عمان العلمي

الضوء والضجيج .. خطر خفي على الإنسان والبيئة

 

د. معمر بن علي التوبي -

أشعر بسريان الطاقة وارتفاعها مع كل محاولة للابتعاد عن المدن وضجيجها، وعن ضيقها وما يتصل بها من تقنيات وأدوات رقمية، والتخفف من متطلبات تفرض علينا الإسراع في إنجازها دون أي شفقة لمكوناتنا النفسية والجسدية، ومن زحام الطرق والتلوث البيئي بأنواعه الكثيرة بما فيها ما يُعرف بالتلوث السمعي أو الصوتي الذي لا نستطيع التحكّم فيه حتى داخل منازلنا -رغم ما نحاوله من حلول، مثل تركيب نوافذ مخصصة للعزل الصوتي والحراري-؛ لندرك أننا لا نستطيع مقاومة البيئة الخارجية التي تضج بكل أنواع التلوث الذي يمكن أن يضر بالصحة النفسية والجسدية معا. إلى جانب ذلك، فإننا في المدن نعيش أيضا حالة من الفوضى الضوئية أو ما يمكن أن نطلق عليه بالتلوث الضوئي؛ فيكاد يكون من الصعب أن تجد نفسك في عتمة تامة ليلة واحدة.

لكنني سبق أن جرّبت، وأرجو أن أجعل ذلك عادة أكررها من حينٍ إلى آخر، اللجوء إلى الطبيعة البِكر التي لم تلحقها كوارث البيئة وأعطابها من الضوضاء السمعية والتلوث الضوئي، وكانت من أفضل التجارب، رغم أنها بالكاد تستمر لساعات معدودة، أو ليوم أو يومين فقط. غير أنني أراها تجربة قادرة على إعادة تنظيم الجسد مرة أخرى، وتنظيم الطاقة فيه، وإعادة ترتيب الحالة النفسية للإنسان التي يفقدها في محيطه الغارق بملوثات البيئة.

عندما تخرج من البيئة الممتزجة -قسرا- بعناصر التمدّن وضرائبه الصحية والبيئية المرهقة، وتقود نفسك إلى مواضع الكينونة الحقيقية للبيئة الطبيعية -مثل الصحراء أو الجبال أو ما شابه-، وتبقى هناك لفترة من الزمن، وتحاول قدر المستطاع أن تكون هذه الجبال أو الصحارى أو المواقع معزولةً عن المدن المكتظة وما يمتد منها أو يتصل بها من تقنيات وأنظمة ومتطلبات معيشية مثل الكهرباء، وضجيج السيارات، والضوضاء، والشاشات، ويصل الحال أن بعض هذه الأماكن لا يصلها الإنترنت أصلا؛ فإنك تجد نفسكَ في حالة من الصمت الحميد والعتمة الداكنة ليلا لا ترى فيها سوى بريق النجوم وجمالها؛ فتعيد للنفس وللجسد اعتبارهما المفقود، وترجعهما إلى أصلهما الأول؛ حيث تدخل في حالة الانسجام الفطري مع الذات الداخلية والطبيعة الخارجية، وعندها تستيقظ ذاكرةُ الجسد وذاكرةُ الروح، فتنهضان من جديد بالكثير من الطاقات الكامنة المولِّدة للإبداع، وتخرجانها من مكامنها العميقة، فتستشعرُ استردادها شيئا فشيئا، وتحس بشعور مختلف، لا يسهل التعبير عنه ووصفه إلا عبر التجربة الذاتية؛ فعندما يأتي المساء في تلك المناطق المعزولة، تجد للظلمة جمالًا لا يمكن أن تجده في المدن المزدحمة المليئة بالحركة والنشاط، وترى السماء متلألئة مزدانة بالنجوم، وتجد نفسك في عتمة لا تسمع فيها إلا الأصوات المتصلة بالطبيعة وموجوداتها: أصوات الرياح، وأصوات الحيوانات، وحركة النباتات، وإن كان هناك ماء تسمع خريره وما يصاحبه من همس طبيعي مريح. هذا ما أحاول -جاهدا- أن أمارسه بين فترات متباعدة رغبةً في إصلاح ما أفسدته الثورة الصناعية والتقنية رغم ما لها من فوائد جمّة.

كل ذلك -للأسف الشديد- لا نستطيع أن نكرره باستمرارية منتظمة؛ نظرا لطبيعة حياتنا ومتطلباتها العملية والمهنية وغيرها، ولكنه كفيل بأن يعيدنا إلى فهم معادلة جميلة تُطرح بين حين وآخر من قِبَل المهتمين بصيانة البيئة وحفظها وحمايتها وتقليل المخاطر التي تتهددها؛

فيظن بعضنا أن ملوثات البيئة محصورة بالملوثات الكيميائية الضارة مثل انبعاثات ثاني أكسيد الكربون وما يضارعه فحسب، ولكن في المقابل هناك أضرار أخرى ينبغي أن نتطرق إليها، وأن نتعامل معها على أنها من المهددات الحقيقية التي تهدد البيئة والإنسان معا، وهذا ما نحاول طرحه ومناقشته في هذا المقال الذي يتعلق بالضوضاء السمعية والتلوث الضوئي. سنحاول أن نبحث عن طبيعة هذه الضوضاء وهذا التلوث الذي يأتي تهديدا دخيلا لبيئتنا، وكيف تتشكّل؟ وما أضرارها، خصوصًا الأضرار الخفية الصامتة التي لا نشعر بها مباشرة؟ ثم نحاول أن نستكشف ما السبل والممارسات التي يمكن اعتمادها لتقليل هذه المهددات التي تهدد البيئة وتهددنا نحن البشر.

تُعيدنا هذه الأزمة المتعلّقة بالبيئة، وضغوطها وملوثاتها المذكورة آنفا، إلى ما سبق أن تحدثتُ عنه في مقالي الأول في -الملحق العلمي لجريدة عُمان- قبل ما يقرب من سنتين عن «المجتمع الصناعي» وأزمة الإنسان المعاصر؛ إذ كانت تلك أيضا إحدى الأزمات التي بدأت تقلق الإنسان منذ أكثر من قرن، مع أول انطلاقات النهضة الصناعية والتطورات التقنية اللاحقة، التي رغم فوائدها الكبرى، ولكنها أحدثت تصادما مع الفطرة الإنسانية مثل: الفطرة النفسية والفطرة الجسدية عند الإنسان، فأوقعت خللا في التركيب الإنساني ذاته. كان موضوع «المجتمع الصناعي» يتعلّق بالصناعة من عدة زوايا، برز فيه التلوث الذي تُحدثه المنظومة الصناعية، وأتسع الضرر ليشمل كثيرا من أبجديات الحياة وتفاصيلها اليومية، والتعلّق بالمادة وما يتصل بها؛ وهو ما دفع بعض المفكرين والمهتمين بالشأن البيئي إلى محاولة مواجهة هذه الأزمة والبحث في جذورها وآثارها.

ثم جاءت بعد ذلك أزمة أخرى عُرفت بـ«المجتمع الرقمي»، وكذلك سبق أن تحدثتُ عنها مرارا وتكرارا، وكانت هي الأخرى أزمة جديدة هزّت عرش الإنسانية والبيئة معا، وقد فصّلنا جوانب منها في مقالات وموضوعات سابقة. أما في هذه الأزمة التي نستعرضها في مقالنا الحالي؛ فإنها -رغم قدم عهدها منذ عهد الطفرة الصناعية- تزداد ضراوة وفتكا بالإنسان وعموم بيئته، ولهذا فإننا نقترب أكثر من العمق الإنساني الذي يتضرر بفعل الضوضاء وبفعل التلوث الضوئي، بكل ما يحمله ذلك من تفاصيل متشعّبة نحتاج أن نفهمها ونسبر مسبباتها وأضرارها وطرق الوقاية منها.

من حيث المفاهيم العلمية، يشير مصطلح «التهيّج البصري» للبيئة إلى الضرر الذي يلحق البيئة -ليلا- بسبب الأضواء الاصطناعية التي تأتي بأشكالها ومصادرها المتعددة كما ذكرنا بعضها في السطور السابقة، وهذا ما يمكن اعتباره مخالفة للنمط البيئي وتوازنه الطبيعي، وكذلك تنتج من هذه الفوضى البيئية ظاهرة «توهّج السماء» التي تكون فيها السماء مضاءةً بسبب السلوك الفيزيائي في عملية التوزّع العشوائي لفوتونات الضوء في الهواء وامتزاجها مع الجسميات الدقيقة والغبار وبخار الماء؛ لتشكّل توهّجًا للسماء يضر بالبيئة وعناصرها الحية.

يمكننا رصدُ عدد من الأضرار التي يسببها التلوث البيئي المذكور آنفا. فعلى سبيل المثال، يؤدي التلوث الضوئي -ويُقصد به انتشار الضوء الصناعي -مثل الإضاءة «LED» ذات خاصية الطيف الأزرق المنتشرة في الشوارع والمباني- الذي يعبث بتوازن الطبيعة وبجمالها والإضرار بصحة الإنسان؛ إذ يُعدّ من العوامل التي تُسهم في الإصابة بالأرق عبر الإخلال بساعات الإنسان -كذلك بعض الكائنات الحية- البيولوجية الطبيعية؛ فيضعف إفراز هرمون الميلاتونين «هرمون النوم»، ويحرم الإنسان ساعات ضرورية من النوم الجيد، ومع تفاقم الخلل في النوم، يقود إلى سلسلة من الأعراض والأمراض الجسدية والنفسية؛ فيزداد مستوى التوتر والقلق والاكتئاب، وتتفاقم معها الأعراض العضوية الأخرى، كما تتزايد احتمالات الإصابة بأمراض متعددة ومتراكمة ترتبط باضطراب الراحة الجسدية والنفسية على حد سواء.

كذلك يمكن أن نرصد، إلى جانب تأثيرات التلوث الضوئي على الإنسان كما ذكرنا، أثره العميق في الحياة الفطرية في البيئة، ولا تقتصر الحياة الفطرية على بعض الحيوانات؛ فتشمل طيفا واسعا من الكائنات الحية بأممها المتغايرة، وكثيرًا ما كنا نسمع من كبار السنّ قصصا عن حيوانات كانت تُرى قبل عشرات السنين معنا في عُمان، قبل قدوم الكهرباء وانتشار الإنارة؛ فكانوا يشاهدونها ويعرفون طباعها، ولم يعد لها وجود في وقتنا الحالي إلا في حالات نادرة، وكانت في مجموعها تُشكِّل عنصرًا من عناصر التوازن في البيئة، ويمكن حينها أن يعدّ التلوث الضوئي وتفاقمه المستمر سببا من أسباب تقلّص الحياة الفطرية نتيجة الخلل الذي أصاب التوازن البيئي؛ حيث إن كثيرا من الحيوانات والطيور تعتمد على درجات الضوء وعلى أضواء النجوم والقمر في نظامها البيئي والسلوكي مثل تحديد الاتجاهات ومواسم التكاثر والهجرة، وبوجود مثل هذا النوع من التلوث، يحدث الاضطراب في السلوك وعدم الانسجام مع أنظمتها الطبيعية، ولهذا نسمع عن تضاعف مخاطر انقراض كثير من الأنواع الحية في البيئة. ينطبق الحال نفسه على الحشرات، والنباتات، وسائر المكونات الحية في المنظومة الطبيعية؛ فيشمل ضرر التلوث الضوئي كل هذه المكونات التي تنتمي إلى الحياة الفطرية.

أما فيما يخص الضوضاء السمعية، أو ما يُسمّيه بعضهم بالتلوث السمعي الذي يُفهم في الوسط الفيزيائي بأنه عبارة عن اهتزازات ميكانيكية تنتقل في الهواء في شكل موجات ضغط؛ فكذلك لها آثار ضارة كثيرة تؤثّر على الإنسان بشكل مباشر، ومن المهم أن نقول إننا لا نريد أن نحصر التلوث السمعي في النوع «الثقيل» من الضوضاء السمعية التي يسهل اكتشافها ونملك قرار الفرار منها مثل الضوضاء العالية التي تكون غالبًا في مواقع العمل مثل: ورش البناء، والمواقع الصناعية عموما؛ فهذه -في كل الأحوال- لها آثارها السلبية المباشرة، التي من الممكن أن تظهر في غضون أيام أو فترات معيّنة بحسب طبيعة الإنسان، وحالته الصحية، والعوامل المحيطة به؛ إذ يكون تأثير هذا النوع من التلوث السمعي سريعا وحادا، ويمكن أن يمتد إلى إضعاف الوظائف السمعية، وإلى التسبب في بعض الأمراض مثل ارتفاع ضغط الدم وغيرها من الأمراض المزمنة.

لكن النوع الآخر، وهو الأخطر بسبب خفائه، هو التلوث السمعي «اليومي» الذي لا نكاد نشعر به إلى درجة من التعود عليه والتأقلم معه دون أي اعتبار لأضراره طويلة المدى، مع أنه في الأصل غير طبيعي، ولكنه «صناعي» من صنع الإنسان نفسه، وناشئ عن تمدد المدن واتساع النشاط الصناعي والعمراني وما يتبع ذلك من حركة السيارات والآلات والأجهزة. كذلك نجد التلوث السمعي حاضرًا بكثافة في مواقع العمل الميدانية، مثل المطارات والمصانع. تسهم هذه البيئات في الإضرار المباشر بالإنسان خصوصا العامل الذي يقضي ساعات طويلة في وسط هذا الضجيج اليومي، إلى حال أنه قد لا يعود يشعر به، ويتعامل معه وكأنه جزءٌ اعتيادي من حياته، ويمكن لمثل هذا النوع من الضوضاء أن يسبب مضاعفات نفسية وعضوية وفسيولوجية متراكمة؛ إذ تشير الدراسات إلى أنه يؤدي إلى ارتفاع هرمونات التوتر لدى بعض الناس مثل هرموني الكورتيزول والأدرينالين، وبمجرد ارتفاع هذه الهرمونات، ترتفع معدلات التوتر الداخلي؛ فتظهر مضاعفات فسيولوجية أخرى، مثل ارتفاع ضغط الدم، وزيادة ضربات القلب، وأمراض القلب والأوعية الدموية وما يماثلها من عاهات عضوية ووظيفية في الجسم. لهذا، فإن الذين يعيشون في المدن الكبيرة، أو في المواقع التي تكون فيها معدلات التلوث السمعي مرتفعة، يكونون أكثر عرضة للاضطرابات النفسية وحالات القلق والتوتر، وبالتالي أكثر عُرضة كذلك للأمراض العضوية المرتبطة بها، مثل أمراض القلب وغيرها، وهو ما يجعل الضوضاء السمعية شكلًا من أشكال التهديد المباشر لصحة الإنسان وجودة حياته.

لا توجد نصائح سحرية يمكن أن أمنحها للقارئ أو لصنّاع القرار، ولكن من يدرك مخاطر هذه الأنواع من التلوثات البيئية الأقرب وصفها إلى أنها تلوثات «صامتة» أعتدنا على التعايش معها؛ سيبحث بجديّة في إيجاد الحلول التي يمكن أن تقلل الأضرار قدر المستطاع، ومنها -وأبسطها- المساهمة الفردية لسكّان المدن بتقليل الاستعمال -غير الضروري- للإضاءة الليلية، وهذا ما يمكن أن يمتد إلى صنّاع القرار عبر الاختيار الأنسب والصحي لنوع الإضاءات المستعملة في الطرق والمواقع العامة، وترشيد استهلاكها حفظا على البيئة من التلوث الناتج عن انبعاثات الطاقة المستعملة في تشغيل الكهرباء وفي الوقت نفسه تقليل ظاهرة التلوث البيئي ومنح الطبيعة ومن يعيش فيها فسحةً من الهدوء الفطري، ووجدنا مثل هذه الجهود في بعض الشوارع الداخلية في بعض الولايات العُمانية التي بدأت توقف الانبعاثات الضوئية غير الضرورية بعد منتصف الليل، وعساها أن تعمم في جميع الشوارع الداخلية ذات الحركة النادرة بعد ساعات الليل المتأخرة. هذا أيضا ما ينبغي أن يكون مع التلوث السمعي الذي يمكن تقليله عبر القوانين والضوابط سواء فيما يتعلق بمواقع الصناعة أو المواقع السكانية وما ينتج فيها من تلوث سمعي متعدد المصادر. في الختام، أقترح على القارئ أن يحجز لنفسه فرصة يقترب فيها من الطبيعة البكر ويمكث في رحابها لأيام؛ ليكتشف مغزى هذا المقال وأهميته.

د. معمر بن علي التوبي أكاديمي وباحث عُماني