، فراسلت طبيبتها، التي ردت فورا: «أنا هنا من أجلك. سألتقيك في قسم الطوارئ إذا رغبتِ في الحضور». قررت مارجريت البقاء في المنزل، وقضت الطبيبة معظم المساء تطمئن عليها. وقالت مارجريت: «تلك الطبيبة كانت السبب في أنني تجاوزت مرحلة الانسحاب الأولى. وهي السبب في أنني متعافية اليوم».
لقد عرفت طبيبتها ما تحتاجه، وحضرت في اللحظة الحاسمة، ورافقتها خلال أصعب الأوقات. وهذا بالضبط ما كان الناس يريدونه دائما من أطبائهم، وما سيظلون يريدونه منهم دائما.