رأي عُمان

العرب بعد ربع قرن من الأوهام

 

يبرع العرب في إضاعة الفرص من بين أيديهم. تأتيهم على طبق من ذهب لكنهم يولونها الأدبار، وكأنهم لا يرونها ماثلة أمامهم أو أنها لا تعنيهم في شيء. تحاصرهم الخطوب وتدعوهم لوحدة الصف والقرار فيزدادون فرقة وبعدا. تنشط الدول في كل بقاع العالم لبناء تكتلات اقتصادية وسياسية وأمنية لمواجهة المستقبل، أما العرب فيدقون بينهم كل يوم «عطر منشم» كما يقول المثل العربي. وصلوا إلى هامش التاريخ فسكنوا إليه كمن طاب له المقام، ولا يعلمون أنهم يبتعدون عنه كل يوم، فيما حركة العالم تتسارع نحو الأمام.. والتاريخ لا ينتظر أحدا أبدا، حركته أزلية ومستمرة.

لم تبقَ إلا أيام وينتهي الربع الأول من القرن الحادي والعشرين وخسائر العرب فيه ضخمة جدا لم يكن يتوقعها أحد في اليوم الأول الذي أشرقت فيه شمس هذا القرن.

تكرست الصورة النمطية للعرب والمسلمين بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر مطلع القرن إلى حد أصبحت معه معادلة لصورة الإرهابي المتوحش القادم من كهوف ما قبل التاريخ لهدم الحضارة الغربية التي كانت في ذروة مجدها على حسب تقييم أصحابها على أقل تقدير. ثم خسروا العراق، الدولة القادرة في ذلك الوقت على بناء توازن القوة في الإقليم. وبسقوط العراق بدأ نسيج العالم العربي في التداعي، ودخلت الشعوب العربية في حالة انكسار ويأس لا مثيل لها.

ثم جاء «الربيع العربي»، واعتقد البعض للوهلة الأولى أن الأمة قفزت فوق حالة الانسداد الحضاري الذي عاشته لعقود طويلة.. لكن سرعان ما تكشفت الحقيقة، وتوالت الكوارث، ودخل العالم العربي في أفظع حالة فوضى في تاريخه الحديث. سقطت دول ما كان لها أن تسقط. وحاولت أخرى أن تستعيد مكانتها ولو على مضض، ولكن لا نهضة دون معرفة ودون يقين بالمستقبل وعمل من أجله.

وعندما جاءت كارثة غزة بانَ الضعف العربي جليا. سقط أكثر من سبعين ألف شهيد، وجوع أكثر من مليوني فلسطيني على مدار عامين كاملين؛ ولم تستطع الأمة بأكملها أن تدخل لأطفال غزة لتر حليب واحدا!

لكن أحدا لم يتعلم الدرس. ولم يسأل عن سبب الهوان والضعف، بل إن بعض مسارات القضية تكشف عن حالات تواطؤ ودعم للعدو الذي بات «صديقا» وإن كان سيفه مغمدا في صدر الأخ.

ولم يتغير السلوك العربي، فما زال هناك من يدفع دفعا نحو تقسيم اليمن إلى يمنين وربما إلى ثلاثة. وهناك من يصب الزيت فوق حرائق السودان دون أن يعي أن من يموت هناك هم بشر مثلنا في المقام الأول تجمعنا بهم روابط الإنسانية، ثم رابطة العروبة ورابطة الدين والعقيدة.

يحدث كل هذا في غياب أي صوت ثقافي أو فكري عربي يتشكل في قوة ليقول لكل هذا.. كفى. كفى من تقسيم المقسم، وكفى من العبث بمصائر هذه الأمة. كفى تفكيكا للقرار العربي، وارتهان أدوات القوة العسكرية والاقتصادية والغذائية والاجتماعية، وكفى لتحويل الخلافات لبوابات تدخل في الشأن الداخلي للغير ومحاولة تفكيكه وتقسيمه. لا صوت يضع الأحداث في سياقها الصحيح. أو نهضة فكرية تتشكل في وجه كل ما يحدث. اللهم إلا أصوات متفرقة هنا أو هناك لا يكاد يستمع لها أحد. وكأن الأمة مغيبة بما في ذلك مفكروها وكبار سياسييها.

العالم ينتقل من طور إلى طور ومن نظام إلى نظام والعالم العربي ما زال يفكر بمنطق القبيلة، وعداواتها ومنافساتها وأحقادها الدفينة. يخسر العرب كثيرا وعميقا..يخسرون استقلالهم ويستهلكون فكرة الدولة، وتتآكل هويتهم، ويتمزق نسيجهم الاجتماعي. ولا ينتظرون حتى مجرد حلم طوباوي ينتشلهم مما أوقعوا أنفسهم فيه. وهذا الفراغ الكبير يُملأ بالفوضى، أو يملؤه الآخرون بمعاييرهم وشروطهم ورواياتهم.