عالم اللغة الفراهيدي الذي قتلته الفكرة!
السبت / 28 / جمادى الآخرة / 1447 هـ - 17:40 - السبت 20 ديسمبر 2025 17:40
دعاني الأصدقاء في «مركز الندوة الثقافي» ببهلا، إلى حضور عرض مسرحي، أقيم مساء الجمعة، الثاني عشر من هذا الشهر، وسط حضور أهلي وطلابي، تناول مشاهد من حياة إمام اللغة العربية الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت: 175هـ)، شدَّتني الفكرة وكنت مع الحضور، في مسرح بسيط في ديكوره وأنواره، أشبه بالمسارح المدرسيَّة، لتنفتح ستارة العرض عن مشهد تمثيلي تأمُّلي، رأينا فيه ممثل شخصية الخليل يصيخ السَّمع إلى وقع تردد الأصوات من قاع البئر، جسَّد الدور في المسرحية خالد بن ناصر الشكيلي، كان الخليل يحاول أن يوجد تفسيرًا لذلك التناغم بين ما يسمعه من صدى الصوت النابع من قاع البئر، وبين إيقاع الشعر النابع من عمق القصيدة، وكانت تفعيلات العروض تنبعث نغمًا مرسلًا إلى حسِّه الموسيقي، ليكرر التجربة من جديد على إيقاع أواني نحاسية في سوق الصفَّارين، فيجد في جرسها ذات النغم الذي يجده في القصيدة، ومن هذا التجربة العملية نبعت الفكرة، كالماء من الحجر الصَّلد، ليولد علم جديد على يدي الخليل اسمه «العَرُوض».
وفي مشهد آخر من المسرحية، رأينا الخليل وهو يقلِّب الكلمات، فمرة تأتي الكلمة على وزن فَعَلَ، ومرة ذات الكلمة يقلبها على وزن فَلَعَ، ومرة لَفَعَ، ومرة لَعَفَ، ومرة عَلَفَ بحسب الميزان الصرفي للكلمة الثلاثية، لتخرج مترادفات جديدة من ذات الأحرف، ولكل كلمة معناها الخاص، ومن هذه التجربة التي أخذت من الخليل وقتًا تأمليًا طويلًا، أهرقه في التدوين والبحث في معاني الكلمات، خرج بعد سنوات من عمره «معجم العَيْن»، ويقال: إنه دوَّنه في مدينة خراسان، وخصَّ به تلميذه الليث بن المظفر حين كان مقيمًا معه، وقد أتى به الورَّاقون بعد وفاة الخليل بزمن، وتقول الرواية إن صَحَّت: إن زوجته أحرقت أوراقه، فأملاه من جديد، أو أكمله تلامذته من بعده، ولا أظنها رواية صحيحة، فالعين كمعجم ولد متكاملًا، وليس الذي بأيدينا مما تبقَّى من محفوظات الخليل، إنما كتابة وتدوينًا من ذاكرة حافظة، ولو صَحَّت رواية حرق المعجم، فلا شك أنَّ الخليل سيضام بهذا الفعل، ولا يمكن له أن يعيد تدوينه في أخريات سنوات عمره، التي انشغل فيها بالبحث في علوم أخرى.
سيناريو العرض كتبه الباحث خميس بن عبدالله الهميمي، متقصِّيًا حياة الخليل مما يتوفر لديه من مصادر ومراجع وهي كثيرة، فالميراث الثقافي للخليل لم يضِعْ كله، والزمان أبقى على «معجم العَيْن»، كما أبقى على بحور العروض، وأبقى على منظوماته ومقطوعاته الشعرية، ومما استلهمه الباحث من زيارته لمدينة البصرة بالعراق مع ثلة من أصدقائه، سألت الهميمي: هل توصلتم إلى المكان الذي عاش فيه الخليل؟، فقال: زرنا مدنًا قديمة في البصرة، وفي إحداها راودني شعور أنَّ الخليل مَرَّ من هنا، وليكن كذلك، فالمكان باق وإن تغيَّرت الأطلال، ألم يعش الخليل في هذه المدينة؟، معالمها القديمة أسُسٌ لمعالم أقْدَم، وإن لم يُبْق عليها الزمان، بقيت الأطلال تتلألأ تحت قبَّة السَّماء.
أظهر العرض شخصية عبدالرحمن بن الخليل، والذي يبدو على خَبَال وحِس فكاهي، مثَّل الدور في العرض سعيد بن محمد الشكيلي، وبحسِّه الكوميدي أحدث في العرض خِفَّة ورشاقة، تجسَّدت في ملامحه شيء من شخصيات البصرة الفكاهية في ذلك الوقت، وكأنَّ هذا الضاحك المضحك، يمثل المجتمع الذي عاش فيه الخليل، المجتمع كان على خبال أحيانًا، وكان ساخرًا من كل شيء، ألم يقل الخليل هذا البيت: (لو كُنْتَ تَعْلمُ ما أقُولُ عَذلتَنِي .. أو كُنْتَ تَعْلمُ ما تَقولُ عَذرْتُكا)؟، وفي مصادر أخرى من الكتب التي دونت حياة الخليل، ذكرت أنَّ هذا البيت قاله في أخيه وليس ابنه، وفي تصوري إن صح البيت، فقد قاله الخليل في المجتمع كله، الذي لم يكن الخليل إلا ساخِرًا منه، فقد سبق زمانه بعبقريته الفَذَّة.
ومن قرأ عن الخليل بن أحمد، يدرك أنه وقع عليه الضَّيم في حياته وبعد مماته، فقد صوَّرَتْ كتب الأدب أنَّ زوجته كانت غيورة، حتى أحرقت معجمه «العَيْن»، وأنه نشأ في أسرة فيها شخصيات مصابة بالعَتَه، قاربت بين ابنه وأخيه، وهذا ظلم لشخص ملأ الدنيا عِلمًا ابتكاريًا، إذ الانسان ابن أسرته ومجتمعه، وابن الحياة التي يعيش فيها، ونبوغه نابع من تلك الأرض، التي أنبتت الخليل وأشياخه وتلامذته من بعده، أما أشد الضيم عليه، فقد أصابه بعد وفاته، حين انتهب بعض من مجايليه وتلامذته علمه، وبلغ البلاء حده للخليل، حين أنكَرَ عليه بعض من أدباء ذلك الزمان كتاب العَيْن.
لحظة متابعتي للعرض المسرحي، وقد غلبت عليه اللمسة التربوية والتثقيفية، كنت أرسم في خيالي صورة للخليل وهو يتأبط كتبه، ويطل برأسه على البئر، وينصت إلى صدى الرَّنين، وقعقعة الأواني النحاسية، وصفير الصفَّارين في الأسواق، كان يبحث عن شيء مفقود، لم تنجبه الحياة بعد، علم جديد يحفظ لسان العرب من العجمة، بسبب الهجمة الشعوبية على العرب، كما يكشف موسيقى الشعر العربي، وقوانين الحساب الرِّياضي، فوُلِدَ من صرير الأصوات علم العروض، كنوتة موسيقية تنساب أنغامًا من التفاعيل، مثلما وُلِدَ من تقليب الكلمات عِلْم المعاجم، وحفظ للعربية لسانها النحوي المبين، وأنجبت مدرسته كبار النحاة، على رأسهم تلميذه النجيب «سيبويه»، الذي وثَّق بحصافة ونبوغ دروس الخليل، في كتابه المهم «الكتاب»، يعد أول تأليف متكامل في علم النحو، وسجلٍ لشوارد من شواهد الشعر.
ولأن عبقرية الخليل دائمة الابتكار، فقد كان يفكر في طريقة حسابية: (تمضي به الجارية إلى البيَّاع، فلا يمكنه ظُلمُها، ودخل المسجد وهو يعمل فكره في ذلك، فصدمته سارية وهو غافل عنها)، فسقط مُغمَىً عليه حتى لقي حتفه، وكم عالم وأديب كانت وفاته على هذه الشاكلة، وهذا يبرر القول: إن موته كان بسبب «الفِكْرَة»، والهيام بها حَدَّ السُّكْر، وعدم الشعور بمن حوله، وشاءت الأقدار أن يبقى علمه الرِّياضي حبيسة تلك الفكرة التي قتلت صاحبها، كان في غيوبة الفكرة، التي نقلته بعد ذلك إلى غيبوبة الألم، ثم إلى غيابة الموت والرَّحيل، كقمر سطع نوره بين حقول البصرة وحاراتها، وبقيت الأفكار تنتقل بين العقول، كما تنتقل الأطيار بين الحقول.
وبلا شك فإنَّ سيطرة الفكرة على وجدانه وعقله، جعله يعيش في حالة من الشرود الذهني، وكأنه في هيام مع أفكاره، يحاورها حين تبرق في ذهنه، ويمهِّد لها لتخرج إلى الوجود، فيدوِّنها ويرسم شكلها، وهذا هو حال الانسان العبقري، تأتيه الفكرة عفو الخاطر، تلوح في سماء الوجدان، كوميض من نور يشع من أعماقه، شيءٌ أشبه بالإلهام، لذلك فإن العلوم التي أبدع الخليل في تصنيفها هي من هذا النوع الإلهامِي، رأت النور خلال حياته المباركة، وبقيت من بعده في خلود معرفي.
همس لي كاتب السيناريو: إن مشهد وفاة الخليل مؤثر، ومع أنه مجرد مشهد تمثيلي، لكنه ترك في نفوس المتابعين للعرض حُزنًا شفيفًا، لعلنا كنا لحظتها نغوص في عالم النور وخيال الأفكار، بحثًا عن الخليل الفراهيدي، أين هو الآن؟، إنه محفوظ في صفحات أمهات الكتب، ومنثور في أجزاء معجم العَيْن، ومدوَّنٌ كنغم موسيقي بين تفعيلات البحور الشِّعرية، ويتوارى طيفه بعمامته وراء كل قاعدة نحوية، وثَّقها سيبويه في كتابه، أو حفظها عنه تلامذته.
وفي هذا العصر، يعيش الخليل بيننا، لنراه من جديد في حياتنا، ونتمثله في أحاديثنا عنه، وفي القصائد التي نقرؤها من دواوين الشعر العربي، ونعيد رسمه في المدوَّنات الأدبية، فشكرًا لمركز الندوة الثقافي ببهلا، الذي أخذنا في رحلة شيِّقة إلى عالم الخليل الفراهيدي بصحبة تلامذته، وشكرًا لمن أدى هذا العرض الجميل، بديكور متواضع، يقترب من حياة الخليل، الذي كان يعيش في منزل صغير من القصب في البصرة، ليحرز منه قصب السبق، كنابغة عماني في علوم العربية.