رغم ثقافة الهزيمة.. يستطيع العرب الحفاظ على الإنجاز الأكبر لطوفان الأقصى
الاحد / 29 / جمادى الآخرة / 1447 هـ - 21:22 - الاحد 21 ديسمبر 2025 21:22
خلال العامين ونيف لطوفان الأقصى، لم تمل دوائر صنع القرار ونخبها الإعلامية الموجهة في العديد من الدول العربية من ترديد معزوفة أننا لا نستطيع فعل أكثر مما فعلناه مع أمريكا وإسرائيل في حرب غزة.
هذه الدوائر التي تغلغلت فيها ثقافة الهزيمة منذ خمسين عامًا رفضت كل الخطوات الكبيرة معتبرة أنها ستدخلها في صدام مع الولايات المتحدة لا قبل لها به.
ورفضت هذه الدوائر استخدام أوراق الضغط المؤثرة مثل سحب الاستثمارات الهائلة في الغرب، أو فرض الحظر النفطي، او إلغاء اتفاقيات التسوية السياسية «، واتفاقات التطبيع المجاني الإبراهيمية، أو العودة للمقاطعة التجارية والاقتصادية لإسرائيل.
في محاولة مستمرة من كاتب هذه السطور لإثبات أن هذا تضليل سياسي للشعوب، وأن هناك خيارات كثيرة فعالة ولا تجلب مواجهة وكسر عظام تم تجاهلها عن عمد؛ جرى طرح سياسات واقعية في كل مرحلة من مراحل الحرب -على الأقل- للتسجيل التاريخي خاصة عندما تحدث تغيرات هيكلية في النظم الحاكمة، كما حدث بعد إخفاق الحكومات في حرب ١٩٤٨، فلا يزعم هؤلاء أن ذلك كان مفاجأة أو بدون مقدمات أحبطوا فيها الشعوب.
وبسبب ثقافة الهزيمة والرخاوة السياسية وانعدام الإرادة وهيمنة نخب علي صنع القرار ترتبط مصالحها ارتباطا وثيقا بالمركز الرأسمالي العالمي تم تجاهل هذه السياسات الواقعية.
في هذا المقال محاولة أخرى لإثبات أن العرب يقدرون إذا أرادوا ودون الدخول في معركة مباشرة مع القطب الأمريكي، كما يصورون ويهولون.
الأهم من ذلك أن هذه المحاولة تتعلق بالمحافظة على الإنجاز الأكبر لطوفان الأقصى وهو انتقال التعاطف الشعبي العالمي لأول مرة منذ ٧٣ عاما إلى الفلسطينيين وليس للإسرائيليين.
سقطت السردية الإسرائيلية التي تدعي أنها الضحية وصعدت السردية الفلسطينية والعربية التي تقول الحقيقة أي أن إسرائيل دولة إبادة جماعية متوحشة وعنصرية لا تستطيع الحياة إلا بإشعال حرب أبدية.
الانتصار الأكبر بالمعنى الاستراتيجي والذي يمكن أن يتحول إلى انتصار تاريخي هو انتقال هذه التأثيرات إلي الساحة الأمريكية وخلقها شرخًا مذهلاً في جدار التأييد الأمريكي المطلق لإسرائيل وهو شريان الحياة للكيان إذا انقطع يوما سقطت إسرائيل في اليوم التالي.
هذا التغير الهائل لم يقف عند حدود اليسار والتقدميين والليبراليين والشباب وقواعد الحزب الديمقراطي بل امتد للمحافظين وقواعد في الحزب الجمهوري وحركة «ماجا « قاعدة تأييد ترامب وصاحبة شعار أمريكا أولا.
يعتذر نواب في الكونجرس علنًا عن قبول أموال اللوبي الإسرائيلي في أمريكا خاصة آيباك، ويخجل آخرون من ربط ماضيهم ومستقبلهم السياسي بها. الاختراق لصالح فلسطين وقضيتها العادلة في أمريكا والغرب والذي تحمل معظم أعلامه أجيال «زد» الشابة التي ستقود الحكم في المستقبل، لم يحدث من قبل إلا مع قضيتي فيتنام وجنوب أفريقيا.. لكن الأخيرتين استطاعتا أن تحولهما من تغيير في المزاج إلي تغيير بنيوي، ومن تعاطف مؤقت لتحول دراماتيكي في السياسات الأمريكية فاضطر نيكسون وكيسنجر الذين أججا أوار الحرب بنفسيهما للتراجع والتوقيع في باريس على اتفاق السلام والانسحاب الكامل من فيتنام.
ضغطت واشنطن على حكم الأبارتهايد للأقلية ـ البيضاء في جنوب أفريقيا للتخلي عن نظام التفرقة العنصرية وصار الرمز الإنساني العالمي نيلسون مانديلا أول رئيس من السكان الأصليين يحكم جنوب أفريقيا الحرة.
هل يمكن للعرب أن يحافظوا على مكسب أن القضية الفلسطينية بعد صور الإبادة الموثقة في غزة باتت قضية داخلية في أمريكا والبلدان الغربية يتم على أساسها الفرز السياسي وتتحدد فرص ونسب الشعبية للأحزاب والشخصيات العامة.
هل يمكن تحويل الالتحام الذي حدث بين فلسطين والحركات الاجتماعية إلى التحام مؤسسي وليس التحامًا عابرًا في مظاهرات مهما كبرت ستنقص مع الوقت ومهما طالت ستنفض؟
إن هذا التحول في الرأي العام العالمي والضغط المذهل الذي مارسه على الحكومات لم يكن مهمًا لولا الالتحام الذي تم مع حركات اجتماعية مثل حياة السود مهمة، وحركات حقوق الإنسان، والحركات العمالية، والمجموعات التي تكافح ضد النظام النيوليبرالي الذي أضعف نظام الرفاهة الاجتماعية وزاد معدلات الفقر والبطالة في الدول الغنية.
المسألة هنا لا تتعلق فقط بعنصر النسيان أو النجاح النسبي الذي حققته الخدعة الكبرى المسماة خطة ترامب في خطف الاهتمام الإعلامي والسياسي عن غزة بكذبة أنه تم وقف الحرب وتحقيق السلام في الشرق الأوسط مر. لكنها تتعلق بما يمكن وصفه بالهجمة المضادة المنظمة والمنسقة التي تقوم بها إسرائيل والولايات المتحدة والدول الغربية الكبرى مثل ألمانيا وفرنسا وبريطانيا لتدمير الإنجاز الفلسطيني والعربي والإنساني الأكبر من طوفان الأقصي ومنعه من التحول لحقيقة سياسية راسخة تعدل مسار التاريخ في القضية الفلسطينية كما سبق وأن حدث مع فيتنام وجنوب أفريقيا.
منذ أن اعترفت إسرائيل بأنها خسرت حرب السردية ومنذ أن اعترف ترامب بأن الانحياز لإسرائيل صار سببًا لتدمير مستقبل أي سياسي في واشنطن صارت الحرب على السردية والحرب على الأفئدة والعقول هي جوهر الصراع الدائر الآن.
هذه حرب يستطيع العرب أن يدخلوها ولا تتطلب مواجهة عسكرية لجيوش من الواضح أنها لاتريد أن تحارب، أو حظر نفط، أو مقاطعة، أو تجميد للمعاهدات، أوحتى توقف عن التنسيق العسكري الشائن وراء الأبواب مع إسرائيل عبر القيادة المركزية الأمريكية وحلف النقب.
الأمريكيون والإسرائيليون أخذوا زمام المبادرة لكسر ما يعتبرونه أكبر خطر على توظيف أداة وظيفية حربية كإسرائيل مكنت الإمبراطورية الأمريكية من الهيمنة على نفط وثروات وقرار العالم العربي إلا ما رحم ربي؛ وهذا تحد مخيف، ولكنه فرصة سانحة أيضا؛ إذ يكفي هنا فقط أن يدرس العرب تكتيكات الإستراتيجية الأمريكية / الإسرائيلية ويردوا عليها بتكتيكات مضادة.
التكتيك الأول هو إعادة السيطرة والتلاعب بالخوارزميات في تطبيقات وسائل التواصل الاجتماعي أو السعي للسيطرة على الوسائل التي لا تقع تحت السيطرة الغربية مثل تيك توك و التيليجرام.
حتى نعرف مقدار الخطورة، فبعد شهور قليلة من الحملة تقول بعض التقديرات إن المحتوى المؤيد لغزة والفلسطينيين انخفض بنسبة ٧٠٪.
يستطيع العرب هنا بناء منصات رقمية عربية جديدة تتحكم هي في خوارزمياتها وليس الشركات الكبرى المتورطة مع إسرائيل وساعدتها في حرب الإبادة مثل جوجل ومايكروسوفت.. الخ.
منع النسيان الموجه والإبقاء على توثيق الصورة والصوت لحربي الإبادة والتجويع يصبح ميسورا مع منصات عربية ومع محتوى متطور يربط القضية الفلسطينية بقضية حرية التعبير المقدسة في الغرب والتي ينتهكها منع السردية الإسرائيلية في وسائل الإعلام الكبرى أو محاولة طمسها في الإعلام الرقمي والجديد.
وسيلة أخرى مخيفة هي عملية الترهيب التي تتم للطلاب وأساتذة الجامعات والناشطين بعمليات الفصل من الدراسة والعمل، «الأسبوع الماضي تم طرد استاذة مرموقة من هارفارد لتعاطفها مع فلسطين». الفنانون في هوليوود ودول الغرب الذين وقفوا ضد إسرائيل يتم منعهم من المشاركة في أعمال فنية جديدة.. الأسوأ هو عمليات القبض على النشطاء المؤيدين لفلسطين ووصول بعضهم على حافة الموت كما هو الحال الآن في بريطانيا.
تستطيع المؤسسات الثقافية والأكاديمية والقانونية العربية غير الحكومية، ولكن بدعم حكومي، تقديم دعم قانوني لهؤلاء وتحويل قضيتهم قضية رأي عام في بلادهم، لأنه ينتهك الدستور والحق في الكلام والتعبير.
فإذا كان الهدف هو كسر هؤلاء وتخويفهم ليصمتوا، وإرهاب باقي الناس من الانضمام لهم، يمكن للعرب الوقوف مع الحق وتقديم فرص للعمل أو المشاركة في برامج أكاديمية مع الجامعات العربية.
ومواسم الفنون العربية التي تنفق المليارات تستطيع دعوة واحتضان مارك رافالو وسوزان ساراندون ويواكيم فينيس بدلا من دعوة مايكل دوجلاس الذي ذهب إلى إسرائيل في عز الإبادة الجماعية مؤيدًا علنًا آلة القتل الإسرائيلية المسماة بجيش الدفاع. أعرف أن هذه الخطوات سهلة ولا تكلف مواجهة، ورغم ذلك أشك مثل كل من عاتبني من الأصدقاء على أنه مازال لدي أمل الاستمرار في المحاولة تلو المحاولة مع الطبقة الحاكمة في معظم البلدان العربية.. ولكن التاريخ الذي لم يرحم في الماضي من الذين لم يتعظوا من دروسه لن يرحم في المستقبل من سار على طريقهم.
حسين عبد الغني كاتب وصحفي مصري