«فلسطين 36»... بريطانيا وجذور المجزرة
الاثنين / 16 / جمادى الآخرة / 1447 هـ - 19:43 - الاثنين 8 ديسمبر 2025 19:43
ترجمة: بدر بن خميس الظفري
كل من يحاول فهم سبب استمرار الدولة البريطانية ووسائل إعلامها ـ رغم ادعائها القيام بدور الرقابة على السلطة ـ في تبرير الجرائم التي ترتكبها إسرائيل بحق المدنيين في غزة، سيجد الإجابة في فيلم جديد.
الفيلم لا يروى أحداث اليوم، بل يعود إلى حكاية تعود إلى ما يقرب من تسعين عامًا.
فيلم «فلسطين 36»، من إخراج المخرجة الفلسطينية المبدعة آن ماري جاسر، يكشف من التفاصيل المرتبطة بالأحداث الجارية في غزة خلال العامين الأخيرين ما هو أعمق بكثير مما يمكن للقارئ أن يجده في أي صحيفة بريطانية، أو أن يشاهده على شاشة قناة «بي بي سي»، هذا إن وجد أصلًا أي تناول يُذكر لغزة منذ أن أعاد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب توصيف عمليات القتل والتهجير المستمرة بأنها «وقف إطلاق نار».
يمتاز الفيلم ـ على غير العادة في الأفلام الفلسطينية ـ بميزانية تُضاهي أعمال هوليوود الكبرى، وبمشاركة ممثلين معروفين لدى الجمهور الغربي، مثل جيريمي آيرونز وليام كننغهام.
إن الفيلم محطة مفصلية من التاريخ الاستعماري البريطاني لا تُروى هذه المرة من زاوية المستعمر، بل من زاوية ضحاياه. الرقم «36» في العنوان يعود إلى عام 1936، عندما انتفض الفلسطينيون ضد بطش الاستعمار البريطاني، الذي يُشار إليه عادة ـ وبشكل مضلل ـ باسم «الانتداب البريطاني» الصادر عن «عصبة الأمم».
لم تكن المشكلة بالنسبة للفلسطينيين مقتصرة على عنف الاحتلال البريطاني المنهجي على مدى ثلاثة عقود، بل إن الدور الذي أدّته بريطانيا كمفوَّضة بحفظ السلام بين الفلسطينيين والسكان اليهود القادمين حديثًا، كان غطاءً لمشروع أشد خطورة.
فالبريطانيون هم من فتحوا الطريق أمام اليهود للخروج من أوروبا ـ حيث لم تكن ترغب فيهم حكومات تحمل نزعات عنصرية، ومنها بريطانيا نفسها ـ ليُزرعوا في فلسطين. وهناك جرى إعدادهم ليكونوا القوة المسلحة للدولة اليهودية المقبلة، دولة أرادتها بريطانيا تابعة لها، تدفع بمشروعها الإمبراطوري في المنطقة.
باختصار، كانت الإمبراطورية البريطانية المثقلة بأعبائها تأمل أن تُوكل مهامها الاستعمارية تدريجيًا إلى «دولة يهودية» حصينة. كان أحد أهم أولويات بريطانيا هو سحق موجة القومية العربية التي اجتاحت بلاد الشام ردًّا على الحكم الاستعماري البريطاني والفرنسي. والقومية العربية حركة سياسية علمانية وحدوية، تسعى إلى تجاوز الحدود التي رسمتها القوى الاستعمارية، وترسيخ الهوية العربية في مواجهة الهيمنة الأجنبية. ولهذا السبب كانت بريطانيا وفرنسا على عداء شديد معها. كما أن موقع فلسطين كان بالغ الأهمية؛ لكونها صلة الوصل بين مركزَي الحركة القومية في لبنان وسوريا شمالًا، ومصر جنوبًا. ولهذا كان لا بد ـ في نظر بريطانيا ـ من إخماد روح التحرر في فلسطين بأي ثمن، إلا أن القمع المفرط لم يُسكت الفلسطينيين، بل غذّى ثورة أخذت شكل انتفاضة كبرى عام 1936، عُرفت في الغرب باسم «الثورة العربية» واستعادها الفلسطينيون كأول «انتفاضة» لهم.
لاحقًا، ستشهد فلسطين انتفاضتين كبيرتين ضد استعمار استيطاني أكثر قسوة وفظاعة، هما انتفاضة 1987 وانتفاضة عام 2000. وقد كبرت ثورة 1936-1939 إلى حد أنّ عدد الجنود البريطانيين في فلسطين الصغيرة فاق، في ذروتها، عدد الجنود البريطانيين في الهند كلّها، وفق ما يذكره المؤرخ الفلسطيني رشيد الخالدي.
وهذه القصة التي يرويها فيلم «فلسطين 36» ليست جزءًا من مناهج المدارس البريطانية، ولا تُطرح في وسائل إعلامها بوصفها خلفية ضرورية لفهم ما يجرى اليوم في فلسطين التاريخية. ولهذا سيصدم كثير من البريطانيين عند مشاهدة الفيلم من حجم العنف الاستعماري الذي مارسته بلادهم، كما سيكتشفون التشابه الصارخ بين ذلك السلوك وبين ما يحدث اليوم في غزة.
الفيلم يقدّم تذكيرًا قويًا بأن فئة من الناشطين لا تزال تصف وحشية إسرائيل تجاه الفلسطينيين بأنها استثناء، أو ظاهرة خاصة بالنظرية الصهيونية وحدها.
لكن فيلم المخرجة جاسر يثبت خطأ هذا التصور؛ فالعنف الاستعماري الإسرائيلي اليوم ليس سوى نسخة مطوّرة أكثر تقدمًا وتكنولوجيا من الأساليب التي استخدمها الاحتلال البريطاني قبل قرن تقريبًا. والجيش الإسرائيلي ـ وهنا المفارقة ـ تعلّم هذه الأساليب من البريطانيين، بشكل حرفي.
أحد أبرز الشخصيات في الفيلم هو الضابط البريطاني أورد وينغيت، الذي كان يقود غارات ليلية على القرى الفلسطينية لبث الرعب بين سكانها. وكان وينغيت يشرف على تشكيل فرق عقابية من الجنود البريطانيين وعناصر الميليشيات اليهودية الوافدة حديثًا، لتطبيق «استراتيجيات الحرب الهجينة» التي أصبحت لاحقًا أساس العقيدة العسكرية الإسرائيلية.
وعندما توفي وينغيت في حادث طائرة ببورما عام 1944، نعاه ديفيد بن غوريون، مؤسس دولة إسرائيل، قائلاً إن «وينغيت لو عاش، لأصبح أول رئيس لأركان الجيش الإسرائيلي».
ويُظهر الفيلم وينغيت وهو يرتكب جرائم حرب بشكل روتيني مثل استخدام طفل فلسطيني كدرع بشري، وجمع النساء والأطفال في ساحة مكشوفة محاطة بالأسلاك الشائكة وحرمانهم من الماء تحت حرّ الشمس، وإحراق المحاصيل، وتفجير حافلة تقلّ رجالًا فلسطينيين اعتقلهم عشوائيًا.
كما يبرز الفيلم دور الضابط البريطاني تغارت، الذي استورد إلى فلسطين تصميم الحصون العسكرية التي كان قد بناها في الهند لقمع الانتفاضات هناك. هذه الحصون أصبحت النموذج الأولي للجدران والأسوار ونقاط التفتيش التي شطّرت فلسطين اليوم، وحوّلتها إلى شبكة من السجون المفتوحة، وفي مقدمتها سجن غزة الكبير.
ومع متابعة مشاهد الفيلم التي تظهر الإذلال والقتل على أيدي القوات البريطانية، تتضح الأسباب التي دفعت كل جيل فلسطيني إلى حالة أعمق من الغضب واليأس.
فقمع بريطانيا الوحشي لثورة 1936 مهّد مباشرة لمسار طويل انتهى بانفجار السابع من أكتوبر 2023 على يد حركة حماس، وما أعقب ذلك من حملة إبادة استعمارية تشنّها إسرائيل اليوم. ومن المؤكد أنّ هذه الإبادة لن تُخضع هذا الجيل من الفلسطينيين، تمامًا كما لم تُخضع أجيالًا سبقتهم في الثلاثينيات. إنها فقط تعمّق الجراح، وتزيد الإصرار على المقاومة.
ويتناول الفيلم أيضًا ـ وإن بطريقة غير مباشرة ـ الدور الذي قامت به بريطانيا في ترسيخ نزعة أيديولوجية متطرفة يُنسب ظهورها اليوم غالبًا إلى إسرائيل وحدها.
فقد كان إخضاع الضابط البريطاني أورد وينغيت للفلسطينيين بوحشية، ونظرته إليهم بوصفهم كائنات أدنى من البشر، مقابل تعلقه الشديد باليهود، نابعًا من إيمانه بأيديولوجيا الصهيونية.
وغالبًا ما يُغفل أن الصهيونية، قبل أن تتحول إلى قومية يهودية حديثة، كانت راسخة منذ قرون في وجدان تيارات مسيحية أوروبية اعتقدت أن «إعادة» اليهود إلى موطنهم القديم خطوة ضرورية لتحقيق نبوءات «نهاية الزمان» التي ستمهّد، وفق معتقداتهم، لعودة المسيح وإقامة ملكوته على الأرض. ومن بين هؤلاء المسيحيين الصهاينة كان اللورد بلفور، صاحب «وعد بلفور» عام 1917 الذي تعهّد بإقامة «وطن قومي» لليهود في فلسطين.
أما الشعب الفلسطيني ـ الذي تشير دراسات جينية إلى أن كثيرًا من أفراده ينحدرون من الكنعانيين القدماء الذين عاشوا في المنطقة منذ آلاف السنين ثم اعتنقوا المسيحية والإسلام لاحقًا ـ فقد كان يُنظر إليه لدى أمثال وينغيت بوصفه عقبة أمام تحقيق النبوءة الإلهية. وإذا لم يُخلوا وطنهم «طوعًا» لإفساح المجال لليهود، فعليهم أن يُجبروا على ذلك.
وقد دفعت الصهيونية الحديثة الإسرائيليين إلى الاتجاه نفسه؛ إذ تُظهر استطلاعات الرأي تزايد التأييد لأفكار تقوم على التطهير العرقي وإبادة الفلسطينيين. وتزخر منصات التواصل الاجتماعي بمنشورات لجنود إسرائيليين يتباهون فيها بممارساتهم الوحشية تجاه سكان غزة.
ويعيد الفيلم ربط هذه الأصول الفكرية بما يجري اليوم. فالمراجعات النقدية للفيلم في الصحافة البريطانية جاءت باهتة؛ حتى صحيفة «الغارديان» الليبرالية اكتفت بوصفه بأنه «مؤثّر»، في لهجة تشبه مواساة طفل كتب موضوعًا مدرسيًا متواضعًا.
وليس ذلك مستغربًا؛ فالمؤسسة البريطانية، تمامًا كالمؤسسة الأمريكية التي ورثت دور «شرطي العالم» بعد الحرب العالمية الثانية، ما زالت تنظر إلى القومية العربية بوصفها تهديدًا، وإلى إسرائيل بوصفها مركزًا استعماريًا مهمًا، وإلى فلسطين بوصفها مختبرًا لأساليب الرقابة والتصدي للانتفاضات، وما زالت ترى الفلسطينيين أقل شأنًا من البشر.
ولهذا لم يتردد رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر في الدفاع عن قرار إسرائيل منع الغذاء والماء والكهرباء عن سكان غزة بمن فيهم مليون طفل، أي تجويعهم في مخالفة صريحة للقانون الدولي.
ولهذا السبب يواصل ستارمر ومؤسسات الدولة البريطانية إرسال السلاح لإسرائيل وتزويدها بالمعلومات الاستخبارية التي تستخدمها في استهداف المدنيين، كما رحّب بالرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ في مقر رئاسة الحكومة بعدما أعلن الأخير أنه لا وجود لـ«مدنيين غير متورطين» في غزة.
ولهذا لا تزال القوات البريطانية تدرّب الضباط الإسرائيليين داخل المملكة المتحدة، كما يفعل الضباط البريطانيون الذين يسافرون إلى إسرائيل للتدرّب على أساليب جيشها. ولهذا أيضًا تواصل بريطانيا توفير الحماية الدبلوماسية لإسرائيل وتهديد المحكمة الجنائية الدولية بسبب سعيها إلى محاسبة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على جرائم ضد الإنسانية في غزة. ومن هنا أيضًا جاء تعديل حكومة ستارمر لتعريف الإرهاب داخل بريطانيا بغرض تجريم من يعبر عن رفضه للإبادة المرتكبة في غزة.
والحقيقة أن الحكومة والمدارس ووسائل الإعلام في بريطانيا لم تعد مصادر يمكن الاتكال عليها لفهم التاريخ الاستعماري البريطاني، سواء في فلسطين أو في أي من البلدان التي مارست بريطانيا ضدها القهر عبر العالم. وإذا أردنا فهم الماضي والحاضر معًا، فلا بد من الإصغاء أولًا إلى ضحايا ذلك العنف.