العرب والعالم

ولادة تحت الحصار ، غزة تنجب الخدج في زمن الحرب والمجاعة

 

في خيمة مهترئة جنوب قطاع غزة، لم تكن سلمى ثابت (27 عامًا) من خان يونس تنتظر مولودها كما تفعل الأمهات عادة، بل كانت تعدّ الأيام وهي تحاول أن تُبقي جسدها واقفًا على القليل من الطعام والكثير من القلق. في شهرها الثامن، باغتها المخاض على غير موعد، مصحوبًا بمغص شديد ونزيف حاد، فيما كانت الأرض الباردة تحتها والهواء الشتوي القاسي يلفّ الخيمة من كل الجهات.
تقول سلمى بصوتٍ متكسّر: 'تواصل زوجي مع الإسعاف، لكنه وصل متأخرًا. وضعت طفلي رائد داخل الخيمة ، كان يصارع الهواء البارد '.لم يكن هناك سرير، ولا ماء ساخن، ولا يد طبية تطمئنها. نُقلت لاحقًا إلى مجمع ناصر الطبي، بينما وُضع طفلها في الحاضنة. لم يتجاوز وزنه كيلوغرامًا ونصفًا، وحين حاول الممرض إرضاعه الحليب الصناعي، فشل لأن عضلات فكه لم تكن مكتملة. بعد ثلاثة أيام فقط، انتهت الرحلة. بقيت سلمى وحدها، تقلب ملابس طفلها الصغيرة التي لم يرتدِها قط، وتحاول أن تفهم كيف يمكن للجوع والبرد أن يسرقا طفلًا قبل أن يبدأ حياته.
'طوال فترة حملي كنت أعيش على وجبة واحدة في اليوم... عدس أو أرز أو معكرونة. لا خبز، لا فاكهة، ولا حليب.' على بعد أمتار، تعيش هديل منصور (25 عامًا) شهرها السادس من الحمل داخل خيمة لا تقي من برد الليل ولا من ضغط الخوف. تراقب جسدها بقلق، وتعدّ حركات جنينها النادرة كما لو كانت تحصي أنفاسه. تقول: 'أشعر بحركة جنيني نادرة، أخشى أن يخرج قبل أوانه بسبب الضغط النفسي والجوع. كل يوم أتساءل: هل سأراه حيًا؟” في غزة، لا يُنهك الجوع الجسد فقط، بل يُثقل القلب بأسئلة لا إجابة لها، ويحوّل الحمل إلى حالة ترقّب دائم بين الحياة والفقد.
أما أسماء حاتم (34 عامًا)، فتختصر معاناة آلاف الأمهات بعبارة واحدة: 'أحاول أن آكل لأجل طفلي، لكن ما أتناوله لا يكفي.” داخل الخيمة، ينهار الجسد ببطء، ويصبح البرد رفيقًا قاسيًا لكل ليلة. الخوف من ولادة مبكرة يلاحقها، وفكرة ألا تجد ما تُطعم به طفلها القادم تتحول إلى كابوس يومي، في ظل انعدام الحليب والرعاية الطبية، وانسداد الأفق.
داخل المستشفيات، لا تبدو الصورة أقل قسوة. في مستشفى الصحابة بمدينة غزة، تنتظر ماجدة خالد (53 عامًا) خروج زوجة ابنها من غرفة الولادة، بينما لا تزال مشاهد ما رأته تطاردها. 'رأيت أربعة أطفال في حاضنة واحدة ، أجسادهم الصغيرة ترتجف من البرد. بعضهم لم يصمد.' تضيف بحسرة أن زوجة ابنها لم تحصل طوال الحمل على غذاء صحي، 'لا دجاج، لا بيض، لا فواكه، ولا حليب، حتى الفيتامينات كانت مفقودة.' هذه المشاهد تكشف حجم الاكتظاظ والانهيار داخل وحدات الحضانة، حيث يُكافح الطاقم الطبي بموارد شبه معدومة لإنقاذ حياة المواليد.
خلف هذه القصص، يقف واقع صحي منهار تؤكده البيانات الرسمية الصادرة عن صندوق الأمم المتحدة للسكان ووزارة الصحة الفلسطينية. ففي النصف الأول من عام 2025، سُجّل نحو سبعة عشر ألف ولادة فقط في قطاع غزة، بانخفاض يتجاوز أربعين بالمائة مقارنة بعام 2022. هذا التراجع لا يعكس انخفاض عدد الحوامل، بقدر ما يعكس ازدياد حالات الإجهاض والولادات غير الآمنة والوفيات الصامتة التي لا تصل إلى السجلات. خلال الفترة نفسها، وُلد أكثر من ألف وأربعمئة طفل قبل أوانهم، فيما احتاج آلاف المواليد إلى دخول وحدات العناية المركزة بسبب انخفاض الوزن أو ضعف الجهاز التنفسي. وتشير البيانات إلى أن عشرين طفلًا على الأقل فقدوا حياتهم خلال الساعات الأربع والعشرين الأولى بعد الولادة، بينما يُعد الأطفال منخفضو الوزن أكثر عرضة للوفاة بما يصل إلى عشرين ضعفًا مقارنة بأقرانهم.
هذا الانهيار لا ينفصل عن واقع المنظومة الصحية التي أنهكها القصف ونقص الوقود والأدوية وتعقيد الوصول إلى المستشفيات. من داخل مجمع ناصر الطبي، يصف الدكتور أحمد الفرا طبيب الأطفال المشهد بوضوح مؤلم، مؤكدًا أن معدل الخدّج وصل إلى مستويات غير مسبوقة، وتجاوز ستين بالمائة، في ظل نقص حاد في الأدوية والحاضنات وأجهزة التنفس. هذا التدهور يضع الطواقم الطبية أمام قرارات مستحيلة، حيث تُدار الحياة بأدوات أقل من الحد الأدنى، وتُوضع أحيانًا أكثر من حالة في حاضنة واحدة.
وتؤكد تقارير منظمة الصحة العالمية واليونيسف أن أقل من نصف المرافق الصحية في غزة تعمل جزئيًا، وأن أقسام الولادة والعناية المركزة تعاني نقصًا حادًا في الحاضنات والحليب الصناعي والمحاليل الأساسية ووقود تشغيل الأجهزة، وهو نقص يزداد فتكًا مع برد الشتاء. وفي الأشهر الستة الأولى من عام 2025 وحدها، انتهت نحو مئتين وعشرين حالة حمل بالإجهاض أو وفاة الجنين قبل الولادة، في مؤشر واضح على أن الخطر لا يهدد المواليد فقط، بل يسبقهم إلى أرحام أمهاتهم.
في غزة اليوم، لم تعد الولادة حدثًا طبيعيًا، بل معركة بقاء. كل ولادة مبكرة هي صرخة إنسانية، وكل طفل منخفض الوزن هو شهادة على جريمة صامتة. الأرقام هنا ليست إحصاءات جامدة، بل وجوه وأسماء وأمهات يلدن الخوف قبل أن يلدن الحياة. في ظل الحرب والجوع والبرد وانهيار النظام الصحي، يتحول الحمل إلى رحلة طويلة من الألم والترقّب رحلة لا ينبغي أن تُترك الأمهات في مواجهتها وحدهن.