أفكار وآراء

إطار عمل جديد لتمويل الأمن العالمي

تسبب احتدام التنافس بين القوى العظمى في جعل زيادة الإنفاق الدفاعي أولوية لا يجرؤ على التشكيك فيها سوى قِـلة من الدول. وقد دَفَعَ هذا الشعور المتزايد بانعدام الأمن إلى زيادة الإنفاق العسكري العالمي، الذي ارتفع بنسبة 37% من عام 2015 إلى عام 2024، ليصل إلى 2.7 تريليون دولار ــ وهو مبلغ يعادل تقريبا الناتج المحلي الإجمالي في أفريقيا بأكملها.

يمثل حلف شمال الأطلسي (الناتو) أكثر من 50% من هذا الإنفاق، حيث زاد معظم أعضائه الاستثمار في الدفاع على حساب غيره من مصارف الإنفاق العام. وفي كندا، والمملكة المتحدة، وألمانيا تلقت المساعدات الخارجية ضربة قوية. ذلك أن الدعم الشعبي الفاتر لمثل هذه البرامج يجعل من الممكن الاستغناء عنها سياسيا، في حين يتغذى الإنفاق العسكري على القلق الأمني والبحث عن طفرة صناعية دفاعية.

مع ذلك، لم يؤد الارتفاع الشديد في الميزانيات العسكرية إلى تحسين الأمن العالمي. بدلا من ذلك، يتسبب الاستثمار العسكري في تفاقم حالة انعدام الاستقرار، ويدمر النظم البيئية، ويغذي سباقات التسلح، ويزيد من مخاطر الصراع. وقد يُـفضي أيضا بشكل غير مباشر إلى مزاحمة الاستثمار العام في مقايضة بين السلاح والاحتياجات المدنية.

كان سد فجوة تمويل أهداف التنمية المستدامة غير المرتبطة بالمناخ في عام 2024 ليصبح سهلا إذا ما أعيد توجيه الزيادات في الإنفاق الدفاعي لهذا الغرض. ولأن الاستثمارات القطاعية في الصحة، والتعليم، والبنية الأساسية للطاقة لها «مضاعفات مالية» أكبر من الإنفاق العسكري، فإن هذه الاستثمارات كانت لتعزز الناتج المحلي الإجمالي في الأرجح بدرجة أكبر مما يمكننا أن نتوقع من الإنفاق الدفاعي. يعمل الاستثمار العام في رأس المال البشري والبنية الأساسية على بناء القدرة على الصمود ويزيد من احتمالية نجاح المجتمعات في حل النزاعات دون عنف أو نزوح.

إن أكبر المخاطر الأمنية التي تواجهها أغلب البلدان ليست إقليمية؛ بل هي تهديدات مثل الجوائح الـمَرَضية، وتغير المناخ، والإرهاب السيبراني (الإلكتروني). قد تكون مقايضة المساعدات مقابل الدفاع ممارسة عقلانية من الناحية السياسية، لكنها أشبه بسرقة شخص ما (والذي يتمثل في فهم متعدد الأبعاد للأمن قائم على المرونة) لسداد دين لشخص آخر (الذي يتمثل في فهم مُـعَسكَر ضيق الأفق).

من غير المرجح أن يتسنى تمويل فجوات تمويل التنمية الناتجة عن هذه المقايضة من مصادر خاصة. ذلك أن الدول الهشة تميل إلى أن تكون أكثر اعتمادا على المنح والقروض الميسرة للغاية، كما أن القطاعات الاجتماعية عموما لا تولد تلك الأنواع من العوائد التي يسعى إليها المستثمرون من القطاع الخاص.

هذا هو السبب وراء الصعوبات التي واجهتها دول مثل هايتي والسودان لفترة طويلة في محاولة اجتذاب الاستثمار المباشر الأجنبي، وهو ذات السبب الذي يجعل مشاريع البنية الأساسية في الأسواق الناشئة الأكبر حجما والأقل خطورة جذابة في نظر المستثمرين من القطاع الخاص.

الآن، تهرع صناديق التقاعد، وشركات التأمين، والبنوك إلى اغتنام الفرص التي تخلقها زيادة استثمارات القطاع العام في الدفاع، والتي يُـوَجَّه بعضها من قبل كيانات جديدة متعددة الأطراف مثل بنك الدفاع، والأمن، والمرونة. ويثير تحفيز تدفقات رؤوس الأموال على هذا النحو تساؤلات حول مستقبل أطر الاستثمار العالمية في الحوكمة والبرامج البيئية والاجتماعية، والتي تصنف الصناعات الدفاعية عادة على أنها أعلى مخاطرة، بسبب الشكوك حول أخلاقيات العمل، واستخدام المنتجات، والحوكمة، والأثر البيئي. التمويل الأمني ليس بالضرورة لعبة محصلتها صفر. فمن الممكن أن يساعدنا إطار تمويل دفاعي محسّن في معالجة التعقيدات المحيطة بتحديات الأمن الجماعي اليوم.

يستند النهج الأفضل إلى ثلاث ركائز. فهو أولا، يتبنى منظورا متعدد الأبعاد للأمن. في يونيو الماضي، اتفق أعضاء الناتو على إنفاق 5% من ناتجهم المحلي الإجمالي على الدفاع بحلول عام 2035، مع تركيز 3.5% من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع الأساسي و1.5% على الإنفاق المرتبط بالأمن من أجل «حماية بنيتنا الأساسية الحيوية، والدفاع عن شبكاتنا، وضمان تأهبنا المدني وقدرتنا على الصمود، وإطلاق العنان للإبداع، وتعزيز قاعدتنا الصناعية الدفاعية».

في الوقت الحالي، على الأقل، تركز نسبة 1.5% على الأقل على الدفاع المدني أكثر من تركيزها على فهم شامل للأمن. لقد شهدنا بالفعل ممارسات محاسبية خَلّاقة لخفض العبء المالي المرتبط بالهدف الأعلى، كما في حالة جهود إيطاليا لإدراج جسر معلق بقيمة 13.5 مليار يورو (15.8 مليار دولار).

علاوة على ذلك، ستُحتسب المساهمات المباشرة في الدفاع عن أوكرانيا ضمن هدف النسبة المستهدفة 5%، بما يوفر نموذجا لتمويل العمليات العسكرية في المستقبل في أماكن أخرى من العالم. في إشارة واعدة، يستكشف بعض أعضاء الناتو الآن ما إذا كان الإنفاق على التنمية في المجالات المتصلة بالأمن مثل بعثات حفظ السلام الدولية، وأنظمة الإنذار المبكر من الصدمات المناخية، وسلاسل الإمداد المرنة للأدوية واللقاحات الأساسية من الممكن أن يُحتسب ضمن الهدف 1.5%.

ولكن في حين أن إقحام بنود الميزانية هذه في إطار الناتو المحاسبي من الممكن أن يحميها من التخفيضات، فإنه قد يعرض للخطر نزاهة المحاسبة الدفاعية الموحدة إذا ظلت حدود «ما يرتبط بالأمن» غير واضحة. وهو يزيد أيضا من احتمال «فرض الطابع الأمني» على المساعدات وتسييس المشاركة بطرق من شأنها أن تعرض حياة الناس للخطر. ومن ثَـمّ، يتمثل نهج أفضل في قياس كامل طيف المدخلات الوطنية المرتبطة بالأمن العالمي وتقييم قيمتها بما يتفق مع أغراض الدفاع العسكري والردع، فضلا عن النمو الاقتصادي والقدرة على الصمود.

مع اقتراب الموعد النهائي لتحقيق أهداف التنمية المستدامة لعام 2030، قد يكون المنظور المتعدد الأبعاد للأمن نقطة انطلاق جيدة لمناقشة إطار العمل الذي سيخلُفه. تتمثل الركيزة الثانية في إطار عمل حديث لتمويل الأمن يتميز بتقديرات أكثر شفافية لاحتياجات الاستثمار الدفاعي.

في حالة حلف الناتو، هذه التقديرات سرية، حتى برغم أن التقديرات الوطنية الشفافة للحد الأدنى من متطلبات الاستثمار الدفاعي هي المفتاح لمنع الإهدار وضمان نجاح الإنفاق في ردع تهديدات حقيقية دون زيادة احتمال نشوب صراع.

الواقع أن تحديد أهداف الإنفاق العسكري كحصة من الناتج المحلي الإجمالي يفترض أن الدول ينبغي لها أن تنفق كل ما تستطيع تحمله على الدفاع، بدلا من التركيز على ما تحتاج إليه (أو ما يحتاج إليه حلفاؤها) بالفعل لاحتواء تهديدات حقيقية.

مثل هذه الصيغة الفجة لتقاسم الأعباء تُفضي حتما إلى عسكرة الاقتصادات بتحويل انتشار الأسلحة والصراع العالمي إلى مزايا صناعية وتجارية. وتعمل أهداف الإنفاق على المدخلات على تحفيز عمليات الصرف السريع التي تعرض للخطر عمليات الشراء المقصود منها ضمان القيمة مقابل المال.

يجب أن يكون الكشف عن التقديرات الإجمالية للاحتياجات الدفاعية الحقيقية في حكم الممكن دون المساس بالأمن القومي. والقيام بهذا من شأنه أن يضمن المساءلة عن نفقات الدفاع ويسمح بالاستثمار الأمني المتعدد الأبعاد الذي يستهدف التهديدات العسكرية وغير العسكرية.

تشمل الركيزة الثالثة ضمانات مالية أكثر قوة لأولويات الإنفاق الرئيسية. إن الإنفاق الدفاعي العالمي يفوق الآن مساعدات التنمية بنسبة 13 إلى واحد، وهو اتجاه يولد بالفعل تأثيرات مضاعفة ــ من تسريح الدبلوماسيين إلى انهيار الاستثمار العالمي في الصحة. وقد تكون تكلفة الفرصة البديلة لمثل هذه الاستثمارات الدفاعية الضخمة التعاون العالمي ذاته. لكن بعض الدول تبحث عن طريقة أفضل.

في الجمعية العامة للأمم المتحدة هذا العام، حذر رئيس جنوب أفريقيا سيريل رامافوزا قائلا: «نحن نبني الأسلحة، في حين ينبغي لنا أن نشيد البنية الأساسية الاجتماعية»، مرددا مخاوف أعربت عنها البرازيل، وكازاخستان، ونيبال (بين دول أخرى). ومن جانبها، اقترحت الرئيسة المكسيكية كلاوديا شينباوم، انطلاقا من إدراكها للعلاقة التكافلية بين الدبلوماسية، والدفاع، والتنمية، أن يخصص أعضاء مجموعة العشرين 1% من إنفاقهم العسكري للتنمية المستدامة.

إن التعاون الدولي يمر الآن بنقطة تحول، حيث يلتزم الشمال العالمي بتمويل الدفاع بدرجة أكبر كثيرا من التزامه بالدفاع عن التنمية. وينبغي لنهج يليق بالقرن الحادي والعشرين في تمويل جهود التصدي للتهديدات الأمنية أن يضمن سير الدفاع والتنمية في ذات الاتجاه.