المال الحرام كـ«النار» في الهشيم
عمار بن سالم الأغبري
الخميس / 26 / جمادى الآخرة / 1447 هـ - 19:42 - الخميس 18 ديسمبر 2025 19:42
كسب المال في الحياة الدنيا يأتي من طريقين لا ثالث لهما، إمّا بالشكل الطبيعي وهو «الحلال» الذي يأتي نظير العمل أو أي مصدر مشروع كالبيع أو الشراء وغيره من الطرق المباحة شرعًا وقانونًا، وإمّا أن يأتي من الطريق الملتوي والمتمثل في «الحرام» الذي يأتي بطرق غير شرعية سواء من عمليات النصب أو الاحتيال أو التدليس أو السرقة وغيرها من طرق الضلالة، وما أكثرها في هذا الزمن.
المال الحرام فعليا يحبط عمل المرء حتى لو استخدمه في طريق مشروع، والدليل على ذلك ما روي عنه -صلّى الله عليه وسلم- أنّه قال: «مَن حج بمال حرام فقال: لبيك، نودي: لا لبيك ولا سعديك، فارجع مأزورًا غير مأجور»، فالذي أحبط «حجَّه» هو المالُ الحرام.
كما أن القرآن الكريم تعرّض لموضوع «المال الحرام» ونهانا سبحانه عن إتيانه، فقد ذكرت الآيات البينات ذلك بقوله تعالى في سورة البقرة: «وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ».
وذكر الله في سورة النساء آية أخرى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا، وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا، وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا».
أما السيرة النبوية الشريفة فهي عامرة وحافلة بالمواعظ والتحذير من العواقب الوخيمة للكسب الحرام وشؤمه على صاحبه في الدنيا والآخرة، وقد روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحًا إني بما تعملون عليم».
لقد وضّح لنا الله تعالى الطريق الصحيح في معيشتنا الدنيوية: «يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم»، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذّي بالحرام، فأنّى يُستجاب لذلك؟ وروي أن سعدًا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تُستجاب دعوته، فقال له: «أطب طعمتك تستجب دعوتك». إذن، المال الحرام لا بركة فيه، والبعض يعتقد أن عمليات السلب والنهب والاستيلاء على مال الغير هي «شطارة وذكاء ومهارة»، لكنها والله ما هي إلا رجس من عمل الشيطان، فكم من خديعة وقع البعض فيها وأُخذت من بين يديه أمواله، فشكا أمرَه إلى الله، وكان الله به نصيرًا.
أكد علماء الدين الإسلامي أن «المال الحرام إذا لم يُردَّ إلى صاحبه فإنه دين يبقى في ذمة آكله، أو هو بمثابة الدَّين، بل أعظم منه حيث لا يكفّره شيء، حتى ولا الشهادة في سبيل الله أو الجهاد فيه، ولأنه لم يُؤخذ ابتداءً عن طيب نفس كالدَّين».
قبل عشرين عامًا كتب الكاتب محمد علي الأطرش مقالًا جميلًا نشره إلكترونيًّا في إحدى الصحف الخليجية بعنوان: «المال الحرام.. صورٌ وآثار». ومن شدة إعجابي بما قاله استوقفتني كلماته، وهنا أقتبس شيئًا مما كتبه الأطرش حيث يقول: «ينشغل الناس كثيرًا بأمر الرزق ويكثرون فيه الحديث، فالهدف الأول الوصول لمكانة أكبر وتوفير دخل أكثر، وقد بيّن الله حبّ الإنسان للمال في قوله: «وتحبّون المال حبًّا جمًّا» وفي البخاري: «لو أن ابن آدم أُعطي واديًا ملئًا من ذهب أحبّ إليه ثانيًا، ولو أُعطي ثانيًا أحبّ إليه ثالثًا، ولا يسدّ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب»».
ويضيف: «لذا طمأننا الله فقال: «وفي السماء رزقكم وما توعدون»، ونهانا عن الحصول عليه بالباطل: «يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراضٍ منكم»، وحذّرنا النبي صلى الله عليه وسلم من استعجاله بالحرام، فعن جابر بن عبدالله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيها الناس اتقوا الله وأجملوا في الطلب، فإن نفسًا لن تموت حتى تستوفي رزقها وإن أبطأ عنها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، خذوا ما حلّ ودعوا ما حرُم». وأمرنا صلى الله عليه وسلم بطلب الحلال، فعن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «طلب الحلال واجب على كل مسلم»».
لقد وقفت كثيرًا على ما جاء في السيرة النبوية الشريفة لعظم هذا الأمر في حياة الناس، وكلما زاد الفرد من الغنى بالحرام زاد فقرًا في الآخرة. ففي البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا يا رسول الله من لا درهم له ولا متاع. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاته وصيامه وزكاته، وقد شتم هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيُقعَد فيُعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يعطي ما عليه أُخذ من خطاياهم فطُرحت عليه، ثم طُرح في النار». والشاهد في الحديث قوله: (أكل مال هذا).
ومن كل ما سلف نؤكد على ما أكد عليه القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة بأن المال الحرام ينزع بركة كثير من الأبناء، فكم من أب أعجبه قوام أبنائه وقد غُذّوا بالحرام، وما علم أن هؤلاء الأبناء قد يكونون غدًا غُصّة في حلقه، وسبب شقائه في دنياه وأخراه بشؤم المال الحرام. فقد روي عنه صلى الله عليه وسلم: «كل جسد نبت من سُحت فالنار أولى به».