عمان العلمي

الذكاء الاصطناعي يكتب الكود.. فهل يكتب نهاية المطورين ؟

 

د. محمود البحري -

يشهد قطاع تطوير البرمجيات تحولا جذريا بفعل تطوّر النماذج اللغوية الضخمة والشبكات العصبية القادرة على توليد الأكواد وتحليلها. لم يعد المطوّر محصورا في كتابة الشيفرات سطرا بسطر، بل أصبح مسؤولا عن تصميم الأنظمة الذكية والإشراف على جودة المخرجات التي ينتجها الذكاء الاصطناعي. هذا التحوّل يعيد تعريف المهارات المطلوبة في سوق العمل؛ حيث تتراجع أهمية المهارات التقنية الصرفة لصالح مهارات التحليل، والإبداع، وفهم سياق التطبيق.

تشير الدراسات الحديثة إلى أن نحو 40–60٪ من المهام البرمجية المتكرّرة أصبحت قابلة للأتمتة باستخدام أدوات مثل GitHub Copilot وChatGPT Code Interpreter ومع ذلك، لا يُتوقّع أن يحل الذكاء الاصطناعي محلّ المطوّر بالكامل، بل سيحوّله إلى ما يمكن تسميته بـ «مهندس الذكاء الاصطناعي التطبيقي» — أي خبير قادر على توجيه النماذج، و مراقبة أدائها، ودمجها في بيئات العمل الواقعية.

من ناحية أخرى، يتطلّب هذا التحوّل إعادة النظر في المناهج الأكاديمية لتخصصات الحاسوب والهندسة، فالمهارات المستقبلية لمطوّري البرمجيات لن تقتصر على لغات البرمجة، بل ستركّز على هندسة التعليم الآلي، وأخلاقيات الذكاء الاصطناعي، وإدارة البيانات، والتفاعل بين الإنسان والآلة. إننا أمام انتقال من مفهوم «البرمجة» إلى مفهوم أوسع هو «التصميم الإدراكي للأنظمة الذكية».

الواجهة الأمامية تتحوّل

إلى واجهة موحّدة

تبدو الواجهة الأمامية اليوم في طريقها لتصبح واجهة متكاملة وشاملة تجمع بين المستخدم والخدمات الرقمية المختلفة في نقطة تفاعل واحدة. تمثّل ميزة ChatGPT الجديدة خطوة بارزة في هذا الاتجاه، إذ تتيح -في نسختها التجريبية الحالية- تشغيل تطبيقات خارجية مباشرة من داخل واجهة الدردشة، وقد قامت شركة OpenAI بدمج عدد من الخدمات الرائدة في هذا المشروع، مثل Canva وBooking.com وغيرها، ما يتيح للمستخدم تنفيذ مهام معقّدة دون مغادرة منصة المحادثة.

ورغم أن التجربة لا تزال محدودة ولا تشمل سوى عدد قليل من التطبيقات، فإنها تعكس بوضوح رؤية OpenAI لتوحيد واجهات الاستخدام عبر الذكاء الاصطناعي. حتى الآن، لا يمكن للمطورين المستقلين ربط خدماتهم بـ ChatGPT بشكلٍ مباشر، إذ يقتصر هذا التكامل على الشركات الكبرى التي تتعاون مع OpenAI من خلال اتفاقيات خاصة، وقد أظهر الفيديو التوضيحي الصادر عن الشركة مدى انسيابية هذه التجربة وأناقتها البصرية، مما يعزز الانطباع بأنها قد تغيّر مفهوم التفاعل الرقمي التقليدي.

من الصعب في الوقت الراهن التنبؤ بمستقبل هذه الميزة، غير أن المؤشرات التقنية والاستراتيجية توحي بأن OpenAI تسعى إلى أن تصبح الواجهة العالمية الموحّدة لأي خدمة رقمية. ويبدو هذا الهدف جليا من خلال تطويرها حزمة الأدوات App SDK، التي تمكّن المطوّرين مستقبلا من دمج تطبيقاتهم وخدماتهم مباشرة في منظومة ChatGPT، ما يمهّد لبنية جديدة من التفاعل بين الإنسان والآلة تتجاوز حدود التطبيقات المنفصلة. 

و إذا نجح ChatGPT في ترسيخ مكانته كواجهة تفاعلية رئيسة، فإن مفهوم الواجهة الأمامية (Front-End) كما نعرفه اليوم قد يشهد تحوّلا جذريا. في النموذج التقليدي، كان المستخدم بحاجة إلى استكشاف واجهة النظام يدويا، والبحث عن الأزرار، وتحديد القوائم، والتنقّل بين الصفحات للوصول إلى الوظائف المطلوبة، أما في البيئة الجديدة التي يقدّمها الذكاء الاصطناعي، فإن هذه العملية بأكملها يمكن أن تُدار عبر التفاعل اللغوي الطبيعي -حيث يتولّى النظام تفسير نية المستخدم وتنفيذ الأوامر نيابة عنه.  

في هذا السياق، يتراجع الدور الجمالي والتقني للواجهة الرسومية بوصفها نقطة الاتصال الأساسية مع المستخدم، لتصبح مجرد طبقة خلفية تُستخدم عند الحاجة. سيقلّ الاعتماد على التصميمات المعقّدة والعناصر التفاعلية التقليديةP لأن المستخدم لن يحتاج بعد الآن إلى التفاعل البصري المباشر مع الأزرار أو القوائم، وبدلًا من التركيز على سهولة الوصول إلى المكونات البصرية، سيصبح التركيز منصبًا على دقّة فهم الذكاء الاصطناعي لنية المستخدم، وجودة استجابته وسرعة تفاعله.

بهذا المعنى، فإن مستقبل تطوير الواجهات الأمامية قد يتجه نحو تصميم واجهات خفية أو مضمّنة (Invisible Interfaces)، يكون جوهرها اللغة الطبيعية، لا العناصر الرسومية. إنها نقلة نوعية في تجربة الاستخدام (UX) تجعل من التفاعل مع التقنية تجربة أكثر ذكاءً ومرونة، وأقرب إلى التواصل البشري الفعلي.

هل سيُغني ChatGPT

عن واجهات التطبيقات التقليدية؟

السؤال المحوري الذي يطرح نفسه هنا هو: هل يعني هذا التطوّر أن واجهات التطبيقات التقليدية ستصبح شيئًا من الماضي، لتحل محلّها واجهة ChatGPT بالكامل؟

الإجابة، على الأرجح، لا، فعلى الرغم من الطفرة التي تحققها تقنيات التفاعل اللغوي، إلا أن واجهات التطبيقات لم تختفِ بعد، بل ما زالت تؤدي دورًا أساسيًا في تجربة المستخدم. ما تغيّر هو مكان عرضها وطريقة الوصول إليها، فبدلًا من فتح تطبيق مستقل أو استخدام متصفح، تُعرض الواجهة الآن داخل بيئة ChatGPT نفسها، لتصبح جزءًا من المحادثة، دون مغادرتها.

هذا ما نلاحظه بوضوح في الأمثلة العملية التي عرضتها OpenAI، مثل Figma وSpotify، حيث يتم استدعاء واجهات التطبيقات داخل نافذة الدردشة ذاتها. تُقدَّم الواجهة بنفس التصميم والوظائف، لكنّها تعمل كامتداد ذكي داخل منظومة ChatGPT. بعبارة أخرى، لم تُلغَ الواجهة الرسومية، وإنما أُعيد تعريفها لتتكامل مع واجهة المحادثة، في نموذج يمكن وصفه بـ»الواجهة الهجينة» — يجمع بين الذكاء اللغوي والتفاعل البصري.

لماذا لن تختفي الواجهة الأمامية

رغم صعود الذكاء الاصطناعي؟

في النماذج التقليدية، كانت واجهات المستخدم تُصمَّم مع مراعاة التفاعل البشري المباشر — أي أن التصميم كان يُركّز على وضوح العناصر، وسهولة الاستخدام، وجاذبية التجربة البصرية، إلا أن انتشار الشبكات العصبية وأنظمة الذكاء الاصطناعي التفاعلية بدأ يُغيّر هذا المنظور تدريجيًا. فكلما ازدادت قدرة الأنظمة على فهم اللغة الطبيعية وتنفيذ الأوامر دون الحاجة إلى تفاعل بصري مباشر، تراجعت الحاجة إلى واجهات معقّدة، وبدأت تجربة المستخدم (UX) تميل نحو التبسيط البصري والاعتماد على الأتمتة الذكية.

ومع ذلك، من المستبعد أن تحل واجهة ChatGPT العالمية محل جميع واجهات التطبيقات في العالم. بل من المرجّح أن تتعايش النماذج المختلفة لفترة طويلة، للأسباب التالية:

1.التنوّع في سلوك المستخدمين:

لا يستخدم الجميع ChatGPT أو الشبكات العصبية عمومًا، رغم نمو أعدادهم السريع. سيظل هناك عدد كبير من المستخدمين يفضلون التفاعل المباشر مع الواجهات التقليدية لأسباب تتعلق بالاعتياد، أو الخصوصية، أو سهولة الاستخدام.

2.القيود الأمنية والتنظيمية:

هناك خدمات — خصوصًا أنظمة الشركات الداخلية — لا يُسمح لها قانونيًا أو أمنيًا بالاتصال بمنصات خارجية مثل: ChatGPT . ينطبق ذلك أيضًا على قطاعات التكنولوجيا المالية والخدمات الحكومية، التي تفرض معايير صارمة لحماية البيانات.

3.مخاطر الخصوصية وتسريب البيانات:

مشاركة بيانات حساسة مع نموذج متصل بالإنترنت العام تمثل خطرًا حقيقيًا، إذ إن ChatGPT يستمر في التعلّم من تفاعلات المستخدمين، وهو ما يجعل المؤسسات الكبرى تُقيّد استخدامه أو تحظر دمجه مع بياناتها الداخلية.

4.رفض المستخدمين مشاركة بيانات الاعتماد:

ليس من المؤكد أن الأفراد سيثقون بمشاركة بيانات الدخول أو المعلومات المصرفية مع نموذج ذكي، خصوصًا إذا كانت الحسابات مرتبطة ببطاقات دفع أو بيانات شخصية حساسة.

بناءً على ما سبق، يمكن القول إن الواجهة الأمامية لن تختفي، لكنها ستتطور، و سيُعاد تعريفها لتصبح أكثر ذكاءً ومرونة، لكنها ستظل موجودة بوصفها نقطة التفاعل الأساسية في البيئات التي تتطلّب الأمان، الخصوصية، أو التحكم الكامل بالمحتوى.

لقد شهدنا تحولات مشابهة في الماضي؛ فعندما ظهرت الأجهزة المحمولة، كانت تصميمات المواقع المتوافقة معها نادرة، ثم أصبحت اليوم المعيار الذهبي في تصميم واجهات المستخدم. وبالطريقة ذاتها، سيستغرق الانتقال إلى نموذج «الواجهة القائمة على الذكاء الاصطناعي» وقتًا طويلًا، وستتعايش النماذج القديمة والجديدة معًا قبل أن يستقر التوازن بينهما.

الواجهة الخلفية.. القلب الخفي

الذي لا يمكن الاستغناء عنه

مع توسّع سيطرة ChatGPT على تجربة المستخدم وتحوّله إلى بوابة موحّدة للخدمات الرقمية، يمرّ دور الواجهة الخلفية (Back-End) بتحوّل موازٍ لا يقل أهمية، فمع انتشار حزمة تطوير البرمجيات (SDK) الخاصة بـ OpenAI، لن يتفاعل خادم التطبيق مستقبلاً مع واجهته الأمامية فحسب، بل أيضًا مع خوادم OpenAI نفسها، بما يتيح للمستخدمين الوصول إلى الخدمات عبر واجهة المحادثة مباشرة.

من الناحية التقنية، لا يختلف هذا التفاعل كثيرًا عن الطلبات التقليدية التي تُوجَّه إلى خوادم التطبيقات، فالواجهة الخلفية، في جوهرها، لا تهتم بهوية الجهة المستدعية — سواء كانت واجهتها الأمامية المعتادة أو خادم ChatGPT ، ما يتغيّر هو طبيعة القنوات والبنية التفاعلية، إذ يُضاف إلى النموذج الكلاسيكي القائم على علاقة «العميل–الخادم» نموذج جديد يمكن وصفه بـ «الخادم–الخادم»، حيث يتواصل خادم التطبيق مع خادم OpenAI لتنفيذ المهام وتبادل البيانات.

ورغم هذا التحوّل، فإن أهمية الواجهة الخلفية لا تتراجع، بل على العكس، تزداد، فالذكاء الاصطناعي، مهما بلغت قدرته، لا يستطيع أن يحلّ محل المنطق التطبيقي الخاص بكل نظام، فالواجهة الخلفية ليست مجرد ناقل للبيانات، بل هي العقل التشغيلي الذي يُدير القواعد التجارية (Business Logic)، ويتكفّل بالأمان، وإدارة الجلسات، وتكامل الأنظمة. هذه المهام لا يمكن أتمتتها بالكامل بالشبكات العصبية -لا اليوم، ولا في المستقبل القريب- إلا إذا تغيّرت بنية الذكاء الاصطناعي جذريًا.

على سبيل المثال، يمكن لـ ChatGPT أن يُساعد المستخدم في حجز فندق عبر Booking.com من خلال واجهة محادثة ذكية، لكنه لا يُنفّذ عملية الحجز الفعلية، ولا يُدير الاتصال بالخادم، أو يتحكّم في تخزين بيانات العملاء، أو يُطبّق سياسات الدفع، إنه ببساطة يُوجّه الطلب، بينما تبقى المهام الجوهرية تحت إشراف البنية الخلفية للتطبيق، حتى عندما يُنتج ChatGPT شيفرةً برمجية لتلك العمليات، فإن نجاحها يعتمد في النهاية على التحقّق البشري والهندسة المنطقية الدقيقة.

المسألة إذًا لا تتعلق بـ قوّة الذكاء الاصطناعي، بل بطبيعته ذاتها، فالشبكات العصبية لا «تفكّر» بالمعنى البشري للكلمة؛ إنها أدوات قوية للتعرّف على الأنماط وتوليد المخرجات بناءً على بيانات سابقة، لكنها لا تمتلك القدرة على الاستدلال أو بناء القواعد المنطقية الجديدة.

فعلى سبيل المثال، إذا علّمت إنسانًا أن 2 + 2 = 4، فسيتوصّل بنفسه إلى أن 2 + 3 = 5 و3 + 5 = 8 عبر تطبيق مبدأ الجمع، أمّا الشبكة العصبية، فهي تعرف فقط أن 2 + 2 = 4 لأنها رأت هذه العلاقة في بياناتها، لا لأنها استنبطتها منطقيًا.

ولهذا السبب، ستظل الواجهة الخلفية — بما تمثّله من تفكير هندسي ومنطق استنتاجي — ركيزة لا غنى عنها في هندسة البرمجيات الحديثة، حتى في عصر الذكاء الاصطناعي الشامل.

تكنولوجيا المعلومات والأتمتة.. حين لا يُمكن للذكاء الاصطناعي أن يحل محل المنطق البشري

تُعدّ التطبيقات المدمجة في ChatGPT مثالًا حيًّا على التأثير العميق الذي تُحدثه الشبكات العصبية في قطاع تكنولوجيا المعلومات بأكمله، فمن خلال النظر إلى المشهد الأوسع، يتضح أن الذكاء الاصطناعي لا يُغيّر تجربة المستخدم (UX) فحسب، بل يُعيد تشكيل عملية التطوير البرمجي نفسها على مستوى البنية والمنهج.

إحدى أبرز صور هذا التحول هي مساعدو البرمجة بالذكاء الاصطناعي المدمجون اليوم في معظم بيئات التطوير المتكاملة (IDEs) ومحررات الأكواد الحديثة. هذه الأدوات تجاوزت مرحلة الإكمال التلقائي البسيط، لتصبح قادرة على توليد كتل برمجية كاملة استنادًا إلى وصف نصي من المطوّر. فعلى سبيل المثال، في أداة GitHub Copilot، يكفي أن يصف المطور وظيفةً يرغب في تنفيذها، ليُنشئ المساعد الذكي الدالة المطلوبة خلال ثوانٍ.

و لمثل هذه الأدوات مزايا كبيرة يصعب تجاهلها:

1. تسريع عملية تصحيح الأخطاء:

لم يعُد المطور بحاجة إلى قضاء ساعات طويلة في تتبّع الأخطاء البرمجية، إذ تستطيع أدوات الذكاء الاصطناعي اكتشافها واقتراح الحلول بسرعة ودقّة.

2. زيادة كفاءة الإنتاج:

تُختصر العمليات المتكررة وعمليات النسخ واللصق المملة إلى بضعة أسطر مكتوبة عبر تفاعل لغوي بسيط، مما يُسرّع عملية التطوير بأكملها.

3. تسهيل إنشاء النماذج الأولية

يمكن بناء نموذج أولي عامل خلال وقت قياسي، بفضل قدرة الذكاء الاصطناعي على توليد الشيفرة المبدئية التي يُمكن للمطوّر تحسينها لاحقًا.

ما الجانب المظلم للأتمتة البرمجية؟

هذا الانتشار الواسع للذكاء الاصطناعي في التطوير البرمجي يحمل معه تحديات جوهرية، فهناك فئة من المطورين بدأت تُفوّض مهامها بشكل مفرط إلى الشبكات العصبية، حتى باتوا يعملون بوصفهم «مشغّلي علامات تبويب» أكثر من كونهم مطورين فعليين. يعتمد هؤلاء على المخرجات الجاهزة دون تحليل أو مراجعة منطقية، مما يُضعف قدرتهم على التفكير البرمجي النقدي ويُقلّل من فهمهم للبنية الداخلية للأنظمة.

هذا الاتجاه يُغذّي وهمًا شائعًا بأن الشبكات العصبية قادرة على استبدال المطورين البشريين، لكن الحقيقة مغايرة تمامًا، فالمطوّرون هم من يُقصون أنفسهم تدريجيًا عندما يتخلّون عن ممارسة التفكير الهندسي الواعي ويُفوّضون قراراتهم التقنية للأدوات الذكية دون إشراف. والنتيجة ليست دائمًا مثالية:

أخطاء منطقية غير مرئية، حلول دون المستوى الأمثل، وثغرات أمنية قد تمر دون اكتشاف — وكلها نتائج لغياب التحليل البشري الذي لا يمكن للأتمتة تعويضه.

يُثبت هذا المشهد أن الأتمتة لا تُلغي المنطق البشري، بل تعتمد عليه، فالذكاء الاصطناعي يُمكنه تسريع العمل وتوسيع القدرات، لكنه لا يستطيع أن يُفكّر أو يُبدع بالمعنى الحقيقي. تظل الفكرة، والتحليل، والربط المنطقي هي جوهر العمل البرمجي، وهي ما يمنح المطورين تفوقهم الحقيقي، لا الأدوات التي يستخدمونها.

لماذا يُعدّ الاعتماد المفرط على الذكاء الاصطناعي غير مربح للسوق؟

للوهلة الأولى، قد يبدو الاعتماد على الشيفرات التي تُولّدها الشبكات العصبية مفيدًا لجميع الأطراف، فالمطورون المبتدئون يمكنهم دخول سوق العمل بسرعة دون تدريب طويل، والشركات تستطيع إطلاق تطبيقات جاهزة بسرعة قياسية وتحقيق أرباح مبكرة، إلا أن النظرة العميقة تكشف أن هذا المسار، رغم جاذبيته القصيرة الأجل، يمثل طريقًا مسدودًا على المدى الطويل.

الحقيقة أن الشبكة العصبية ليست مهندسًا، ولا تمتلك القدرة على الاستبصار أو التفكير الاستراتيجي، فهي تعمل ضمن حدود البيانات التي تدرّبت عليها، وتفتقر إلى الفهم المنطقي أو الوعي بالسياق التجاري والتقني للمشروع، و نتيجة لذلك، تُنتج الشيفرات بخصائص محدودة تخلو من الاعتبارات الجوهرية التي تُميّز العمل البرمجي المتقن، مثل:

1. انعدام قابلية التوسّع

الشيفرة التي تُولّدها الشبكات العصبية عادةً لا تراعي النمو المستقبلي للنظام، وعندما يتوسّع المشروع، تُصبح البنية البرمجية غير صالحة، مما يفرض إعادة كتابة الكود من البداية، بتكلفة مرتفعة.

2. ضعف دعم الشيفرة القديمة

لا تُراعي النماذج التوافق مع الإصدارات السابقة أو تحسين التبعيات (Dependencies)، مما يجعل الصيانة التقنية لاحقًا معقدة ومكلفة.

3. المخاطر الأمنية والأخطاء المتوارثة

تتعلّم الشبكات العصبية من أكواد منشورة مسبقًا، تحتوي أحيانًا على ثغرات أمنية أو حلول غير فعّالة، عند إعادة إنتاجها، تُعيد إدخال نفس الأخطاء -أو حتى تفاقمها- مسببة مشكلات في الأداء أو تسريبات في الذاكرة.

وقد ظهرت بالفعل أمثلة عملية على هذه المخاطر، ففي يوليو 2025، تسبّبت إحدى خدمات «برمجة الاهتزازات بالذكاء الاصطناعي» في حذف قاعدة بيانات رئيسية بالكامل ضمن تطبيق كانت قد أنشأته بنفسها، وفي حوادث أخرى، استبدلت الأنظمة الذكية البيانات الحقيقية ببيانات مزيفة دون إشراف بشري، مما أدى إلى خسائر فادحة في موثوقية النظام.

صحيح أن الشيفرة الناتجة عن الشبكات العصبية قد تعمل بكفاءة آنية، لكنها تفتقر إلى الاستدامة الهندسية، ومع مرور الوقت، تتراكم الأخطاء الخفية ويزداد خطر فقدان البيانات، ما يجعل هذا النهج غير آمن تجاريًا حتى لو بدا مغريًا من حيث السرعة أو الكلفة الأولية.

من منظور اقتصادي واستراتيجي، الاستثمار في المطورين ذوي الخبرة أكثر ربحية وأمانًا على المدى البعيد. فالعقل البشري وحده قادر على فهم السياق، والتخطيط المستقبلي، وتطبيق المنطق الهندسي المتكامل. ولهذا، من المستبعد أن تختفي الحاجة إلى المطورين المؤهلين في العقد القادم — بل ربما تزداد، مع تحولهم إلى موجّهين ومهندسين للذكاء الاصطناعي بدلاً من منافسين له. 

د. محمود البحري أستاذ مساعد - منسق برنامج الحوسبة والوسائط المتعددة- كلية الحاسوب وتقنية المعلومات - جامعة صحار