أفكار وآراء

موسم الحزن في الهند

ترجمة: بدر بن خميس الظّفري -

بعد صيف طويل وقاسٍ يشوي شمال الهند بحرارة تبلغ 40 درجة مئوية يُفترض أن يُستقبل الشتاء بوصفه متنفسًا. لكنه على العكس صار موسم حزننا؛ فقد حلّت مرة أخرى حالة الطوارئ السنوية بسبب التلوث حاملةً معها ثلاثة أشهر من الاختناق الجسدي والنفسي لمئات الملايين من الهنود.

أعيش في دلهي إحدى أكثر المدن الكبرى تلوثًا في العالم، والتي يلفّها الشتاء بصفرة باهتة أقرب إلى لون الصور العتيقة منها إلى مدينة حيّة في الحاضر.

رائحة الهواء سامة تترك حرقًا معدنيًا في الحلق وتلسع العينين. وغدت هذه الأزمة الصحية سمةً ثابتة من سمات الحياة اليومية يمكن التنبؤ بها تمامًا كما يُتوقّع معها الخوفُ العامُّ والشللُ الحكوميُّ اللذان يتكرران سنويًا. ومرة أخرى تجاوزت مستويات التلوث في مدينة دلهي الحدود العليا لمؤشر جودة الهواء الحكومي مرارًا لتدخل نطاق «الخطر»، أو ما يفوق بمائة مرة ما تعتبره الهيئات الصحية العالمية آمنًا. ومع ذلك يبدو هذا العام مختلفًا.

فقد خرج سكان دلهي للمطالبة بحقهم في التنفّس في احتجاجات كانت للمرة الأولى كافية لتتصدر عناوين الأخبار. وهذا أول شتاء لي كأب لطفلة رضيعة كان يفترض أن يكون حضورها مصدر فرح خالص، لكنه يضيف طبقة جديدة من القلق بشأن ما يفعله تلوث الهواء بأعضائها التي لا تزال في طور النمو، وبـ«حق الميلاد البيئي» الذي نتركه لجيلها. إن «قيامة الهواء» تملي الإيقاعات الأساسية للحياة وروتينها، وتدفعنا إلى الاحتماء داخل المنازل خلف نوافذ مُغلقة بشريط لاصق حيث تدور الأنشطة حول جهاز تنقية الهواء الذي يطنّ طوال اليوم في جهدٍ مضنٍ لا طائل منه.

نراجع موقع جودة الهواء على الإنترنت بمواظبة تشبه متابعة المتداولين لمؤشرات البورصة. وعندما يقفز التلوث يتحول الموقع إلى اللون الأحمر دالًا على ظروف خطرة، ويعرض ـ على نحو «مفيد» ـ صورة متحركة لطفل ممدد على الأرض يرتدي قناع غاز. يكون هواء دلهي عادة في أسوأ حالاته صباحًا، ثم يتحسّن قليلًا قرب منتصف النهار. عندها يسارع كثيرون لإنجاز حاجاتهم قبل أن يعود الاختناق مساءً. السعادة هي أن تهبّ نسمة، فتخفض مؤقتًا مستويات الملوِّثات من «شديد» إلى «سيئ جدًا».

ويقوم سكان المدينة الأكثر ثراءً التي يزيد عدد سكانها على 30 مليون نسمة بتركيب أنظمة هواء نقي مضغوط تخلق فقاعة مُحكمة داخل الشقق، ويحمل بعضهم أجهزة محمولة لقياس جودة الهواء أينما ذهبوا. وكثيرون ببساطة يغادرون دلهي تمامًا بوصفهم لاجئي الضباب الدخاني.

لكن معظم الناس لا يستطيعون تحمّل هذه الرفاهيات؛ فملايين يعيشون في مساكن دون المستوى بفتحات تهوية مفتوحة لا يمكن إحكامها، ولا خيار لديهم سوى الخروج يوميًا لكسب رزقهم. وفي مدينة تتسع فيها هوة عدم المساواة صار الهواء نفسه خطًّا فاصلًا جديدًا بين الأغنياء والفقراء.

لأكثر من عقد من الزمن حافظت عاصفة مثالية على هذا الوباء السنوي. هناك لعنة الجغرافيا البسيطة ـ جدار جبال الهيمالايا الذي يمنع تشتت الهواء الملوّث ـ تتفاقم مع هواء الشتاء الأبرد والأثقل. مواقع البناء المغبرة وملايين السيارات في دلهي وفي الإقليم الأوسع تزيد الضباب كثافة، كما يفعل الحرق الموسمي لمخلّفات المحاصيل في الولايات المجاورة. وتُهيمن مدن شمال الهند على قوائم أكثر 100 مدينة تلوثًا في العالم، ولا تكسر هذا الاجتياح إلا أسماء أجنبية قليلة.

في كل صباح أحمل ابنتي إلى نافذة شقتنا. وبشكل شبه انعكاسي يشرق وجهها عند رؤية العالم الأوسع، وتتابع الناس والدراجات وهم يمرّون داخل العتمة في الخارج ويخرجون منها. ينجذب الأطفال إلى الحركة، ويرغبون في الإحساس بإيقاع الهواء الطلق.

لكن هذه اللمحات عبر زجاج نافذة متّسخ هي كل ما أستطيع السماح به. يثقلني شعور بالذنب حيال نوع الطفولة التي نوفّرها لأطفالنا، وعجزٌ يتقاسمه كثير من الآباء الذين أعرفهم.

فالهواء مختنق بجسيمات أدقّ من الغبار يمكنها أن تعبر الرئتين وتصل إلى مجرى الدم رافعةً مخاطر الإصابة بأمراض القلب وسرطان الرئة والسكتات الدماغية وغيرها من التهديدات الصحية. والكلفة البشرية مروّعة؛ فبحسب مجموعات مستقلة للبحث في الصحة العامة قد يكون تلوث الهواء مرتبطًا بأكثر من 17 ألف وفاة في دلهي عام 2023 ـ أي نحو 15 في المائة من إجمالي الوفيات في المدينة ذلك العام. وقدّرت دراسة حديثة أن التعرّض الطويل الأمد لتلوث الهواء قد يسهم في ما يصل إلى 1.5 مليون وفاة سنويًا في الهند.

ويعتقد كثير من الهنود على نحو خاطئ أنهم قادرون من دون أي أساس علمي على بناء مناعة ضد المرض بمجرد استنشاق هذا الهواء. سألتُ مؤخرًا سائق دراجة نارية أجرة كيف يستطيع العيش مع هذا التلوث؟

كان السر بحسب قوله شرب مزيج من أعشاب محلية والسكر غير المكرّر (الجاغري) لـ«تنقية» رئتيه. حين تصبح الحقيقة لا تُحتمل تتحوّل الأوهام إلى الملجأ الوحيد الذي يستطيع بعض الناس تحمّله.

إن معالجة أزمة بهذا الحجم تتطلب عملًا منسّقًا عبر ولايات عدة، وبإلحاح يماثل جهدًا حربيًا. وقد بدأت الحكومة تعترف بالحاجة إلى جهد جماعي، لكن الاستقطاب السياسي في البلاد، وبيروقراطيتها المجزأة وغير الكفؤة لا يزالان عائقين. ففي كل شتاء تُصدر حكومة دلهي خطة عمل تتضمن حلولًا مألوفة تتمثل في رشاشات ومضخات مياه لإنزال الجسيمات إلى الأرض، وآلات كنس الطرق، وإجراءات للحد من الغبار في مواقع البناء، وخطط استجابة طارئة مختلفة، وغير ذلك.

ولا يبدو أن شيئًا من هذا قد نجح.

ومع ذلك يبقى التلوث ـ على نحو يثير الدهشة ـ خارج الحسابات الانتخابية؛ ففي قائمة القضايا الدائمة التي تشكّل سلوك التصويت في الهند الدولة الأكثر سكانًا في العالم ـ الوظائف والتضخم والنمو الاقتصادي وتدبير شؤون المعيشة ـ يأتي تلوث الهواء الموسمي في ذيل القائمة.

وما يزيد تقبّل هذه الحقيقة صعوبة هو أننا نعلم أن ثمة ما يمكن فعله؛ فقد عاشت بكين يومًا تلوثًا ملحميًا، وتمكّن نظام الحزب الواحد في الصين من معالجته بسرعة وقوة تتعذّران على ديمقراطية تتحرّك عبر اللجان والمحاكم والائتلافات.

سيمضي الشتاء، وستصمت أجهزة تنقية الهواء، وتعود الحياة إلى طبيعتها، لكن ذلك لن يكون سوى إفراج مؤقت عن حكم لا ينتهي.

أنوراغ مينوس فيرما مدوّن صوتي هندي ومؤلف كتاب «العفن الذهني الهندي العظيم: الحب والأكاذيب والخوارزميات في الهند الرقمية».

الترجمة عن نيويورك تايمز