عمان الثقافي

هكذا رجعت أحب القراءة من جديد

 

جيف جيلز / ترجمة - أحمد شافعي -

كل من نشر كتابا، أو حاول النشر، وجد أصدقاء وأهلا لا غنى له عنهم يوضحون له الأسباب التي لن تجعلهم يقرأون كتابه. ولا بأس. فلكل منا ذائقته وضغوط حياته اليومية. والإنترنت أيضا يستولي على انتباهنا طيلة الوقت، ولن يفكك هذا المجتمع الإنساني وحده. وفي النهاية، ينصت المرء ببعض الاهتمام لتلك الاعتذارات ممن لا يقرأون، بمثل ما ينصت لمضيفة الطائرة إذ تشرح له كيف يثبت حزام المقعد. غير أن شخصا ما فاجأني حقا قبل عشر سنين.

كنت قد أرسلت كتابا كتبته إلى سوزان دينارد، وهي كاتبة روايات خيالية رائجة كنت أحسدها على عقلها ورواياتها ورسالتها الإخبارية. لم تكن العلاقة وطيدة بيننا، فقط يعرف أحدنا الآخر، ولكنني كنت أتسول المساعدات، فإذا بها تبعث لي رسالة إلكترونية فيها رد لطيف: قالت إنها سوف تبحث عن سبل لدعم روايتي لكنها لن تستطيع فتحها بنفسها لأنها فقدت القدرة على الاستمتاع بالكتب وقالت: «أنا قارئة مكسورة».

كانت تلك هي المرة الأولى التي أرى فيها هاتين الكلمتين متجاورتين. وبمنتهى الأمانة، أول ما خطر لي هو «واو، هذا لغو بالغ اللطف، وحقيقته أنها لا تريد أن تقرأ روايتي».

ثم حدث في عام 2022 أن انقصم القارئ الذي كنت إياه.

كنت على مدار السنين قد ظننت أنني حددت ما أحتاج إليه من أي رواية: نظرة عميقة ما إلى سر عجز البشر عن الخروج مما هم فيه، من خلال حبكة لا تكون مسلسلا بوليسيا، وغنائية في غير استعراض. شيء راق دون أن يكون متراقيا، على حد تعبر لوري مور، لكن فجأة لم يعد بوسعي أن أنهي كتابا حتى نصفه. أي كتاب. لم يعد شيء يستولي عليّ. بات كل شيء يثير ضيقي. بات للكزبرة مثل مذاق الصابون.

كل ذلك كان مؤرقا، لأن إحساسي بنفسي وفهمي للعالم كانا مستمدّين إلى حد كبير من الكتب. فحينما كنت طفلا صغيرا كنت منطويا، وإن أريتكم صورة لشكل شعري في سنوات مراهقتي، لشككتم في وجود إله خيّر. كنت أحمل كتبا أينما ذهبت، إذ كانت لي سلوى ودرعا.

في الوقت الذي انكسرت فيها، كان لدي ضعف تجاه الروايات التي ترويها نساء ـ أمهات في الغالب ـ سحقتهن الحياة أو الحب. (هاي، أنا جيف. لو سألتموني عن عائلتي الأصلية...). كنت أركز على الشعر المفاجئ في الجمل حتى لأود في بعض الأحيان لو أن بوسعي أن أتقلص حتى أسير بداخلها. وليس لدي هنا من المساحة ما يكفي لأنقل كامل رواية «قسم التكهنات» لجيني أوفيل أو «الصديق» لسيجريد نونيز، لذلك أكتفي بفقرة صغيرة، متقشفة الجمال من رواية «المحبوب والضائع» لسوزي بويت: «في ذلك الصيف هطلت الجنازات هطولا. وليست الجنازات في بشاعة الأعراس كم قالت جين لأن الضرر فيها يكون قد وقع بالفعل». وإذن، مرحبا بكم في عالمي.

استغرقت أسابيع حتى أدركت أنني قارئ مكسور. تصورت أنني صادفت فترة حظ سيء في الاختيار. وبدأت أقلل الاحتمالات، فلا أشتري من الكتب إلا التي تبدو فعلا من النوع الذي أشتريه. فإذا بذلك يتحول إلى ما يشبه فيلم رعب أرجع فيه برواية إلى البيت، ثم أيأس منها بعد عشرين صفحة فقط، فأحملها إلى الرف، وثمة أكتشف ـ مع موسيقى كمنجة مضطربة ـ أنني سبق أن اشتريت نسخة أخرى من قبل ولم ترق لي أيضا. لو تبددت البهجة من شيء تحبه ـ وليكن الجنس أو المراسلات النصية الجماعية ـ فقد تذهب بك الظنون إلى أن ما جرى يتعلق بحالة اكتئاب عابرة. طبعا. ففي فترة كان البلد في طريقه إلى الجحيم. والاكتئاب يرغب في كل ما تقع عليه يداه. فما الشيء الذي يبعث فيك الهدوء عادة؟ أوه، القراءة؟ هاتها إذن!

أجريت بعض التجارب. فبدلا من البحث عن كتاب يمكنني الإبحار فيه بسلاسة، اشتريت كتابا وأنا أعلم أن قراءته سوف تكون شاقة. ربما كنت أعيش في عالم مقلوب رأسا على عقب؟ كانت رواية شهيرة سأطلق عليها «غائم مع احتمال وقوع حبكة». أنهيتها لا لشيء إلا أن أثبت لنفسي أنني قادر على ذلك. والحق أنني لم أقرأها بقدر ما استعرضت كلماتها استعراضا غائما مثلما نفعل مع اتفاقية الشروط والأحكام. فلم يسبق لكاتب أن حظي بفرصة أقل من تلك عدلا.

أما عن تجربتي التالية، فرجعت فيها إلى أكثر الأماكن أمنا، أعني الروايات التي أحببتها طوال حياتي. ولو أنك قارئ مكسور، فلا تستسلمن لغواية كتلك.

بمرور الشهور، صرت عاجزا عن قراءة أكثر من خمسين صفحة من أشهر كتب ذلك العام: (ديمون ذو الرأس النحاسي) و(الثقة) و(غدا وغدا وغدا) اقتسمت اثنتان من تلك الروايات الثلاث جائزة بولتزر. واثنتان منهما سوف تتحولان إلى السينما. والثلاثة كانت كتبا رائجة. وقد فصلت بينها على الرف كي لا تنهال عليّ بالسباب.

في الآونة الأخيرة، بعثت إل سوزان دينارد لأرى هل يتشابه مسارها مع مساره من أي وجه. قالت إنها لا تتذكر أنها استعملت تعبير (القارئ المكسور) الذي علق معي، لكنها تتذكر ولا شك ذلك الوقت من حياتها: «بدأ الأمر حينما صادفت أشق لحظة في مسيرتي العملية وكانت تقريبا في عام 2015، إذ كنت أعاني فعلا على الصعيد الشخصي وأيضا الإبداعي».

كانت السيدة دينارد تكدح في سلسلتها الروائية المعقدة «أرض الساحرات»، وتبين لها في أوقات الراحة أن بوسعها قراءة الأعمال غير الأدبية لا الروايات الفنتازية. قالت إن «أغلب ذلك كان ناجما عن انعدام الثقة في النفس، فقد كنت أعجز عن إيقاف المقارنة بين ما أحاول كتابته وما كنت أقرؤه. وبدا من المستحيل أن أضيف مزيدا من الكلمات إلى عقلي. لم يكن بوسعي أن أركز على كلمات شخص غيري وكلمات من داخلي في آن واحد. كنت مكسورة للغاية، لا كقارئة فقط، ولكن ككاتبة أيضا. بل لم يخطر لي أن أحاول قراءة أنواع روائية أخرى. كنت أحاول في شيء، وأمضي فيه لفصلين، ثم كأني بنفسي أقول ’لا، لا يمكن أن أفعل هذا’».

استمرت فترة جفافها القرائي ـ وما أشد إيلام محض كتابة هذا التعبير ـ لخمس سنوات. ساعدها أنها ألغت تطبيقات مواقع التواصل الاجتماعي من هاتفها أكثر مما ساعدها أي شيء آخر. لكنها بدأت أيضا تكتب روايات أقل إجهادا في العمل من قبيل سلسلتها الآسرة (أجرام السماء) عن مجتمع من صيادي الوحوش. وبدلا من محاولة قراءة روايات الفنتازيا والفشل في ذلك، بدأت تغرق نفسها في الروايات الرومانسية التاريخية التي أوصتها بها إحدى الصديقات. وقليلا قليلا بدأت الشمس تشرق.

انتهى سلسال خسائري في أواخر عام 2022 بعد قرابة عشرة أشهر. أتذكر بعض الشيء ذلك الرسم الكاريكاتوري من مجلة ذي نيويوركر قبل سنين. سائق عالق في ازدحام مروري على طريق سريع، ولافتة على جانب الطريق مكتوب عليها شيء من قبيل «عشرة أميال: سرعة المرور تتزايد بلا تفسير».

لعل احتمال انكسار الكتّاب أرجح من بقية القراء بسبب ما عندهم من الأنا وغيرها من مخاطر المهنة. لكنني أدركت أن مشكلاتي لم تكن تتعلق حقا بطريقتي في كسب عيشي، أو حتى بالقدرة على التركيز في القرن الحادي والعشرين. وإنما كانت علاقتها أكبر بشعور الاستحقاق الذي تكون لدي قارئا. لقد بدا وكأنني أنتظر من جميع الكتاب أن يسألوني شخصيا عما أريد أن أقرأه قبل أن يشرعوا في لمس لوحات مفاتيحهم.

حدث مرة بعد أن تسولت توصيات الكتب على مواقع التواصل الاجتماعي أن وضعت قائمة بطبيعة الكتب التي لا أريد أن أقرأها: أي إعادة تخيل لجين أوستن، الروايات ذات الرواة الخمسة متشابهي الأسماء متناوبي السرد، الروايات التي تكون شخصيتها الرئيسية مدينة أو عقدا أو فكرة، الروايات التي تدور عن امرأة من نبراسكا تعثر في علبة على رسائل والديها الغرامية، الروايات التي يبكي فيها شيخ موجوع الأسنان للمرة الأولى حينما يصدم وعلا بسيارته ذات الدفع الرباعي.

دون أن أدرك، كنت أضع كل روائي منذ البداية تحت المراقبة. كان عليّ أن أتوقف عن الظن بأنني أعرف أكثر من الكاتب، وأن أسلم نفسي للرحلة التي قضى الكتاب سنين في التخطيط لها. كان عليَّ أن أقرأ ببطء وأذكّر نفسي بأنني إن انتهيت من كتاب وقد كرهته فإن الشمس لن تبتلع كوكب الأرض.

في العشرينيات من عمري، كانت روايتي الأثيرة هي رواية «لو أن مسافرا في ليلة من شتاء» لإيتالو كالفينو التي ترتقي بفعل القراءة إلى الاستلاب التام. في الفصل الأول، يعرض كالفينو في مرح تعليمات تفصيلية للتهيؤ للقراءة. اجلس مستريحا بقدر ما تستطيع، أبعد كل الملهيات عن غرفتك، اضبط الإضاءة واطلب من الجميع أن يتركوك وشأنك. باختصار، أبعد كل فكرة عنك قبل أن تبدأ لكي «تمنح نفسك شرعية التوقع الشبابية هذه».

أتذكرون التوقع؟ حين كان له معنى يختلف عن الرهبة؟

بدأت قبل أيام أعيد قراءة رواية «لو أن مسافرا في ليلة من شتاء» وأبهجتني كدأبها من قبل، لكنها لم تعد روايتي الأثيرة كما كانت. يمكنني أن أفكر في كتب لكازو إيشيجورو وهاروكي موراكامي وخوسيه ساراماجو هي أكثر تأثيرا عليّ لأنها أفضح للاغتراب وانعدام الإنسانية والانهيار المجتمعي، وكل تلك اللطائف. لا أقول إن كتابا بعينه هو الأفضل، فثمة الكثير الذي لم أقرأه بعد، ومع ذلك فقد رجعت أقرأ بوتيرة ثابتة من جديد. وروايتي الأثيرة: ما زلت أبحث عنها.

جيف جيلز كاتب المقال روائي ومحرر تنفيذي سابق لأخبار هوليوود في مجلة فانيتي فير.

عن نيويورك تايمز