المرحلة الجديدة في العلاقات العمانية -الهندية
الأربعاء / 25 / جمادى الآخرة / 1447 هـ - 22:45 - الأربعاء 17 ديسمبر 2025 22:45
الجغرافيا هي مفتاح قراءة العلاقة بين عُمان والهند وقد لعبت دورا أساسيا في توجيه مسارها عبر التاريخ. ومن الصعب اليوم أن نفهم الشراكة بين البلدين من زاوية دبلوماسية. إنها في الحقيقة سيرة طويلة لاقتصاد المحيط الهندي الذي لا يمكن فهمه تاريخيا في معزل عن عُمان والهند نظرا للموقعين المهمين على المحيط وعلى مسارات التجارة قديما وحديثا. وعبر التاريخ كانت الهجرات قائمة بين عُمان في سياق جغرافيتها الإمبراطورية وبين شبه القارة الهندية التي تمثل نموذجا للتنوع الديني والعرقي والثقافي.
لذلك تبدو المرحلة الجديدة في العلاقات العُمانية ـ الهندية امتدادا لمنطق قديم يقول إن «الجغرافيا تُنتج المصالح، والسياسة تُحسن إدارتها».
تربط الدراسات الأثرية عُمان بشبكات تجارة حضارة السند عبر بحر العرب، حيث ظل المسار بين المنطقتين مفتوحا للتجارة والتبادل الحضاري. وهذا المعنى التاريخي يشرح لماذا ظلت العلاقة بين البلدين قابلة للتجدد؛ فهي لم تتأسس على التفاهم السياسي إنما أسستها الضرورة الجغرافية التي تُنتج المصالح ثم تُؤطرها السياسة.
من هذا الباب نفهم لماذا تحوّل العبور التجاري بين موانئ عُمان والساحل الغربي للهند تدريجيا إلى عبور اجتماعي. فحين استقرت التجارة شكلت مجتمعات صغيرة بالقرب من الموانئ. ومع صعود مسقط ومطرح كمحطات إقليمية على خطوط تجارة المحيط الهندي، تَشكّلت شبكة حضور هندي داخل الفضاء العُماني، ولم تكن تلك الشبكة «جالية عابرة» إنما جزء من الحياة اليومية في الاقتصاد والخدمات والأسواق.
تقدم الأرقام اليوم ما كان يُقال سابقا بالانطباع. فيبلغ تعداد الجالية الهندية في عُمان اليوم 676.781، مع وجود 22 مدرسة هندية تضم أكثر من 48 ألف طالب. وهذه الأرقام تفسر لماذا يتحول الحديث عن التجارة والاستثمار إلى حديث عن «نظام علاقات» يتمثل في التعليم، والخبرة المهنية، والخدمات الصحية، والتحويلات المالية، وروابط الأعمال... وكلها تُنتج اقتصادا متشابكا داخل الاقتصاد الوطني، وتمنح العلاقة قدرة على الصمود حين تتقلب السياسة وتتقلب الأسواق.
لكن التاريخ وحده لا يكفي لتفسير الحاضر؛ لا بد من العودة مرة أخرى إلى الجغرافيا، لأن العالم الذي نعيش فيه يعيد توزيع قيمته حول الممرات والموانئ. تقف سلطنة عُمان عند تخوم بحر العرب وعلى مقربة من ممرات شحن بالغة الحساسية في الإقليم. والهند دولة محيطية عملاقة، تتنفس عبر البحر وتحتاج إلى خطوط إمداد آمنة للطاقة والمواد الخام والتجارة، بهذا المعنى تصبح العلاقة بين البلدين جزءا من «اقتصاد الأمان»، ليس الأمن العسكري بمعناه الضيق، بل أمن سلاسل الإمداد، وأمن الطاقة، وأمن الغذاء، وأمن التدفق اللوجستي. اقتصاد الأمان يعني ببساطة أن أي اضطراب في الممرات يُترجم فورا إلى فواتير أعلى للتأمين والشحن، وتأخير في التسليم، وتعطّل في خطوط الإنتاج.
ومن هنا تأتي أهمية المرحلة الحالية اقتصاديا.. فوفق البيانات المنشورة عن العلاقات الثنائية بين البلدين، بلغ حجم التجارة 10.61 مليار دولار في السنة المالية 2024–2025. وبلغت الصادرات غير النفطية العُمانية إلى الهند 529 مليون ريال عُماني خلال الأشهر التسعة الأولى من العام الجاري، بينما بلغت الواردات من الهند أكثر من مليار ريال للفترة نفسها. وهذا يعني أن العلاقات ليست رهينة النفط وحده، لكنها لم تتحول بعد إلى شراكة قيمة مضافة طويلة الأجل. هذا هو المكان الذي ينبغي أن تذهب إليه السياسة الاقتصادية بين البلدين عبر تحويل التجارة من تبادل سلعي إلى مشروع تصنيع وخدمات وممرات.
وهنا تبرز فكرة اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة بوصفها محاولة لترجمة المنطق الجغرافي والتاريخي إلى قواعد تشغيل حديثة. قيمة الاتفاقية تكمن في أنها تخفّض تكلفة المعاملات التي تلتهم فوائد التجارة المتمثلة في إجراءات الحدود، وقواعد المنشأ، ووقت التخليص، ومسارات الاستثمار، وتسهيلات الخدمات. والاقتصاد الحديث يتأثر كثيرا بسبب بطء الإجراءات وتضخم المخاطر.
ومع ذلك، ليست الطريق مضمونة تلقائيا؛ فالمنافسة الإقليمية على دور «المحور اللوجستي» تحتدم، والحمائية التجارية تتصاعد، وأي اختناق في الشحن يضغط على الهوامش ويجعل مكاسب الاتفاقيات بطيئة الظهور. لذلك سيعتمد نجاح المرحلة المقبلة على تحويل الاتفاق إلى قرارات تشغيل تتعلق بسرعة التخليص، ووضوح قواعد المنشأ، وتوجيه الاستثمار إلى سلاسل قيمة لا إلى تجارة عابرة، وهنا نقطة اختبار الاتفاق الكبرى.