عندما تتحول الحكومة إلى شريك يسائل ذاته أمام المجتمع
السبت / 28 / جمادى الآخرة / 1447 هـ - 22:14 - السبت 20 ديسمبر 2025 22:14
اختار آلاف المواطنين في أكتوبر الماضي الموضوعات التي يريدون مناقشتها في الملتقى السنوي الذي تنظمه الأمانة العامة لمجلس الوزراء «معا نتقدم» وذلك عبر تصويت إلكتروني. واليوم يبدأ التسجيل لحضور فعاليات الملتقى في نسخته الرابعة. ولا يحضر المجتمع لفعاليات «معا نتقدم» للاستماع ولكن لنقاش مفتوح مع المؤسسات ومن يمثلها، وفي العادة يحضر أصحاب المعالي الوزراء للنقاش الذي ينقله التلفزيون على الهواء مباشرة.
ثمة إشارة هنا إلى تحول عميق في آليات إدارة النقاش العام، فالأمانة العامة لمجلس الوزراء لم تحدد هي أولويات النقاش أو أولويات المرحلة بل حدّدها المجتمع، فهو يرى أولوياته التي تستحق نقاشا عميقا ومفتوحا مع «الحكومة» ومؤسساتها. النقطة الثانية أن الأولويات التي حددت من خارج «الحكومة» لا تناقش خارجها ولكن في عمقها في ملتقى تنظمه الأمانة العامة لمجلس الوزراء نفسها وعلى مرأى ومسمع الجميع في إشارة لا تخفى أن المرحلة تستوعب الجميع. والأمانة التاريخية الواقعة على عاتق الجميع تحتم على الجميع المشاركة في النقاش وطرح الأفكار لتجاوز كل التحديات والعقبات التي قد تواجه مسيرة التنمية أو الوصول بعمان إلى حيث الطموحات الكبيرة.
في الكثير من البلدان النامية تدار التنمية عادة عبر خطط وأرقام ومؤشرات تُقرأ من أعلى إلى أسفل. في هذا الملتقى يحدث العكس، تُطرح تصورات الناس وتوقعاتهم وأولوياتهم أولا، ثم تُستدعى لغة المؤسسات لتشرح، وتفكك، وتدافع، وتراجع. وبين اللغتين مساحة ثمينة تتكون فيها الثقة عمليا، حيث تطرح المؤسسات مبرراتها لاتخاذ قرار من قراراتها، وتستعرض لماذا تأخر قرار آخر، وما حدود الممكن وما حدود الوعد. وتحضر الشفافية باعتبارها المعرفة المتبادلة التي تمنع سوء الفهم قبل أن يتحول إلى مزاج عام ومواقف متحيزة ضد أي مؤسسة من المؤسسات.
لا توحي محاور النسخة الرابعة بأنها ستكون ندوة عامة وعابرة. المحاور المطروحة تشير إلى أن الحوار يمكن أن يدخل إلى الجوهر العميق، إلى رؤية «عُمان 2040» بين واقع الإنجاز وآفاق التقدم، والاستثمار في القطاعات ذات الأولوية، وتنمية المحافظات وصلتها بالصناعات التحويلية والسياحة والاقتصاد الرقمي، وتجويد الخدمات الحكومية لتعزيز الإنتاجية والتنافسية، والعمل الحر وريادة الأعمال، ثم جلسة مركزة حول الخطة الخمسية والقطاعات ذات الأولوية بوصفها فلسفة اقتصادية تُختبر في السوق وفي الإدارة وفي قدرة الاقتصاد على خلق قيمة وفرص عمل. وكلها موضوعات تحتاج إلى نقاش عميق وإلى أطروحات جذرية بعيدة عن العاطفة فهي كلها ضمن خريطة طريق عُمان نحو المستقبل.
تكمن أهمية مثل هذه الملتقيات حينما ننظر إلى حجم فئة الشباب المشاركة فيها بالنظر إلى النسخ السابقة من الملتقى. وأهمية الشباب لا تتحقق بوصفهم «أمل المستقبل» كما تقول العبارات الجاهزة ولكن لأنهم يعيشون الاحتكاك اليومي مع مفردات التنمية؛ الوظيفة، والتدريب، والريادة، ووعود الاقتصاد الجديد. ومثل هذه الملتقيات التي تطرح فيها الأسئلة المباشرة بسقف المهنية وقواعد النقاش فإن المشاركين أو المستمعين يتعلمون السياسة المدنية في صورتها الحقيقية، كيف تصاغ المشكلة، وكيف تُقاس، وكيف يُسأل المسؤول بلا عداء وبلا تملق، وكيف تُنتج الأفكار بدل الاكتفاء بتبادل الشكوى.
يذهب الملتقى، أيضا، إلى خطوة أبعد من الكلام مع وجود مبادرة «صُنّاع الأفكار»، فهو يحاول نقل الحوار من مستوى التشخيص إلى مستوى الاقتراح، حيث تُختَبر الفكرة وتُحوَّل إلى حل قابل للتطبيق ولو كنموذج أولي.
ويؤدي الملتقى دورا يدرب الحضور على إدارة الاختلاف داخل المشروع الواحد.. وهذا في حد ذاته اعتراف ضمني بأن التنمية ليست خطا مستقيما، وأن مراجعتها جزء من قوتها لا من ضعفها. كما أن الحوار الشفاف الذي يدار خلال الملتقى يقلل مساحة الإشاعات ومحاولة تضليل الناس ويضعف لغة القطيعة بمعناها البسيط وبمعناها الفكري العميق، وتتحول الحكومة من مؤسسات تعلن إلى شريك يشرح ويحاجج، ويسائل نفسه أيضا أمام المجتمع.
وحين تُبنى الثقة بهذا المعنى، يصبح الشباب أكثر الفئات قدرة على تحويلها إلى طاقة عمل، ويشعر الناس بأنهم شركاء في الفهم وليسوا مجرد متلقين للنتائج.