أعمدة

مرافئ الختام..

ها قد انقضى عام آخر من حياتنا، وأظنه أسرع أعوام حياتي مرورا وانقضاء. ينقضي العام وقد بعثرت بعض ما في مكتبتي، كعادتي نهاية كل سنة؛ جردا لما قرأت، واستعدادا للعام الجديد. فوقعت على بعض السير التي قرأتها في مراحل سابقة وأخرى حديثة، فإذا بالسؤال ينبثق من بين ثنايا العقل والذاكرة؛ ماذا تفعل بنا كتب السيرة الذاتية، الحوارات، والمذكرات اليومية إذن؟

بدأ الأمر قبل سنوات، وقد كانت البداية مع الفترة الذهبية المصرية للقرن العشرين، والمعارك الأدبية التي أنتجت جيلا رائعا ورائدا في الأدب والفكر والفلسفة والترجمة والمسرح، فترة لم تبق مجالا فنيا أو ثقافيا إلا أضافت إليه، أو جددت فيه، أو أبدعت شيئا جديدا. فمن الجيل الذي بدأ البواكير الأولى مع الإمام محمد عبده والدكتور شبلي شميِّل والأديب المترجم يعقوب صرُّوف، إلى الجيل الذي تلا هؤلاء من العقَّاد وطه حسين والمحققين الكبار مثل محمود محمد شاكر وعبدالسلام هارون إلى تلاميذ هؤلاء جميعا ومن شبّ على آثارهم وأعمالهم، واكتست روحه الثقافية لحمها من كتبهم ومقالاتهم. وإن كان بعض هؤلاء الرواد ليسوا من أهل مصر، لكن أثرهم الذي أثّروه ومشعلهم الذي أشعلوه انبثق من أرض الكنانة وسطع فيها.

كانت لقراءة السيرة الثلاثية للعقاد والتي كتبها بنفسه «أنا»، و«خلاصة اليومية والشذور»، و«حياة قلم»، وكتابه «رجال عرفتهم»، وكتب أخرى من قبيل «في صالون العقاد كانت لنا أيام» لأنيس منصور -بغض النظر عن اللغط الذي يدور حول الكتاب- أثرها في رؤية شيء جديد تكرر في السير الذاتية والحوارات والتأملات التي قرأتها لاحقا.

ويتجلى ذلك في كتاب ساباتو «الممانعة» الذي تحدث مترجمه -أحمد الويزي- عن السبب اللغوي الذي حدا به لهذه الترجمة للعنوان في مقدمة ترجمته. «يدعونا الجدّ ساباتو إذن كي نمانع ضد هذا الانبطاح الكلي، وضد اللامبالاة الميتافيزيقية التي تشملنا، وضد جميع مظاهر الخنوع، والمغالطة، والاستغلال المفرط للإنسان والطبيعة. وسوف لن تكون هذه الممانعة ممانعة حقة، إلا بتدبير أولية الرغبة والإرادة تدبيرا فيه اقتناع بالممكن الآخر، وهي الرغبة التي تترجمها عمليا إرادة تواقة إلى تشييد حياة أفضل. إرادة فاعلة تعيد لنا الأمل في ما هو إنساني فينا، وتصالحنا مع ذواتنا، وأغيارنا، ومع محيطنا، ومع كوكبنا الأرضي. إرادة تؤسس لشرط إنساني بديل، وقادر على إنقاذنا، من خلال بعث الإنساني فينا من رميم اليباب».

يشترك هؤلاء جميعا -بعدما قرأت مؤخرا حوارا لعلي الوردي بعد بلوغه الثمانين- في شيء مثير بالنسبة إليّ يشترك فيه من أفنى حياته في شيء ما ثم نظر فيها إلى الوراء؛ الحكمة والسكينة التامة. أحب ذلك الصوت الذي يتحدث به المؤلف بعدما فقدت الحياة قدرتها على إخافته، الصوت الذي يجعله يقول الأشياء كما هي، كما كانت، لا كما ينبغي أن تكون، أو كما يُراد لها أن تكون. ذلك الصوت الهادر بسكينة، الباهر بضوء يجلو الظلمة والعمى، لا ضوء الشعاع الحارق الساطع. هذا الصوت الصادق للمؤلف، هو ما يجعل كتاباته تتجاوز زمنها، وتتسنم موقعها ومكانتها التي تليق بها في صرح الخلود الأبدي. فالخوف والرجاء عند كل إنسان هما ما يدفعانه إلى الصمت أو الصراخ؛ فهي كقول القائل:

إنما تطمح العيون من الناس

إلى من ترجوه أو تخشاه

في تلك اللحظة الحاسمة يصبح قول الأشياء واجبا حتميا؛ فهي شهادة للتاريخ للزمن الآتي، للحقيقة والحق، للمبدأ الذي يعيش لأجله الإنسان، ويموت في سبيله.

يتحدث حسين مُروَّة في «ولدت شيخا وأموت طفلا» عن حياته، وحياة من عاصرهم، وعن الشعراء الذين كان يمكن لهم أن يكونوا مختلفين لو أنهم «كانوا يقرؤون» والمرتبة التي كانت أليق بهم لو فعلوا، وعن آماله الآتية، وآلامه الماضية بينما يخبرنا مانغويل عن بورخيس كثيرا، وحواراتهما معا، فتشعر وكأنك تعيش في رواية أمبرتو إيكو «اسم الوردة» بمتاهاتها المضنية واللذيذة في آن.

لكن الممانعة لساباتو -وحديثه عن جدته خصوصا- يجعلني أتساءل: «هل يظل حنيننا إلى الطفولة أبديا؟» لم يكن ساباتو يتحدث عن جدته فحسب، بل عن الجدات اللاتي نحب، عن الحياة بمباهجها الحقيقية الكامنة في تلك الذوات النقية الشفيفة، لا في الزائل المتغير. هذه الذكريات المشتركة في وعينا الإنساني، ليست شيئا بدائيا ينبغي أن ننسلخ منه، نخجل منه، أو ننفيه، بل أن نعيشه ونعيد اكتشافه مرة تلو أخرى ما دمنا محاطين بهذه النعمة البالغة. أحب هذه الكتب التي تذكرني بالحقيقيّ فينا، لقمة الحلوى من يد أمي، مائة البيسة من أبي، «شاكليت البقرة» من جدتي، وضحكات العم سعيد الحسيني وهو يوزع الهدايا على الأطفال أينما ذهب وحل. هذه الذكريات التي تتجدد باللهب الصافي في أرواحنا، لم تكن عابرة قط، بل وُجدت لتبقى.

هذا النوع من الكتب ليس من صنف الكتب التي يتركها المرء على المنضدة ويمضي، أو ينساها بعد الفراغ منها في ركن قَصِيٍّ ومنسي في مكتبته، ونهاية العام تذكرنا بهذا النوع الحقيقي منها. لذلك لا أستطيع الفكاك من سحر كتاب «أهم خمسة أشياء يندم عليها المرء عند الموت» للمؤلفة الأسترالية بروني وير. فهو شبيه بالمأساة المتكررة لنا كبشر، المتمثلة في محاولة التجريب المستمر لابتكار حقيقةٍ تناسبنا؛ لأننا ببساطة نعتقد بأننا «مختلفون»، والإصرار على تجاهل الطبيعي الباقي فينا، في سبيل الامتثال لحتمية الفناء، وعدم التعلم من الأخطاء السابقة لمن قبلنا، بعبارة أخرى؛ ننسى أن الإنسان في ذاته، لم يتغير منذ الأزل. فالعائلة والأسرة والأخلاق العامة في التعامل معهم، كلها أشياء لا يستبدلها الزمان ولا تغيرها الظروف، فهي الثابت في المتغير الدائم للحياة.

تحتل هذه الكتب مكانة مختلفة في قلبي؛ فهي أقرب إلى التعاويذ المقدسة للروح، وليست مجرد ورق أبيض على المنضدة. وأظن أن قراءتها تُعمِّق الإنسانيَّ فينا، وتذكرنا بكينونتنا التي -قد- يصيبها الغَبَش في النهايات، كنهاية العام مثلا! فلا أعرف أين تحملنا الحياة، ما زلت لا أعرف حقا! وكل ما أعرفه فحسب أن محاولة أن نكون «كل شيء» لا يعدو أن يكون ضربا من الخيال، لكن أن نكون «نحن/ كينونتنا» له ثمنه الذي ينبغي أن نسدده ونقبل تسديده برحابة صدر وسكينة بال. فقد تعلمت من هذه الكتب، إرادة أن أنظر يوما إلى الوراء، فأبتسم؛ لأنني فعلت ما بوسعي في كل موضع كنت فيه، أن أتذكر أحبابي بأوقاتنا العذبة التي قضيناها سويا، أن أبتسم لفعلي ما بوسعي، لا أن أحزن لأنني أفلتُّ يدي قبل الأوان، أريد أن أزوّد أحبابي زادهم في حياة بعضنا فهكذا أفهم المعنى من الحياة، لا أن أحاول تزويدهم بأي شيء بعد رحيلهم أو وفاتهم. كي لا ينطبق على أحدنا قول الشاعر:

لا أعرفنّك بعد الموتِ تندبني

وفي حياتي ما زوّدتني زادي