العرب والعالم

مجزرة مدرسة التفاح تفضح «الهدنة الكاذبة»

 

غزة- «عمان»- بهاء طباسي: لم يكن الشاب الفلسطيني محمود البرش يعلم أن خطواته السريعة تلك الليلة ستقوده إلى فقدٍ كامل، لا يُبقي في الروح متسعًا سوى للصراخ. في ساحة مستشفى الدرة المظلمة، انحنى محمود بجسده النحيل فوق كيس أبيض مُلقى على الأرض، كأنما يحاول أن يعيد الحياة إلى جسدٍ صار صامتًا إلى الأبد. كان يحتضن الجثمان بقوة، يضغط عليه بذراعيه المرتجفتين، ويهمس بأدعية متكسرة، رافضًا أن يتركه لبرودة الليل.

قلب مكسور

حول محمود، تجمّع رجال ومواطنون، بعضهم يحاول مواساته، وبعضهم يحاول سحبه بعيدًا عن الجثمان لتهدئته. غير أنّ الشاب كان يتشبث بالكيس الأبيض كما لو أنه آخر ما تبقى له في هذا العالم. كانت عيناه شاخصتين، ودموعه تنهمر بلا توقف، فيما صوته يرتفع بالدعاء والنداء، قبل أن ينهار تمامًا صارخًا «يا الله»، في لحظة بدت كأنها تختصر كل وجع غزة. على بعد خطوات، كانت جثتان أخريان ترقدان على الأرض؛ واحدة لزوجته، والأخرى لطفله الصغير. هناك، انفجر محمود باكيًا وهو ينادي ابنه: «فوزي.. فوزي.. بالله عليك تقوم يا فوزي.. لا تروح وتسيبني لحالي.. يا الله!». حاول الحضور سحبه، تعالت الأصوات «خلاص.. قوم.. أمسكوه»، فيما قال أحدهم بصوت مخنوق «هذه جثة ابنه الطفل في الكفن الأبيض.. أشلاء.. أشلاء.. أشلاء.. لا حول ولا قوة إلا بالله».

كان وداعًا قاسيًا لشاب فقد عائلته كاملة في لحظة واحدة، بعدما استهدف القصف المدفعي مدرسة شهداء غزة في حي التفاح، حيث كانت العائلات النازحة تحاول أن تصنع شيئًا من الأمان وسط حربٍ لا تهدأ. في تلك الليلة، لم يكن محمود وحده من فقد كل شيء؛ كانت غزة بأكملها تفقد جزءًا جديدًا من إنسانيتها. في شهادته الأولى بعد المجزرة، قال محمود بصوت متهدّج «لم أكن أحلم بأكثر من أن نعيش الليلة بسلام. كنا في مدرسة، نظنها ملاذًا، نضحك ونحاول أن ننسى الحرب. فجأة صار كل شيء نارًا وصراخًا. رأيت زوجتي وطفلي أمامي، ولم أستطع أن أفعل شيئًا». وأضاف لـ«عُمان» «أخذوا عائلتي مني في لحظة. لم يبقَ لي إلا هذا الوجع. أسأل الله أن يمنحني الصبر، وأن يُنصف دماء أطفالنا». ولاحقًا، تابع «يقولون إن هذه مناطق آمنة، وإن هناك وقفًا لإطلاق النار. أي وقف هذا الذي يقتل الأطفال في مدارس الإيواء؟ أنا اليوم بلا بيت وبلا عائلة. لم أعد أملك إلا الدعاء، وأخشى أن يأتي الدور على غيري، كما جاء عليّ».

ليلة المجزرة

مساء اليوم ، تحولت مدرسة شهداء غزة في حي التفاح إلى مسرحٍ لمجزرة دامية، بعدما استهدفتها قذيفتان دبابة إسرائيليتان. المدرسة، التي تقع بجوار المستشفى وتُستخدم مركزًا لإيواء النازحين، كانت تعجّ بالعائلات، من بينها عائلات من آل البرش وآل الندر، قدمت من جباليا هربًا من القصف. وبحسب مصادر طبية ومحلية لـ«عُمان»، أسفر الاستهداف عن استشهاد ستة مواطنين، وإصابة ثلاثة بجراح خطيرة واثنين بجراح متوسطة، فيما تشير المعطيات إلى وجود شخصين في عداد المفقودين تحت الركام. القصف طال أيضًا مبنى التدريب التابع لمديرية التربية والتعليم المقابل للمستشفى، ما زاد من حجم الدمار والخسائر البشرية. المأساة تضاعفت حين مُنعت سيارات الإسعاف وطواقم الإنقاذ من الوصول إلى موقع المجزرة، التي وقعت في الثامنة مساءً، ولم يُسمح لها بالدخول إلا في ساعة متأخرة من صباح السبت 20 ديسمبر. عندها فقط، جرى انتشال الشهداء، بعضهم أشلاء ممزقة، وخمسة مصابين، في مشهد أعاد إلى الأذهان أبشع صور الحرب.

أصوات الناجين

يقول الشاب النازح أحمد الندر، وهو يروي تفاصيل ما جرى «كنا نجلس آمنين في مدرسة بمنطقة حي التفاح، نعتقد أنها بعيدة عن الخط الأصفر. فجأة، ودون أي إنذار، سقطت القذائف مباشرة على المبنى المجاور. بدأ الناس يصرخون، وتناثرت الأشلاء، وركضنا نحو ساحة المدرسة». ويضيف لـ«عُمان» «نزلت أنا وزوجتي وامرأة أخي حفاة الأقدام، ولم نكد نصل إلى الأسفل حتى سقطت قذيفة مدفعية في قلب الصف الذي كنا فيه. أحرقت القذيفة كل شيء؛ الأغطية والملابس والأحذية وحتى جرار الغاز. خرجنا بلا شيء».

ويتابع بحسرة «نمنا تلك الليلة في الشارع، أنا وأطفالي وزوجتي، وبينهم طفل رضيع. كدنا نموت من شدة البرد. إذا كانت مراكز الإيواء تُقصف، فأين نذهب؟ حياتنا كلها نزوح من دمار إلى دمار، ولا نملك إلا الصبر».

أما المواطنة الأربعينية سميرة البرش، فتصف لحظة الرعب قائلة «كنا ج السين بأمان الله، لا يوجد شيء. فجأة انهمرت القذائف والرصاص. الصف الذي استُهدف تسكن فيه عائلة أخو زوجي، لم يبقَ فيه شيء، كل شيء تفحم».

وتضيف «خرجنا من المدرسة ونحن تحت النار. الأطفال يصرخون والنساء تبكي. خرجنا من تحت الموت حرفيًا، ولم نعرف لماذا استُهدفنا. الحمد لله على نجاتنا، لكن الخوف لا يفارقنا».

وفي شهادة ثالثة، يقول المواطن يوسف الندر «قذيفتان سقطتا على مدرسة الإيواء التي تضم عائلات الندر والبرش. كنا نقيم حفلاً بسيطًا للأطفال. لا يوجد أي مسلحين، كلنا مدنيون. بعد القذيفتين وجدنا الشهداء والمصابين في كل مكان».

ويتابع «هناك عائلة كاملة أُصيبت، وطفل صغير أخرجناه من تحت الردم وهو في العناية المركزة. معظم الشهداء أشلاء. أتحدى أي مؤسسة دولية أن تثبت وجود عمل مسلح هنا. لماذا يموت أطفالنا؟».

صرخة حماس

وفي تصريح لـ«عُمان»، قال حازم قاسم، الناطق باسم حركة حماس، إن «القصف المدفعي الذي نفذه جيش الاحتلال الفاشي على مدرسة تؤوي نازحين في حي التفاح جريمة وحشية بحق المدنيين، وخرق فاضح لاتفاق وقف إطلاق النار». وأضاف أن «حكومة الاحتلال تواصل انتهاكاتها المتعمدة للاتفاق، وقد ارتقى أكثر من 400 شهيد منذ الإعلان عنه، وسط صمت دولي مريب». وأكد أن «منع سيارات الإسعاف من الوصول إلى موقع المجزرة يُعد جريمة مركبة وانتهاكًا صارخًا للقانون الدولي الإنساني».

وختم قاسم بالقول: «نطالب الوسطاء الضامنين والإدارة الأمريكية بالتدخل الفوري لوقف هذه الجرائم، ومنع حكومة نتنياهو من فرض معادلات تنقلب على مضمون الاتفاق».

جُرح مفتوح

من جانبها، أعلنت وزارة الصحة في غزة أن مستشفيات القطاع استقبلت خلال 48 ساعة 13 شهيدًا، بينهم ستة شهداء جدد وسبعة شهداء انتشال، إضافة إلى 20 إصابة. وأوضحت أن إجمالي الشهداء منذ وقف إطلاق النار في 11 أكتوبر 2025 بلغ 401 شهيد، و1,108 إصابات، و641 حالة انتشال.

وذكرت الوزارة أن حصيلة العدوان منذ السابع من أكتوبر 2023 ارتفعت إلى 70,925 شهيدًا و171,185 إصابة، مع إضافة 243 شهيدًا للإحصائية التراكمية بعد اعتماد بياناتهم. ولا يزال عدد من الضحايا تحت الركام، في ظل عجز طواقم الإسعاف عن الوصول إليهم.

ميدان مشتعل

ميدانيًا، واصل جيش الاحتلال خرق وقف إطلاق النار ظهر اليوم، فقد ألقت طائرة مسيّرة قنبلة متفجرة قرب دوار العلم وسط بني سهيلا شرقي خان يونس، بالتزامن مع قصف مدفعي على البلدة.

كما نفذ الجيش عمليات نسف في المناطق الشرقية لمدينة غزة، وتوغلت آليات عسكرية ترافقها جرافتان شرق مخيم المغازي، وسط القطاع، بالتزامن مع إطلاق نار كثيف من الدبابات والطائرات المسيّرة. مشاهد تؤكد أن الهدنة لم تكن سوى استراحة قصيرة في حربٍ ما زالت تحصد الأرواح، وتترك غزة غارقة في الفقد والدمار.

وفي المحصلة، لا تبدو الهدنة المعلنة أكثر من حبرٍ على ورق، إذ يواصل الاحتلال خرقها بلا رادع، مستمرًا في قتل الأطفال والنساء واستهداف مراكز الإيواء والمناطق السكنية في غزة، وكأن الحرب لم تتوقف يومًا. فمشاهد القصف والنسف والتوغلات، وأجساد الضحايا التي لا تزال تُنتشل من تحت الركام، تؤكد أن آلة القتل ما زالت تعمل بالوتيرة ذاتها، بينما يعيش المدنيون تحت تهديد دائم بالموت. حربٌ تبدو مستمرة بكل تفاصيلها، في ظل صمت دولي مريب وعجز فاضح عن حماية الأبرياء، يترك غزة وحدها في مواجهة مأساة تتكرر كل يوم، بلا أفقٍ واضح لنهاية قريبة.