من الحلزون المزدوج إلى أجمل تجربة في الأحياء« قصة كشف آلية النسخ الوراثي»
الأربعاء / 25 / جمادى الآخرة / 1447 هـ - 10:01 - الأربعاء 17 ديسمبر 2025 10:01
سعد صبار السامرائي -
جاء مصطلح «الشيفرة» من الكلمة اللاتينيَّة caudex، بمعنى لوح الشجرة الذي كان يستخدم للكتابة في الحضارات القديمة. وهو اشتقاق عبقري استخدمه جيمس واتسون وفرانسيس كريك مباشرةً بعد اكتشافهما لبنية الحلزون المزدوج. فبعد أن نشرا نتائج بحثهما الثوري في شهر أبريل عام 1953 في مجلة نيتشر، والذي اهتم بموضوع البنية وأغفل ذكر آليَّة انتقال المعلومات الوراثيَّة من الحمض النووي إلى الخلايا لصناعة البروتينات. تدارك كريك بعبقريَّته الفيزيائيَّة المعهودة المشكلة سريعًا ووضع مع رفيقه واتسون فرضيَّة نُشرت أيضًا في مجلة نيتشر، في نهاية شهر مايو عام 1953، تتحدث عن الدور الوراثي الذي يؤديه الحمض النووي وذكرا «أن التسلسل الدقيق للأسس هو الشيفرة التي تحمل المعلومات الوراثيَّة».
وبعد أسبوعين فقط من نشر هذه الورقة كتب كريك رسالة إلى ابنه مايكل البالغ من العمر 12 سنة، يتحدث فيها عن أهميَّة اكتشاف تركيب الحمض النووي، يقول فيها: «إنه كالشيفرة- الرمز الذي إذا أعطيتك مجموعة من حروفه يمكنك تدوين الأخرى. نحن نؤمن أن الـ (DNA) هو الشيفرة، وأن تتابع القواعد النيتروجينيَّة هو الحروف التي تجعل جيناتنا مختلفة، كما تختلف كلمات صفحة في كتاب ما عن الأخرى». لتُعرَفَ هذه الرسالة المكتوبة بيد كريك بخط لندني مع رسمة للحلزون المـزدوج «رسالة الحياة»، وقد بيعت في عام 2013 في المزاد بمبلغ يقارب 6 ملايين دولار، وهو ما يجعلها أغلى رسالة بيعت على الإطلاق.
وبعد اكتمال معالم الحلزون المزدوج وقياساته الدقيقة، بشكله المائل لليمين وقطره البالغ 20 أنجستروما، وبطول 34 أنجستروما لكل دورة كاملة، بواقع عشرِ قواعد نيتروجينيَّة لكل سلسلة. نحن نعلم الآن أن أسطح هذه القواعد تكون كارهة للماء مما يعطيها قوة تلاصق عالية. من ناحية أخرى، يعطي الترابط الكيميائي الحتمي بين A-T، C-G التماثل الهندسي المثالي في جزيئة الحمض النووي (DNA)، لا يمكن للاحتمالات الثمانية الأخرى بين القواعد (GG, CT, CC, AG, AC, AA, GT,TT) أن تعطي الثبات المطلوب، لأنها ضعيفة من الناحية الهندسيَّة، ما يجعل فكرة الارتباط الزوجي بعيدة المنال، حتى لو كان الترابط الزوجي قويًّا (أقوى من اللازم) فإن أسطح اللولبين للحلزون سينغلقان على بعضهما.
إضافةً إلى ذلك، يلعب تطابق الأشكال بين الجزيئات دورًا محوريًّا في استقرار الهيكل الحلزوني، فلو ارتبطت قاعدتا البيورين كبيرتا الحجم ثنائيَّتا الحلقة مع بعضهـما (G-A) فستأخذ مساحة كبيرة فلا يمكن تكوين حلزون مزدوج. في المقابل، لو ارتبطت قاعدتا البيرمدين الصغيرتان، أحاديَّتا الحلقة، مع بعضهما (T-C)؛ فسيحتلان فراغًا صغيرًا نسبيًّا مما يسبب ضعف تماسك الحلزون. لذلك؛ فإن النتيجة الحتميَّة لسير الحلزونين باتجاهين متعاكسين تأتي من حقيقة عدم إمكانيَّة تغيير زوايا الروابط النيتروجينيَّة بين مكونات النيوكليوتيدات.
- والسؤال التالي هو: كيف يتضاعف هذا الجزيء وينقل مادته الوراثيَّة من خليَّة لأخرى؟ وما الطريقة التي يحافظ فيها شريط المعلومات على ثباته؟
اقترح واتسون وكريك مباشرةً بعد نشر دراستهما الشهيرة، بأن ثمة آليَّة نسخ محتملة للمادة الوراثيَّة، وأن أسـاس آلية التضاعف وصناعة نسخ متطابقة تعتمد على التكامليَّة، إذ يتوجب انفصال السلسلتين المكونتين للحلزون المزدوج حتى يتسنى استخدام كل منهما كقالب لبناء جزيء جديد. بمعنى آخر، في أثناء عمليَّة التضاعف يحدث التعاقب في الشريطين الأبويين لتضاعف الشريطين البنويين. عُرف هذا النموذج باسم النموذج شبه المحافظ، إذ يبقى شريط أبوي واحد من الحلزون الأبوي مع الحلزون البنوي (شبه محافظ) ويُبنى شريط جديد مُكَمِّل لكل شريط أبوي. في نهاية الانقسام الخلوي تتضمن الأشرطة البنويَّة شريطًا واحدًا أبويًا وآخر بنويًّا مكملًا له.
لاقى نموذج واتسون- كريك قبولا لدى أغلب العلماء، واعتبروه التفسير الأفضل لآلية تضاعف الحمض النووي، بيد أن السباق المحموم بين الباحثين لفك مغاليق وأسرار الحمض النووي كانت كفيلة بوضع خط أحمر تحت كل فكرة جديدة وعلامة سؤال خلف كل فرضيَّة مقترحة. فعارض عالم الفيزياء النظريَّة ماكس ديلبروك النموذج شبه المحافظ ونشر بحثا في دوريَّة العلوم الأكاديميَّة الوطنيَّة، ينتقد فيه النموذج شبه المحافظ وعلل ذلك بصعوبة انفصال السلسلة بشكل كامل من جزيء الحمض النووي، فمن أجل أن تعمل السلاسل الفرديَّة بصفة قوالب بناء في أثناء النسخ المتماثل، وفقا لديلبروك كان هذا الفصل مستحيلا لسببين مختلفين؛ الأول: إن سحب السلسلة بالطول قد يسبب تشابك السلاسل الملتفة من الحلزون. والثاني، إن عمليَّة فصل السلاسل تحتاج إلى طاقة عالية فوق قدرة الخليَّة.
سبَّبت تحفظات ديلبروك حول النموذج إرباكا في يقين واتسون- كريك وزرعت في نفوسهما الشك، بخاصة أن ديلبروك لم يكتفِ بنقد آليَّة التضاعف فحسب، بل طرح نموذجا بديلا معقَّدا أطلق عليه النموذج التشتتي؛ والذي ينص على أن سلاسل الـ(DNA) تتناثر إلى أجزاء عند كل نصف منعطف للحلزون لمنع التشابك عند الفصل. فلقد افترض أن تلك القطع الصغيرة تنفصل على قسمين، وتضاعف نفسها، ثم تتجمع مرة أخرى. بمعنى أن النسخ الجديدة من الـ(DNA) تتكون من خليط من الأشرطة الأبويَّة وأشرطة بنويَّة جديدة، وفي أثناء الانقسام الخلوي يتكون الـ(DNA) جديد متفرق ومبعثر في جميع النسخ الجديدة.
استخدم ديلبروك خياله الفيزيائي لاختبار نموذجه البيولوجي المقترح بشكل تجريبي؛ حيث ذكر في وقائع مؤتمر الأساس الكيميائي للوراثة الذي عُقد في جامعة جونز هوبكنز في 19 يونيو من عام 1956. فإذا ما قمنا بتتبع السلاسل الفرديَّة للحلزون الأبوي قبل النسخ المتماثل فعندئذٍ وفقا لآلية النسخ فإن السلاسل الأبويَّة ستنتشر في جميع الحلزونات المتكونة حديثا بعد عمليَّة الانقسام الخلوي. على العكس من ذلك، إذا نُسِخ الـ(DNA) على أساس النموذج شبه المحافظ كما اقترح واتسون وكريك، فإن سلاسل الحلزون المزدوج غير المُعَرَّفة ستكون موجودة في الحلزون البنوي بعد التكرار الثاني.
كان ديلبروك أول عالم يقترح علنًا طريقة لتحديد نموذج تكرار الـ(DNA) بشكل تجريبي. بالإضافة إلى النموذجين السابقين. فاقترح العالم ديفيد بلوخ من جامعة كولومبيا النموذج الثالث؛ النموذج المحافظ، إذ تبقى الأشرطة الأبويَّة المزدوجة مع بعضها محفوظة، في حين تلتحم الأشرطة البنويَّة الجديدة مع بعضها كنسخة ناتجة عن القديمة. تعدُّ فترة الخمسينيات من القرن العشرين الأيام الأولى لبزوغ فجر الأحياء الجزيئيَّة، فترة مثيرة، تنافس محموم لفك أسرار جزيئة الحياة، بحث دؤوب وتجارب عديدة تُجرى خلف أبواب المختبرات. التجارب العظيمة إما أن تثبت فكرة سابقة، وإما أن تكشف عن نتائج غير متوقعة تؤدي إلى صياغة نموذج معرفي جديد. هذه هي طبيعة العلم، تطوُّر مستمر، يُحرك كل ساكن، ويزعزع كل جامد، تُنشر الأفكار والبقاء للأصلح، يبقى أفضلها لسنوات عديدة، إن لم يكن إلى الأبد. التجارب بطبيعتها تكون مؤقتة ومفيدة ولكن للحظة من الزمن.
ومع ذلك، هناك تجارب اجتازت اختبار الزمن وبقيت خطواتها محفورة في بروتوكولات طرق العمل. ومن هذه التجارب الرائدة هي تجربة ميسلسون وستال أو كما وصِفت في أدبيات البيولوجيا بأنها «أجمل تجربة في علم الأحياء»، وضَعت هذه التجربة النقاط على حروف الحياة وحددت آليَّة التضاعف المقبولة من بين ثلاث فرضيات مُقترحة. التقى ميسلسون وستال لأول مرة في ندوة علميَّة عُقدت في رحاب مختبر الأحياء البحريَّة في ماساتشوستس عام 1957؛ حيث جمعهما الفضول تحت ظل شجرة موز قرب المختبر لمناقشة موضوع تضاعف الحمض النووي. وفي العام التالي أكمل ميسلسون متطلبات الدكتوراه في الكيمياء وهو لا يزال في عمر 27 عاما، إذ تضمنت رسالته في الدكتوراه تطوير تقنيَّة لفصل جزيئات الحمض النووي وفقا للكثافة (كتلة لكل وحدة حجم)، وكان ستال باحث ما بعد الدكتوراه يبلغ من العمر 28 عاما يعمل في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا، وبروح الشباب وفضول العلماء قرَّرا أن يقوما بتجربة جانبيَّة، لا علاقة لها ببرامج البحث الأساسيَّة الممولة.
ومن غير طلبات رسميَّة وموافقات إداريَّة وتعقيدات تقنيَّة قام ميسلسون وستال عام 1958 بتجربة على بكتريا القولون E. coli استخدما فيها النيتروجين الثقيل (نظير المشع 15) N15 على هيأة أمونيا 15NH3 ammonia في تنمية المزرعة البكتيريَّة لعدة أجيال حتى يتأكدا من أن جميع ذرات النيتروجين تشربت في الحمض النووي للبكتيريا. (في هذه الحالة سيعمل N15 كعلامة دالة، نقطة فارقة عن نظيره الآخر الأقل كثافة)، بعد ذلك نُقلت البكتيريا إلى مزرعة تحتوي على نيتروجين عادي N14 واستُخلِص الـ(DNA) من الخلايا البكتيريَّة على مراحل زمنيَّة مختلفة (حسب زمن الجيل للبكتريا- كل نصف ساعة يولد جيل جديد، مثلًا: 0, 30, 60, 90 دقيقة)، ثم خُلِط مع محلول كلوريد السيزيوم (CsCl)، ووضع في جهاز الطرد المركزي فائق السرعة. سببت قوة الطرد المركزي الكبيرة ترسب السيزيوم في قعر الأنبوبة (لأنه أثقل من الماء) صانعة تدرجا من تركيز السيزيوم، ومن ثم تدرجا في الكثافة. توزعت جزيئات الحمض النووي التي لديها اختلافات طفيفة في كثافتها في مناطق مختلفة في الأنبوبة، وبالتالي يمكن فصلها. تعتمد الكميَّة النسبيَّة في كثافة الحمض النووي على نسبة القواعد النيتروجينيَّة فيه لأن زوج الجوانين والسيتوسين G-C أكثر كثافة من زوج الثايمين والأدننين T-A.
كشفت النتائج بعد دورة انقسام واحدة ظهور حلقة واحدة تُمثل جزيئا هجينا (ثقيلا/خفيفا) H/L تكوَّن هذا الجزيء نتيجة اندماج سلسلة أصليَّة ثقيلة وأخرى مكملة خفيفة، وفي الانقسام التالي (الجيل الثاني) ظهرت حلقتان (قمتان) لجزيئات (DNA) واحدة تُمثل الهجين والأخرى تمثل الخفيف فقط L/L. برهنت هذه التجربة الأنيقة على حتميَّة انفصال السلسلتين الأصليتين ثم استخدام كل سلسلة كقالب لبناء نسخة جديدة عليها. وفرت هذه النتائج نموذجا تجريبيّا يتماشى مع فرضيَّة واتسون وكريك بخصوص النموذج شبه المحافظ. انتشرت نتائج التجربة بين الأوساط العلميَّة قبل أن يقوم الباحثان بنشر نتائجهما، وعَلِم بها كل المهتمين في أبحاث الحمض النووي. ومع ذلك، ظل ديلبروك حذرا محتفظا بفكرة النموذج التشتُّتي، والتي أثبتت التجربة الأخيرة أن هذا النموذج كان متطابقا مع نتائج الجولة الأولى من الانقسام فقط؛ حيث تكونت جزيئات الـ(DNA) من سلاسل خليطة نصفها خفيف ونصفها الآخر ثقيل ولكن بعد جولتين من الانقسام أعطى نموذج ديلبروك التشتُّتي كثافة وحيدة تتكون من ثلاثة أرباع سلاسل الـ(DNA) خفيفة وربع ثقيلة.
وباستخدام سلسلة التجارب هذه على بكتيريا القولون تمكن ميسلسون وستال من دحض الطريقة التشتُّتيَّة والطريقة المحافظة لتضاعف الحمض النووي. تستطيع التجربة العلميَّة المصمَّمة بطريقة منهجيَّة والتي توفر قراءات متقاربة في كل مرة تعاد فيها أن تنسف الفرضيات العلميَّة المقترحة أكثر من أن تثبتها. نتيجة لذلك، لا يزال النموذج شبه المحافظ هو السائد إلى يومنا هذا لأنه ببساطة لا يمكن لتجربة علميَّة أخرى أن تنفي طريقة عملها المقترحة من قِبل واتسون وكريك.
سعد صبار السامرائي جامعة التقنية والعلوم التطبيقية بالرستاق.