رأي عُمان

لماذا تكرم عُمان الأمم المتحدة وتحتفي بها؟

 

يدور نقاش جدي في العالم حول أهمية الأمم المتحدة والمنظمات المنبثقة عنها، ومدى قدرتها على القيام بالأدوار الأساسية التي نشأت من أجلها قبل ثمانية عقود من الآن. ويصل مستوى النقاش إلى حد القول بانتهاء صلاحية المنظمة باعتبارها من مؤسسات النظام العالمي المتآكل أو «القديم» على حد ما يذهب له البعض. وكل هذا مفهوم في ضوء ما يشهده العالم من تحولات كبرى وأحداث أليمة كشفت عن تراجع دور المنظمات الدولية وضعف قدرتها على تحقيق أهداف إنشائها. لكن لا يمكن تصور أدوار هذه المنظمات دون تصور مواقف الدول الأعضاء فيها وخاصة القوى العظمى المسيطرة والمهيمنة في العالم والتي يفترض بها أن تعمل على تطبيق قواعد النظام العالمي الذي تديره حتى تحافظ على مكانتها الدولية.

وتحدثت سلطنة عُمان في الكثير من المحافل عن ضرورة تطبيق القوانين الدولية والاحتكام لها وإصلاح ما يحتاج إلى إصلاح منها وتطوير ما يحتاج إلى تطوير. وتفضل حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله ورعاه- بمنح وسام عُمان المدني من الدرجة الأولى لمعالي أنطونيو غوتيريش الأمين العام للأمم المتحدة فيه تأكيد على إيمان سلطنة عُمان بمحورية هذه المنظمة ومكانتها وأن تطويرها وإصلاحها وتزويدها بصلاحيات تتوافق مع متطلبات المرحلة أمر في غاية الأهمية وهو أولى من الحديث عن إلغائها أو تجاوزها باعتبارها من مؤسسات النظام القديم المتآكل.

كما أن احتفال وزارة الخارجية أمس بالذكرى الثمانين لتأسيس الأمم المتحدة ـ وبحضور أمينها العام ـ هو إعلان موقف سياسي واضح وبأسلوب ذكي. وفيه تأكيد من سلطنة عُمان على أنها المرجعية الوحيدة التي تملك ـ رغم ما تشهده فعلا من تراجع ـ لغة مشتركة بين الدول فهي التي تملك الميثاق، والقانون الدولي، وتملك آليات التعاون متعدد الأطراف.

لكن هذا لا يمنع من القول إن الأمم المتحدة التي تحتفي بالذكرى الثمانين على تأسيسها تواجه سؤالا مهما حول وظيفتها، وما الذي تستطيع فعله في هذه اللحظة التي تتراجع فيها قواعد النظام العالمي، وتتقدم حسابات النفوذ، وتتصاعد فيه المنافسات الكبرى على الموارد والممرات والتكنولوجيا؟ يحرج هذا السؤال المنظمة لكنه يحيل حمولته النقدية إلى مجلس الأمن.. وهناك تبرز المشكلة الحقيقية التي تعاني منها منظمة الأمم المتحدة وتنعكس سلبا على إيمان المجتمعات الدولية بأدوارها. وهناك يتوقف كل شيء على توافق القوى الكبرى، وفي هذا المجلس يعطل «الفيتو» خيارات السلم الدولية ويتحول إلى رهينة الخلافات والمصالح.

ومن هنا يتحدد معنى الإصلاح المطلوب بدقة: سياسيا بكسر الشلل في الكوارث الإنسانية الواسعة وإعادة توازن التمثيل داخل بنية القرار، وتشغيليا بتسريع الاستجابة وتوضيح الولايات وتحصين التمويل كي لا تتحول الموارد إلى أداة تعطيل.

على أنه لا يمكن اختزال الأمم المتحدة في مجلس الأمن وحده؛ فالمنظمة ما تزال تُطعم، وتُداوي، وتُشرف على شبكات إنسانية وتنموية، وتحاول أن تُنتج معيارا أخلاقيا وقانونيا يظل مرجعا حتى حين يُنتهك.. وما أكثر ما ينتهك! لا يرى عموم الناس الكثير من الوظائف التي تقوم بها الأمم المتحدة، وإن رأوها يضعونها في الهامش، بينما تُرى الحروب ودور الأمم المتحدة في وقفها فيشكل ذلك وعيا عاما بدور هذه المنظمة. والفرق بين «العمل اليومي» و«العجز السياسي» هو ما يصنع الانطباع السائد اليوم أن الأمم المتحدة تفقد دورها.. تفقده في الصورة، لا في البنية وحدها.

وكان واضحا أن وزارة الخارجية التي احتفت بذكرى تأسيس المنظمة لم تكن تحتفي بمثالية الدور الذي تقوم به بقدر ما كانت تحتفي بأهمية وجود منظمة مثل الأمم المتحدة باعتبارها أداة ضرورة تضبط القوة، وتُعطي الدبلوماسية مساحة للتنفس والعمل، وتمنع العالم من التحول إلى غابة مفتوحة. وعندما تؤكد وزارة الخارجية العمانية أنها ملتزمة بميثاق الأمم المتحدة فإنها في الحقيقة تدافع عن قاعدة الحماية الأساسية للدول وهي: السيادة، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للآخرين، وتسوية النزاعات بالحوار.

وكل هذا لا يمنع أن ترفع الدول -بما في ذلك سلطنة عُمان- صوتها بالحديث عن أهمية إعطاء هذه المنظمة قوتها وصلاحياتها وقدرتها على القيام بأدوارها التي تأسست من أجلها. والعمل على مساعدة المنظمة لتقوم بدورها في لحظات وقوع الكوارث الإنسانية الواسعة، وتقوية دور الجمعية العامة عندما يتعطل مجلس الأمن، وتوسيع تمثيل العالم الحقيقي داخل بنية القرار، بحيث لا يبدو النظام الأممي نسخة متحجرة من لحظة 1945.

وعلى مستوى الكفاءة، فإن المنظمة تحتاج إلى إعادة نظر صارمة في ازدواجية البرامج، وبطء الاستجابة.

أما ما قامت به سلطنة عُمان سواء بتكريم رئيس منظمة الأمم المتحدة بوسام عُمان المدني أو بالاحتفاء بذكرى تأسيس المؤسسة فهو استثمار سياسي طويل في فكرة النظام نفسها. فالدبلوماسية العُمانية، المشغولة بمسارات التهدئة والوساطة والتوازن، تحتاج إلى نظام دولي قابل للتشغيل. فهي في أمسّ الحاجة إلى مؤسسات دولية لديها أطر للتفاوض ومظلات شرعية يمكن تحويلها إلى اتفاقات قابلة للبقاء. والأمم المتحدة المؤسسة والفضاء الأمثل فيما لو استطاعت اكتساب قوتها ومكانتها وقدرتها على العمل الحقيقي.