أفكار وآراء

وهم التعددية القطبية

ترجمة: نهى مصطفى

تشكل التقلبات السياسة بين القوى العظمى مسار العالم وتؤثر إيجابا وسلبا على حياة الناس في كل مكان.

أودت الحروب بين هذه القوى بحياة الملايين، كما أنشأت القوى العظمى المنتصرة أنظمة دولية تؤثر معاييرها وقواعدها في السلام والازدهار العالميين. كما تتدخل القوى العظمى في سياسات الدول الأخرى سرا وعلنا وأحيانا باستخدام العنف. بعبارة أخرى تتمتع القوى العظمى بتأثير بالغ.

ويعد عدد القوى العظمى في النظام السياسي عاملا مهما أيضا. فلنتأمل العقود الثلاثة الماضية من الأحادية القطبية بقيادة الولايات المتحدة.

فبعد تحرر واشنطن من قيود قوة عظمى منافسة، نشرت قواتها في أنحاء العالم ونفذت عمليات عسكرية في دول عديدة مثل: أفغانستان والعراق وليبيا وصربيا. غير أن مخاطر الثنائية القطبية تختلف؛ ففي النظام ثنائي القطبية تتنافس القوى العظمى بشراسة، وتنشئ مناطق نفوذ ومناطق عازلة عبر رعاية حلفاء وتنصيب قوى تابعة لها. أما التعددية القطبية التي تضم ثلاث قوى عظمى أو أكثر فتعد الأكثر عرضة للحرب، إذ تكون التحالفات فيها هشة، كما أن سيولتها تصعّب تقدير ميزان القوى.

وعلى الرغم من أهمية عدد القوى العظمى في أي مرحلة، لا يوجد اتفاق على كيفية تعريفها، فبالتالي كيفية إحصائها.

كما يختلف الباحثون حول الشروط، أي ما ينبغي أن تفعله الدولة أو تمتلكه لكي تعد قوة عظمى. ومع ذلك، فإن موازين القوى بين الدول تتغير باستمرار؛ فخلال الحرب الباردة، تعهد الزعيم السوفيتي نيكيتا خروتشوف بأن بلاده ستطيح بالولايات المتحدة، وخشي كثيرون من تحقق ذلك.

وفي ثمانينيات القرن الماضي ساد القلق في الولايات المتحدة مع مراقبة الازدهار الاقتصادي الياباني، خشية أن تتجاوزها “الشمس المشرقة”. أما اليوم، فيتجادل الباحثون وصناع السياسات حول ما إذا كانت الصين تنافس الولايات المتحدة كقوة عظمى أم أنها تشهد تراجعا فعليا. وفي الوقت نفسه، دفع صعود الهند وعودة روسيا إلى الواجهة كثيرين إلى الإعلان عن بزوغ فجر التعددية القطبية.

وتنتشر الآراء المتباينة على نطاق واسع بشأن توازن القوى، لأن القوة ـ على الرغم من كونها عنصرا أساسيا في السياسة الدولية ـ لا تزال مفهوما مراوغا.

ولمواجهة هذا التحدي، طورت منهجية لمقارنة القوة الوطنية تعتمد على مقاييس مشتركة: مثل الناتج المحلي الإجمالي أو الإنفاق العسكري، في البيانات الحديثة والتاريخية، بهدف تحديد عتبة مكانة القوة العظمى.

وقد خلصت دراستي إلى أن الجدل حول ما إذا كانت الصين تلحق بالولايات المتحدة يغفل جوهر المسألة؛ فكثيرا ما كانت القوى العظمى أضعف بكثير من الدولة الرائدة -أقوى دولة في النظام العالمي- ومع ذلك انخرطت في منافسات أمنية خطيرة. علاوة على ذلك، كشفت هذه المنهجية أن الصين اليوم أقوى بالفعل مما كان عليه الاتحاد السوفيتي خلال الحرب الباردة.

وبناء على ذلك، فإن الصين المعاصرة ليست مجرد قوة كبرى، بل قوة عظمى.

وباختصار، يتسم العالم بثنائية القطبية. فهناك العديد من القوى المتوسطة الحجم التي تمتلك نفوذا كبيرا في مناطقها، إلا أن الولايات المتحدة والصين وحدهما تتجاوزان عتبة القوى العظمى. ويفسر هذا التطور تصاعد التوتر في العلاقات الأمريكية - الصينية، ويشير إلى أن الدول الأخرى ستجد صعوبة متزايدة في النأي بنفسها عن الصراع الدائر بينهما.

فعلى سبيل المثال، تفسر ثنائية القطبية اشتغال الولايات المتحدة مؤخرا بأمريكا اللاتينية، حيث اكتسبت الصين نفوذا اقتصاديا وسياسيا كبيرا. ومع اشتداد حدة التنافس بين الصين والولايات المتحدة، ستجد واشنطن مثل هذه التجاوزات غير مقبولة، تماما كما قد ترفض الصين بدورها قبول التدخل السياسي والعسكري الأمريكي في محيطها.

بدأت منهجي بقائمة أعدت بمساعدة مؤرخين وعلماء سياسة، تضم القوى العظمى في مختلف الأنظمة التاريخية منذ عام 1820. وعلى الرغم من اختلاف تعريفات «القوة» و«القوة العظمى» بين الباحثين، فإن هذه القائمة عكست قدرا واسعا من الإجماع، وأرست معيارا أساسيا لتتبع توازن القوى عبر الزمن.

وبالاعتماد على البيانات التاريخية، قيّمت أيّ المقاييس تعيد تمثيل هذه القائمة بدقة. وقد جرى تقييم مقاييس كل دولة على أساس نسبي، أي مقارنة قوة الدولة في ذلك المقياس بقوة الدولة الرائدة خلال الفترة محل التحليل.

وتوضح المنهجية أن مقياسين اقتصاديين ينجحان في تحديد القوى العظمى بدقة: الناتج المحلي الإجمالي، ومقياس مركب يحسب بضرب الناتج المحلي الإجمالي في نصيب الفرد منه.

وقد ذهب باحثون سابقون إلى أن المقياس الثاني يجسد بعدين أساسيين للقوة العظمى؛ هما حجم الاقتصاد ومستوى الثراء. وقد دعمتْ مقاييسي هذا الطرح من خلال قدرتها على التمييز الفعال بين القوى العظمى والدول الأخرى. فبوجه عام، سجلت القوى الأقل قوة درجات منخفضة في كلا المقياسين الاقتصاديين، في حين حققت القوى العظمى درجات مرتفعة، مع وجود فجوة واضحة بين الفئتين. في المقابل، تبين أن نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي وحده مؤشر ضعيف للقوة، إذ فشل في التمييز بين القوى العظمى والقوى الأقل قوة، نظرا لأن العديد من الدول الأقل قوة تتمتع بنصيب مرتفع للفرد من الناتج المحلي الإجمالي. كما أن هذا المقياس قد يكون مضللا، لأنه يخفي التفاوتات الإقليمية داخل الدولة.

ففي الصين والهند، على سبيل المثال، توجد ملايين من أصحاب الدخول المرتفعة إلى جانب مناطق شاسعة ذات دخول منخفضة للغاية.

وبما أن نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي يقوم على المتوسط، فإنه يحجب هذا التفاوت، وقد يؤدي إلى توصيف دولة ما على أنها متوسطة القوة، بدلا من كونها دولة تضم مناطق غنية ومتقدمة تكنولوجيا، ذات قوة كامنة وتداعيات جيوسياسية محتملة.

وبصورة عامة، توفر هذه المنهجية عتبة كمية لتحديد القوى العظمى. وأعرف «القوى العظمى العادية» بأنها تلك التي تقع ضمن النصف الأوسط من توزيع القوى العظمى تاريخيا، مع استبعاد أقوى الدول وأضعفها.

ويتراوح الناتج المحلي الإجمالي لهذه القوى بين 17% و45% من الناتج المحلي الإجمالي للدولة الرائدة، بمتوسط يبلغ 27%. وبناء عليه، فإن الدول التي يتجاوز ناتجها المحلي الإجمالي نحو 27% من الناتج المحلي الإجمالي للدولة الرائدة تمتلك قدرات اقتصادية تفوق متوسط ما امتلكته القوى العظمى عبر التاريخ. ويعتمد تصنيف دولة ما كقوة عظمى شاملة على أدائها في المقاييس الأخرى، غير أن هذه المنهجية تكشف بوضوح ما إذا كانت الدولة أعلى أو أدنى من عتبة القوة العظمى الأساسية، كما تحدد المجالات التي تتمتع فيها بالقوة أو تعاني فيها من الضعف.

وتسهم هذه التقييمات في دراسات تحولات القوة في السياسة العالمية، وتوفر أداة قيمة لتحليل التغيرات المعاصرة في ميزان القوى، مثل تقييم ما إذا كانت الصين في حالة تراجع أو ما إذا كانت الهند تشهد صعودا متسارعا.

يعد التساؤل عما إذا كان بإمكان الصين اللحاق بالولايات المتحدة أو تجاوزها اقتصاديا سؤالا غير دقيق استنادا إلى هذا المنهج التحليلي. فعبر التاريخ، تنافست الدولة الرائدة بشراسة مع قوى عظمى أخرى أضعف بكثير، غالبا ما كانت تمتلك ربع أو ثلث الناتج المحلي الإجمالي للدولة الرائدة فقط. بعبارة أخرى، لا تحتاج الصين إلى مضاهاة الولايات المتحدة أو تجاوزها لتعتبر قوة عظمى ومنافسة، وقد كان الاتحاد السوفيتي مثالا واضحا على ذلك.

خلال الحرب الباردة، كان الاتحاد السوفيتي ينظر إليه على نطاق واسع كقوة عظمى ومنافس جيوسياسي رئيسي للولايات المتحدة، رغم أن حصته من الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة لم تتجاوز 40% في أحسن الأحوال. ومع هذا التفاوت الكبير، شكل السوفيت تهديدا بالهيمنة الإقليمية في أوروبا، إذ أدارت موسكو عمليات استخباراتية عالمية معقدة، وزودت المتمردين في أنحاء العالم بالأسلحة، وقمعت حركات التحرر الوطني في أوروبا الشرقية ودول البلطيق، ونشرت الفكر الشيوعي عالميا. ورغم تخلفه الاقتصادي عن الولايات المتحدة، ظل الاتحاد السوفيتي يشغل السياسة الأمنية الأمريكية لأكثر من ثلاثة عقود.

تتفوق الصين اليوم بشكل كبير على الاتحاد السوفيتي من حيث القوة الاقتصادية، تمتلك القدرة على تحقيق كل هذا وأكثر.

في المؤشر المركب (الناتج المحلي الإجمالي مضروبا في نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي)، يتراوح المعدل الطبيعي للقوى العظمى بين 8 و28% من مجموع نقاط القائد، بمتوسط 15%. تتمتع الصين اليوم، بنسبة 36%، بمعدل مركب أعلى بكثير من المعدل الطبيعي للقوى العظمى تاريخيا، ويتجاوز أيضا معدل الاتحاد السوفيتي الذي لم يتجاوز 16% في ذروته عام 1970. ويظهر مدى قوة الصين النسبية أيضا في مؤشر الناتج المحلي الإجمالي، إذ يبلغ معدلها 130%، أعلى بكثير من المتوسط البالغ 27%. قد يشكك البعض في دقة الإحصاءات الاقتصادية الصينية، لكن حتى لو كان الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي أقل بكثير مما تعلنه، فإن الفارق بين معدل الصين والمعدل الطبيعي للقوى العظمى كبير جدا، ما يجعلها تبقى قوة عظمى، وأعلى بكثير من معدل الاتحاد السوفيتي البالغ 44%.

تتراجع الصين عن الاتحاد السوفيتي في بعد واحد فقط، وهو الإنفاق العسكري. فقد أنفق السوفيت ما يعادل 100% من الإنفاق العسكري الأمريكي، بينما تنفق الصين اليوم 32% فقط. ومع ذلك، كان السوفيت يخصصون نسبة هائلة من الاقتصاد (تصل إلى 14% من الناتج المحلي الإجمالي) للإنفاق الدفاعي، وهو ما ثبت أنه غير مستدام في النهاية.

أما الصين، فتنفق حاليا حوالي 2% فقط من ناتجها المحلي الإجمالي على الدفاع، ما يمنحها القدرة على زيادة الإنفاق العسكري ضمن حدود معقولة.

باختصار، تشير المؤشرات إلى أن الصين ليست بحاجة للحاق بالولايات المتحدة؛ فهي بالفعل منافس قوي اقتصاديا وعسكريا، وتمتلك قوة تفوق بكثير قوة آخر منافس ثنائي القطب للولايات المتحدة، الاتحاد السوفيتي.

يشكك النقاد في قدرة بكين على المنافسة الفعلية، بحجة أن النمو الصيني يتباطأ، وأن الاقتصاد يعاني من مشكلات عديدة، وأن السياسات القمعية المتزايدة التي يتبعها الرئيس شي جين بينغ قد تؤثر سلبا على الابتكار في المستقبل.

تسلط هذه الملاحظات الضوء على تحديات مهمة تواجه الاقتصاد الصيني، لكنها تغفل بعض الجوانب الجوهرية.

أولا، يعد استقرار النمو في الصين نتيجة متوقعة. فالاقتصادات سريعة النمو عادة ما تتباطأ عند مرحلة الدخل المتوسط، والاقتصادات التي تنجح في الحفاظ على نموها تستقر عادة عند مستويات تتراوح بين 1 و2% سنويا. وكما حدث سابقا مع اقتصادات ذات نمو مرتفع –مثل اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان- يمكن أن يكون تباطؤ النمو نتيجة عدة عوامل، منها التغيرات الديموغرافية غير المواتية، وارتفاع الأجور، والأزمات المالية الناتجة عن سنوات من الاستثمار الضخم. وبالتالي، يكمن نجاح الصين ليس في الحفاظ على معدلات نموها المرتفعة للغاية في التسعينيات، بل في قدرة اقتصادها على الاستقرار عند معدلات نمو ناضجة وأقل بكثير.

يواجه الاقتصاد الصيني تحديات مثل قطاع عقاري مضطرب وديون ضخمة ومنافسة حادة بين الشركات، لكن الحديث عن «ذروة الصين» مبكر، إذ إن توقعات انهيار النظام أو تراجع النمو لم تتحقق، وقيادة مرنة وكفؤة تجعل افتراض انهيار الصين أساسا غير موثوق للسياسة.

رغم المخاوف من أن سياسات شي جين بينج الاستبدادية قد تقوض الابتكار في الصين، أثبتت السياسات الاستثمارية الحكومية والخاصة فعاليتها، إذ عززت رأس المال البشري والبحث والتطوير، وحققت تقدما في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا المتقدمة، ما يجعل الصين تتنافس مع الولايات المتحدة بل وتسعى للهيمنة في بعض القطاعات.

يرى بعض النقاد أن العالم بات متعدد الأقطاب، حيث تلعب روسيا، خاصة بعد غزوها لأوكرانيا وتحالفها مع الصين، دورا جيوسياسيا مهما، بينما تبرز ألمانيا واليابان اقتصاديا وتكنولوجيا، وتزداد قوة مجموعة من الدول المتوسطة مثل البرازيل والهند والمكسيك وجنوب إفريقيا وتركيا، التي ارتفعت مساهمتها في الناتج المحلي الإجمالي العالمي من 15% عام 1990 إلى 30% عام 2022، كما تضاعفت قدرتها العسكرية من 7% إلى 15% خلال الفترة نفسها.

ولا تعني زيادة نفوذ القوى المتوسطة تحولها إلى قوى عظمى، إذ لا تتجاوز أي منها العتبة الاقتصادية والعسكرية اللازمة لذلك، بينما الصين والولايات المتحدة وحدهما تفيان بهذه المعايير حاليا، في حين تظل روسيا والهند وألمانيا واليابان دون مستوى القوى العظمى.

يعكس الصراع المتزايد بين الصين والولايات المتحدة في مجالات متعددة طبيعة النظام ثنائي القطبية، حيث تختفي المساحات الآمنة للدول الأخرى. كما يبين أن الدول في محيط النفوذ، مثل فنزويلا وبنما، تواجه ضغوطا اقتصادية وعسكرية نتيجة تقاربها مع الصين، مما يعيد تجربة تأثير الثنائية القطبية على أمريكا اللاتينية كما في الماضي.