أفكار وآراء

خطورة حنين ترامب لمبدأ مونرو

ترجمة: قاسم مكي

إذا كان هنالك شعار يمكن ربطه باستراتيجية الأمن القومي الجديدة لإدارة ترامب فهو ببساطة «جعل أمريكا قوة إقليمية مرة أخرى».

تبدأ وثيقة الاستراتيجية بتوجيه نقدٍ قاس لعقودٍ من السياسة الخارجية الأمريكية كانت خلالها الولايات المتحدة قوةً مهيمنة عالميًا تهتم بمصالحها حول العالم، وتروِّج للعولمة وتتبنى المؤسسات الدولية، وتتحمل أعباء دولية.

لكن يقال لنا (في الوثيقة) بدلا من ذلك أن على الولايات المتحدة تعريف مصالحها بشكل محدودٍ جدا.

وفي حين تعترف الاستراتيجية بمصالح قليلة في أوروبا وآسيا إلا إنها تقول بوجوب أن تكون المصلحة الأساسية لأمريكا في جوارها بالجزء الغربي من الكرة الأرضية (الأمريكتين).

وهي بذلك تستحضر مبدأ مونرو وتضيف إليه «ملحقا ترامبيا» يبدو شبيها جدا بملحق روزفلت الذي سبق أن أعلنه الرئيس الأمريكي تيدي روزفلت. (يقول مبدأ الرئيس الأمريكي جيمس مونرو باختصار أن أي محاولة بواسطة قوة أوروبية للتدخل في الشؤون السياسية لأي بلد في الجزء الغربي من الكرة الأرضية سيعتبر عملًا معاديًا للولايات المتحدة.

أما ملحق روزفلت فيقول من حق الولايات المتحدة بل واجبها التدخل في شئون البلدان الأخرى في هذا الجزء من العالم لحماية أمنها ومصالحها- المترجم).

لقد أوضح وزير الخارجية ماركو روبيو مؤخرًا أن شعار «أمريكا أولا» يعني الاهتمام أولا بالمنطقة التي نعيش فيها.

هذا كله يبدو منطقيا؛ لكنه ليس كذلك؛ فالولايات المتحدة هي البلد الأقوى على مدار التاريخ. وتلك القوة زادت في الواقع خلال العقود الثلاثة الأخيرة مع هيمنة شركاتها وتقنياتها على العالم. ولا يمكن أن تَقْصِر نفسها على ما يحدث في حديقتها الخلفية دون أن تترتب عن ذلك عواقب جسيمة سواء لنفسها أو للعالم.

من المهم فهم الحقبة التي أعلن فيها الرئيس مونرو عن المبدأ الذي أخذ اسمه (مبدأ مونرو) في عام 1823. وقتها كانت الولايات المتحدة جمهورية زراعية صغيرة عدد سكانها حوالي 10 ملايين نسمة وبها 24 ولاية معظمها شرق نهر المسيسيبي، وكان نصيبها من الناتج المحلي الإجمالي العالمي 2.6% أو حوالي عُشْر حصتها الحالية. وكانت قواتها المسلحة صغيرة بحيث لم تُدرَج ضمن أكبر 15 جيشا في العالم من حيث عدد الأفراد العسكريين.

كان مبدأ مونرو يعترف باستقلال عدة بلدان أمريكية لاتينية تحررت من الإمبراطوريتين الإسبانية والبرتغالية ويحذر القوى العظمى في أوروبا من التدخل لإعادة استعمارها. لقد كان يناصر مبدأً معاديا للاستعمار والتدخل.

يبدو من العبث قصر (رؤية) الولايات المتحدة على ذلك المنظور اليوم. فهي عملاق دولي له مصالح حول العالم. ومنح الأولوية لحديقة أمريكا الخلفية يجعل واشنطن تركز على إحدى المناطق الأقل أهمية في العالم اقتصاديا.

فتجارة الولايات المتحدة مع كل بلدان أمريكا اللاتينية الى جانب المكسيك بلغت حوالي 450 بليون دولار في عام 2024. وتجارتها مع الاتحاد الأوروبي كانت أكثر من ثلاثة أضعاف ذلك الرقم عند 1.5 تريليون دولار.

أما تجارتها مع آسيا فتزيد عن تريليوني دولار. (التبادل التجاري لكل من كندا والمكسيك مع الولايات المتحدة كبير جدا. لكن هذه البلدان الثلاثة مترابطة فيما بينها بحيث تعتبر من بعض النواحي اقتصادا واحدا هو اقتصاد أمريكا الشمالية.)

عندما صاغ الدبلوماسي الأمريكي جورج كينان استراتيجية الاحتواء التي كسبت الحرب الباردة تحدث عن وجود خمسة مراكز للقوة الاقتصادية في العالم هي الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وأوروبا الغربية معا والاتحاد السوفييتي واليابان.

(شكلت سياسة الاحتواء التي ابتدعها كينان أساس الاستراتيجية الأمريكية لخوض الحرب الباردة بين1947و1989 مع الاتحاد السوفييتي وارتكزت عليها السياسة الخارجية للرئيس ترومان. كما كانت إطارا لخطة مارشال لإعادة بناء اقتصادات أوروبا بعد الحرب وتأسيس حلف الناتو - المترجم.)

اعتقد كينان أن على الولايات المتحدة الحفاظ على صداقة المراكز الثلاثة غير السوفيتية لواشنطن؛ ورغم الحاجة الى تعديل تلك القائمة اليوم (بإضافة الصين وإدراج بريطانيا وألمانيا في قوة أوروبية واحدة) ستظل الاستراتيجية الأساسية هي نفسها ولن تتغير. أي الحفاظ على صداقة المراكز الكبرى للقوة الاقتصادية.

لكن بدلا عن ذلك تُخضِع وثيقة إدارة ترامب الاستراتيجية الأمريكية الى جزء هامشي من الاقتصاد العالمي.

ثمة تنبيه ضروري هنا وهو أن استراتيجية الأمن القومي الترامبية وثيقة مفككة؛ فهي تلصق معا أجزاء يبدو أن من كتبوها أشخاص مختلفون، وكثيرا ما تناقض نفسها وتتبني أفكارا بلا قيمة.

جاء في الوثيقة «السياسة الخارجية للرئيس ترامب عملية دون أن تتبني البراجماتية وواقعية دون أن تعتنق الواقعية ومبدئية دون أن تكون مثالية وحازمة دون أن تكون متشددة ومنضبطة دون أن تكون حمائمية.»

هنالك أجزاء من الوثيقة تبدو فيها الاستراتيجية أكثر استعدادا للعب دور عالمي؛ لكن الفكرة المركزية هي على نحو ما أوضحته.

ما تقترحه إدارة ترامب لا يختلف كثيرا عما اقترحه الانعزاليون الأمريكيون (دعاة العزلة) في سنوات العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي. وهو الابتعاد عن الشئون الأوروبية ومحاربة الهجرة.

وقتها، كما هي الحال الآن، ترافق التشكيك في جدوى الارتباط الأمريكي بالعالم مع مشاعر العداء للهجرة حين خشي المواطنون بالميلاد من عدم قدرة «الأغراب» على الاندماج في المجتمع الأمريكي وشرَّعوا قيودا واسعة للحدّ من الهجرة. (هؤلاء الأغراب غير القابلين للاندماج كانوا آيرلنديين وايطاليين ومهاجرين من بلدان جنوب أوروبا ويهود. ويبدو أن كل هؤلاء اندمجوا بكل سلاسة.)

استراتيجية ترامب للأمن القومي مهووسة بالنظر الى الهجرة كمهدد للأمن القومي وتوشك على المحاجّة بأن أخطر مهدد تواجهه الولايات المتحدة اليوم هو الهجرة الى أراضيها والهجرة الى أوروبا. وتقول إنها تثير احتمال «المحو الحضاري» للغرب.

الوضع العالمي يشبه كثيرا سنوات العشرينيات. فالولايات المتحدة هي البلد الوحيد في العالم الذي لديه القدرة على الحفاظ على استقرار النظام العالمي. وانسحابها من العالم سيوجد فراغات قوة ستملؤها قوى أخرى أقل إحساسا بالمسئولية.

قبل قرن مضى رفضت أمريكا تحمل عبئها وانهار النظام الدولي مما قاد الى الحرب العالمية الثانية. واليوم هنالك قوى أخرى عديدة لبسط الاستقرار في العالم. لكن أمريكا التي تهتم أساسا بحديقتها الخلفية ستترك العالم بلا دفَّة ودون استقرار وفي أوضاع فوضوية. دعونا نأمل في ألا يتوجَّب علينا تعلم ذلك الدرس مرة أخرى.

فريد زكريا كاتب رأي في صحيفة واشنطن بوست ومقدم برنامج يتناول القضايا الدولية والشؤون الخارجية على شبكة سي ان ان