الفجوة بين القيم الدينية والتطبيق العملي تهدد تماسك الأسرة
الاثنين / 1 / رجب / 1447 هـ - 16:30 - الاثنين 22 ديسمبر 2025 16:30
حوار - خالد بن محمد البلوشي
تُعد الأسرة اللبنة الأولى والأساس في بناء المجتمع المسلم، فهي التي تحدد ملامح الاستقرار أو بوادر الاضطراب داخل أي مجتمع؛ إذ إن ما يُغرس داخل الأسرة من قيم وسلوكيات ينعكس بشكل مباشر على أمن المجتمع وتماسكه.
وعندما تتعرض الأسرة للاهتزاز أو التفكك، فإن آثار ذلك لا تقتصر على داخل جدران البيت، بل تمتد لتشمل المجتمع بأسره. ومن هذا المنطلق، حظيت الأسرة بمكانة رفيعة في التشريعات الإسلامية، ليس باعتبارها إطارًا اجتماعيًا عابرًا، بل كنظام متكامل يقوم على أسس دينية وأخلاقية واضحة، هدفها حماية الإنسان منذ نشأته وضمان تماسك المجتمع واستقراره.
ومع التحديات الفكرية والسلوكية التي يواجهها البناء الأسري، وظهور مؤشرات على ضعف الروابط داخل بعض البيوت، واتساع الفجوة بين الأجيال، تبرز الحاجة إلى إعادة النظر في دور القيم الدينية في حماية الأسرة وتعزيز تماسكها، بمنظور عملي يلامس الواقع اليومي للأسرة العُمانية.
إذ إن تصاعد بعض مظاهر التفكك والانحرافات السلوكية لدى الأبناء يطرح تساؤلًا جوهريًا حول مدى حضور منظومة القيم في حياتنا الأسرية.
وأشار الدكتور سالم بن تعيب العريمي، دكتور في الشريعة، إلى أنه يلحظ في واقع العديد من الأسر وجود فجوة واضحة بين القيم التي تُتداول في الخطابات الدينية والتربوية، وبين الممارسات الفعلية داخل الحياة الأسرية اليومية.
فالقيم حاضرة في الوعي العام، لكنها غالبًا ما تغيب عند لحظة التطبيق العملي، وينعكس غيابها في صور متعددة، منها التفكك الأسري، وضعف الحوار بين الآباء والأبناء، وظهور أنماط سلوكية مقلقة لدى بعض الناشئة.
وأكد العريمي أن هذه المؤشرات لا تعني بالضرورة غياب القيم، بقدر ما تكشف عن خلل في تفعيلها وتحويلها إلى منهج عملي قابل للتطبيق.
وأضاف العريمي: إن المجتمعات المسلمة قد سئمت من التنظير الذي يقدمه العديد من المفكرين، الذين لا يبرزون القيم كخطة عمل واقعية يمكن أن تُترجم إلى سلوك يومي يستفيد منه المجتمع في الارتقاء بنفسه وتحقيق التماسك الأسري المنشود. فبدون خطة عمل واضحة الأهداف والمعالم، يصبح المجتمع كمن يحرث في أرض سبخة لا تقبل الماء ولا تُنبت الكلأ.
وانطلاقًا من هذا التشخيص، طرح الدكتور العريمي سؤالًا محوريًا حول التصورات العملية والتنفيذية التي يمكن أن تتبناها الأسرة للحفاظ على معتقداتها الدينية والحضارية، وإبقاء أعرافها وتقاليدها الموروثة حية.
وأوضح أن هذه التصورات تمثل القيم الدينية، التي تكتسب أهمية بالغة في ظل ما يواجهه الأبناء من دعوات منحرفة ومسارات مشبوهة قد تقودهم إلى الانجراف والانخراط في سلوكيات إجرامية يدفع المجتمع ثمنها لاحقًا.
وأكد العريمي أن الإجابة على هذا السؤال لا تكمن في تشديد الرقابة أو فرض القيود، بل في بناء منظومة قيمية فاعلة قادرة على حماية الأبناء من الداخل، عبر ترسيخ القيم والمبادئ التي تقود السلوك اليومي، وتحصّن الأسرة والمجتمع على حد سواء.
وأشار إلى أنه لا بد من وضع رؤية واضحة، وأهداف محددة، وخطة، وبرنامج عمل، حتى يتحقق للكلام قيمة ومعنى وتأثير عملي، وحتى لا يبقى الخطاب القيمي مجرد شعارات تُردد دون تطبيق.
ويرى الدكتور العريمي أن الرؤية التي وضعتها الشريعة الإسلامية لتحقيق الاستقرار والتماسك الأسري، وجعلتها الهدف الاستراتيجي لمنظومة القيم الإسلامية، هي صفة «التقوى».
وعرّف العريمي التقوى، من منظورها اللغوي، بأنها الوقاية، وهو ما عبّر عنه فقهاء الإسلام قديمًا بالقول: «هي أن تجعل بينك وبين ما يغضب الله حاجزًا وقائيًا يحميك من الوقوع في المعصية، ويجنبك الخطأ، وفي الوقت ذاته يدفعك إلى الالتزام بالطاعة والسلوك القويم الذي حدده الشرع».
وأضاف العريمي: إنه لما قال الله تعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾، دلّ ذلك على أن مقصود الشارع هو الوصول بالإنسان أو الأسرة إلى تحقيق هذا البعد الاستراتيجي. فالتقوى ليست مجرد فضيلة فردية، بل هي الغاية التي من أجلها خلق الله الذكر والأنثى، وجعلهم أسرًا وشعوبًا وقبائل، لتكون أساسًا للتماسك الاجتماعي والاستقرار الأسري.
وأشار الدكتور العريمي إلى أن الشريعة، حين جعلت التفاضل بين الناس قائمًا على التقوى، أرست هدفًا تربويًا واضحًا للأسرة، يتمثل في بناء إنسان يمتلك القدرة على الضبط الذاتي، ويعتاد السلوك السليم كنمط حياة دائم، لا استجابة مؤقتة لضغط خارجي. ومن هذا المنطلق، فإن تفعيل منظومة القيم داخل الأسرة يجب أن يكون موجّهًا نحو تحقيق الهدف الاستراتيجي، الذي يمثل الغاية العليا من وجود الأسرة والمجتمع.
وعند الانتقال إلى الجانب التطبيقي، يرى العريمي أن القيم الدينية مثل الرحمة، والمودة، والعدل، والحوار، والوازع الديني، تشكل جميعها عناصر ضمن منظومة واحدة. لكن الإشكالية الحقيقية تكمن في غياب الآليات التي توضح كيفية ممارستها في الواقع الأسري. فالمجتمع، بحسب وصفه، بات يحفظ القيم ويجيد الحديث عنها، لكنه لا يعرف كيف يترجمها إلى سلوك يومي للأبناء، وهو ما أفرغ هذه القيم من تأثيرها العملي الحقيقي.
وأشار الدكتور العريمي إلى أن هذا الجانب التطبيقي كان محور اهتمامه في عدد من مؤلفاته وأبحاثه، من بينها كتابه «المهارات السلوكية في التعامل الاجتماعي»، الذي تناول فيه كيفية تطبيق القيم النبوية في الحياة الأسرية والاجتماعية، مستلهِمًا النموذج النبوي بوصفه نموذجًا عمليًا لبناء الإنسان وكسب القلوب، مشيرًا إلى أن تحويل القيم إلى ممارسة عملية يحتاج إلى خطة تنفيذية واضحة، تبدأ بتحديد الرؤية، ثم وضع آليات وأهداف زمنية لتفعيلها داخل الأسرة. فكيف نغرس قيم المودة، والرحمة، والحوار، حتى نحمي أبناءنا وأسرنا من مزالق التفكك الأسري؟
وأضاف: إن التزكية ليست مجرد وعظ أخلاقي، بل هي عملية تربوية مستمرة تهدف إلى تهذيب النفس، وتنمية السلوك الإيجابي، وترسيخ القيم في الواقع العملي. وأوضح أن تقديم التزكية على التعليم في النص القرآني يعكس أهميتها في بناء الإنسان، إذ لا يثمر التعليم دون تهيئة النفس والقلب، كما جاء في قوله تعالى:
﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾ (الجمعة: 2).
وأشار العريمي إلى أن التاريخ الإسلامي شهد ازدهارًا لمدارس التزكية، حيث تعلّم الناس فيها الأدب، وصفاء القلب، والحلم، والعفة، والإخلاص، والصبر، والحب والمودة، وأدب الحوار والاحترام.
وقد انعكس ذلك على استقرار المجتمع نفسيًا وأخلاقيًا، رغم بساطة العيش وقلة الموارد.
وأكد أن هذه التجربة التاريخية تقدم نموذجًا عمليًا يمكن الاستفادة منه في إعادة بناء الأسرة المعاصرة.
وفي حديثه عن قيمة المودة، بيّن أنها تمثل أحد الأعمدة الرئيسة للتماسك الأسري، فهي تعبير عملي عن المحبة، التي تُعد في الشريعة الإسلامية أساس التزكية. فرأس العبادة في الشريعة هو محبة الله تعالى، وجناحاها الخوف والرجاء، وبدون هذه المحاور الثلاثة لا تكتمل روحانية العبادة والقرب من الله.
وأوضح أن المحبة في التصور الإسلامي ليست مجرد شعور داخلي، بل سلوك يُترجم في المعاملة اليومية، ويُبنى عليه الاستقرار النفسي للأبناء. وأكد العريمي أن المحبة تُعد من أكثر أعمال القلوب حضورًا في السنة النبوية، لما لها من أثر بالغ في بناء الإنسان والمجتمع.
وأوضح الدكتور العريمي أن البيوت التي تفتقد إلى تفعيل قيمة الحب هي بيوت خاوية على عروشها، تتحول إلى بيئات طاردة لأبنائها، حيث يسعى الأبناء إلى إشباع احتياجاتهم العاطفية خارج إطار الأسرة.
وأضاف: إن بعض التصرفات الأخرى، مثل التهور في القيادة، أو أعمال الشغب، أو خرق النظام، غالبًا ما تنم عن فقدان الاحتواء والتقدير داخل البيت، مؤكدًا أن الكثير من السلوكيات المنحرفة يمكن فهمها على أنها تعبير غير مباشر عن نقص التقدير والاحتواء الأسري.
وأشار إلى أنه في بحثه بعنوان «أعمال القلوب والحكم التكليفي المترتب عليها في ضوء القرآن والسنة»، وجد أن أكثر عمل قلبي ورد ذكره في السنة النبوية هو الحب، وقد وافقه في ذلك ستة
باحثين بدرجة أستاذ دكتور ممن ناقشوا هذا البحث.