أفكار وآراء

المشاركة السياسية الإيجابية

تمثل المشاركة السياسية قوة للمجتمعات الحديثة، التي تدفع أفراد المجتمع إلى المشاركة الفاعلة في بناء أوطانهم، من خلال ما يقدمونه من آراء ومقترحات وحلول للتغلب على التحديات؛ فهي مشاركة تنمي لديهم الشعور بالمسؤولية وتعزز روح المبادرة والاعتماد على النفس، إضافة إلى أهميتها في دعم توجهات الولاء للمجتمع، وبالتالي الدافعية نحو العطاء والتفاعل الإيجابي.

إن مفهوم المشاركة السياسية اليوم يتطلب فهما عميقا من حيث تلك الإمكانات التي تتيحها للأفراد لمناقشة الموضوعات التي تخص مجتمعهم، أو مشاركتهم الفاعلة في الترشح أو الانتخاب في المؤسسات المدنية والبرلمانية.

ولأن المجتمعات اليوم أكثر انفتاحا وقدرة على التواصل مع بعضهم بعضا ومؤسسات المجتمع، فإن ذلك جعلها في مواجهة العديد من التحديات خاصة في ظل وجود وسائل التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية المختلفة، التي أدت إلى تعقيد هذا المفهوم تارة، وجرّه إلى منعطفات ومنزلقات لا تؤدي إلى المشاركة الإيجابية بقدر ما تنذر بخطر التطرف والغلو.

فالمشاركة السياسية تشير إلى أولئك المشاركين الفاعلين وقدرتهم على توجيه المسارات من خلال تلك الأنشطة الفاعلة والمؤثرة في صناعة القرارات، والأمر هنا لا يتمحور على إمكاناتهم في إدارة الجماهير وجذبهم بقدر ما يرتكز على مستوياتهم وإمكاناتهم التطويرية القائمة على الأهداف العامة للمجتمع، أي المصلحة العامة لا مصلحتهم الشخصية. إن مشاركتهم هنا ترتبط بمدى ولائهم لمجتمعاتهم ومهارتهم الشخصية والقيادية التي تخولهم ليكونوا مرشحين ومنتخبين.

إن المستوى الأعلى من المشاركة هنا يرتبط بممارسة الأنشطة السياسية خاصة خلال الانتخابات البرلمانية أو انتخابات مجالس الاتحادات والجمعيات المدنية، التي نجدها تتخذ أبعادا تكشف مدى الإيمان بأهمية هذه الممارسات الديمقراطية في المجتمع، وعمق الفهم العام لمستوى هذه الممارسات؛ ذلك لأن هذا الفهم وذاك الوعي سينتج عنه أساليب المشاركة السياسية نفسها سواء على المستوى الأول المرتبط بالعضوية والحضور والتفاعل، أو مستوى الاهتمام العام، أو عدم الاكتراث، أو على المستوى الأخير الذي ينحو إلى التطرف والعنف، وهو مستوى سيجر المجتمع نحو التفكك بدلا من تحقيق الأهداف ولذلك أطلق عليه (المشاركة السلبية).

لقد حظي دعم المشاركة السياسية وتمكينها بالاهتمام الكبير من قبل المجتمع، لما تمثله من تعزيز لدور الأفراد في صناعة القرارات التنموية في كافة المجالات، ولعل تاريخ المشاركة الانتخابية في المجالس البرلمانية ومجالس إدارة الجمعيات المدنية، رسخ مفهوم تلك المشاركة ودعم توجهات الدولة في تعزيز أنماطها وتمكين الأفراد، وحوكمة أنظمتها بما يضمن تحقيق مبادئ الشفافية والنزاهة من ناحية، وضمان حصول الأفراد جميعا على حق الترشح والانتخاب.

يقيس مؤشر المشاركة السياسية في دول مجلس التعاون الخليجي 2025، المشاركة السياسية والاجتماعية والثقافية في هذه الدول، فهو يمزج بين مجموع السياقات المفاهيمية وبين الخصوصيات التاريخية ومميزات أنظمة الحكم فيها؛ حيث يقدم هذا الإصدار قراءات لمسارات التحول في أداء دول مجلس التعاون التي تهدف إلى تمكين مواطنيها أو تقييدها في المشاركة السياسية، إضافة إلى أنه يوضح الأسباب التي دعت إلى تحسن أداء تلك الدول أو تراجعها في معايير المؤشر وفق ما قامت به من تشريعات وقوانين أو هياكل مؤسسية، أو استراتيجيات وممارسات.

وانطلاقا من أن المشاركة السياسية هي (أحد أهم مقومات إنجاز الدولة الحديثة والديمقراطية) ـ حسب تقرير المؤشرـ فإنها تنعكس على حياة أفراد المجتمع في الدول وقدرتهم على المشاركة الفاعلة في صنع القرارات والتأثير في الحراك التنموي والتفاعل مع ما يمر به المجتمع من أزمات وتحديات، ودعم التوجهات العامة للدولة، والسعي من أجل تحقيق الأهداف الوطنية التي من شأنها المساهمة في تنمية الوطن وتحقيق ازدهاره.

إن المشاركة السياسية لا تنفصل عن ثقافة المجتمع وتاريخه، وأنماط تحولاته الاجتماعية عبر التاريخ، لذا سنجد أنها ترتبط بمفهوم الدولة باعتبارها منظومة اجتماعية في الأساس تقوم على تنمية الإنسان وتحفيزه ليؤدي دوره في بناء وطنه، إنها مكون أصيل من مكونات الدول خاصة في العصر الحديث مع وجود المتغيرات المتسارعة وتفاقم المشكلات الناتجة عنها، فهي بهذا المعنى ترتبط بتحقيق الأفراد لطموحاتهم وقدرتهم على المشاركة الإيجابية الفاعلة في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بغية تحقيق الأهداف التنموية الكبرى لمجتمعهم.

يخبرنا المؤشر أن سلطنة عمان مستمرة في تحسن أدائها؛ إذ حققت أعلى تقدم بين دول المجلس (22 درجة)، فهي تحتل المرتبة الثانية، وقد تقدمت في مقياس (مؤسسات المجتمع المدني) 9 درجات، ومقياس (حرية الرأي والتعبير) 5 درجات، إضافة إلى تصدرها مقياس (تمثيل الجماعات والأقليات) 83 /100 درجة، إلا أنها تحتاج إلى العمل من أجل تعزيز مكانتها في مقياس (التوازن الجندري وإشراك الشباب)، حيث جاءت في نهاية القائمة.

إن التحديات التي يبرزها تقرير المؤشر في سلطنة عمان، والتي انعكست على بعض المقاييس، تتلخص ـ حسب التقريرـ في صلاحيات المؤسسات التشريعية، وعدم وضوح السياسات التشجيعية لترشح المرأة ودعم انتخابها في المجالس البرلمانية الانتخابية، وكذلك عدم وضوح السياسات الخاصة بإشراك الشباب وتمكينهم، وهي تحديات يمكن تجاوزها من خلال إيجاد مجموعة من الممكنات، خاصة في ظل سعي الدولة إلى تمكين المرأة في كافة القطاعات والمجالات التنموية، مما يدعم إيجاد سياسة ناظمة لترشح المرأة وتركيز الجهود المبذولة من أجل دعمها وتوعية المجتمع بأهمية مشاركتها.

إضافة إلى الاهتمام المتزايد بقطاع الشباب باعتباره أساسا وغاية لأهداف الرؤية الوطنية عمان 2040؛ فالشباب العماني مشارك بفاعلية في بناء هذه الرؤية، وفاعل في صناعة القرارات، وما توليه الدولة من رعاية للشباب وتمكين وجودهم في المنتديات الشبابية ودعم مبادرة برلمان الشباب وغيرها الكثير، يؤكد أهمية التسريع في استراتيجية الشباب وتشجيعهم إلى المشاركة الفاعلة في جمعيات المجتمع المدني حتى في عضويات مجالس إدارتها، إضافة إلى ترشحهم في البرلمانات الانتخابية وتعزيز وجودهم باعتبارهم أعضاء قادرين على المشاركة وعلى تغيير المفاهيم القائمة بأخرى أكثر مواكبة للتطورات التي تنشدها الدولة.

إن تمكين المشاركة السياسية للمرأة والشباب له أثر مهم في كافة المستويات التنموية؛ إذ ينطلق بناء المجتمعات من تكامل الرؤى بين كافة الفئات، خاصة في ظل ما يواجهه المجتمع والعالم بأسره من تحديات اجتماعية وثقافية في ظل الانفتاح غير المدروس لوسائل التواصل الاجتماعي والتقنيات الحديثة عموما، وبرامج الذكاء الاصطناعي بشكل خاص، لذا فإن مبادئ المشاركة والتعاون والتفاعل هي ما يؤسس مواطنة إيجابية قادرة على الصمود في وجه تلك المتغيرات للحفاظ على وحدة المجتمع وهويته الوطنية.

عائشة الدرمكية باحثة متخصصة فـي مجال السيميائيات وعضوة مجلس الدولة