تسقط كل صبيحة بندقية على الجبل
السبت / 14 / جمادى الآخرة / 1447 هـ - 20:51 - السبت 6 ديسمبر 2025 20:51
تنحدر بنا الأغنية وتصعد في دروبٍ التفافية نحو القرى الواقعة جنوب نهر الليطاني. كنا قد اجتزنا نقطة تفتيش الجيش اللبناني عند مدخل صيدا فتنفستُ الصعداء، وكان مارسيل خليفة يغني قصيدة عبّاس بيضون:
«يا علي
نحن أهل الجنوب
حفاةُ المدنِ نروي سيرتك
على أصفى البرك والأودية».
تختضُّ قلوبنا على المسافة الممتدة في صور الشهداء من الضاحية الجنوبية لبيروت إلى جنوب لبنان شمال فلسطين. ويعود بنا شريط الأغنية إلى عام 1973 يوم كانت العمليات العسكرية ما تزال مستمرة على الجبهتين المصرية والسورية في آخر حروب الجيوش العربية مع العدو الإسرائيلي. في أكتوبر من ذلك العام أقدم أربعة شبان يساريين على اقتحام بنك أوف أميركا في شارع رياض الصلح ببيروت. كان من بين الشبان الأربعة شاب جنوبيٌّ قادم من بلدة في قضاء النبطية اسمه علي شعيب. كان مُدرسًا بسيطًا التحق بما عُرف حينها بالحركة الثورية الاشتراكية اللبنانية التي انشقت عن حركة القوميين العرب بعد هزيمة 1967. وشُوهد أحيانًا جالسًا مع بعض المثقفين في مقاهي المدينة، وقيل عنه أيضًا إنه كان يكتب الشعر.
غير أن أحدًا لم يتوقع أنه سيقود رفاقه إلى عملية «فدائية» من هذا النوع، والتي انتهت بإعدامه مع أحد رفاقه بسلاح قوى الأمن -وفقًا لرواية أهله- وذلك بعد مفاوضات بين الخاطفين والسلطات اللبنانية أفضت لتحرير جميع المختطفين، وتسليم علي ورفاقه أنفسهم بناءً على شروط محددة. ووفقًا لمقالة كتبها الكاتب الفلسطيني السوري محمود الصباغ؛ فإن عملية اقتحام البنك جاءت في ذلك التوقيت ردًا على دعم المصارف الأمريكية (ومنها بنك أوف أميركا) وتمويلها لإسرائيل، وردًا على الدعم الأميركي لإسرائيل بالسلاح والذخيرة بما مكنها من استعادة زمام المبادرة في الحرب الدائرة مع مصر وسوريا.
بعد فترة قصيرة من الحادثة نشر عباس بيضون قصيدته «مصرع علي شعيب» في مجلة «مواقف» ملتقطًا رمزية الاسم الذي يتقاطع فيه الرمز الديني الأبرز في ذاكرة الجنوبيين الشيعة الإمام علي مع شاب يساري قاوم «ليحرر دمه من عنابر الزيت، وفمه من مخازن السُّكر، وعظامه من مقاعد البكوات وأمراء الدواوين» كما تقول القصيدةُ الأغنيةُ التي تصدح بنداء «يا علي» في رمزية شديدة الحساسية والكثافة.
إلى اليوم تتضارب الروايات والمواقف حول مقتل علي شعيب وحول العملية نفسها. فمن اللبنانيين من يرى اقتحام بنك أوف أميركا عملية إرهابية بلغة اليوم لا تقبل النقاش ولا تمجيد من قاموا بها أيًا كانت دوافعهم. وقد وصفت جريدة المدن الإلكترونية أغنية مارسيل خليفة بأنها «خردة من الحرب الأهلية اللبنانية» مشوبة بنفس طائفي، وذلك تعليقًا على ظهور المغني اللبناني في مدينة سيدني وهو يغني «يا علي» تحيةً لأهل الجنوب. والأغرب كان ما قيل عن عباس بيضون من أنه تراجع عن قصيدته حين أدرك متأخرًا أنها كُتبت في تجميد شخصٍ قام بعمل «إرهابي»!
غير أن كثيرًا من اللبنانيين ما زالوا يرون ما قام به علي شعيب عملية فدائية بلغة ثورية السبعينيات وعنفوان الشعارات النضالية ضد الهيمنة الإمبريالية والقوى الرأسمالية وبقايا الإقطاع. وقصة علي تذكرهم بأموالهم المنهوبة اليوم في المصارف. كما أن بطل هذه العملية الذي سافرت الأغنية باسمه، بات تعبيرًا رمزيًا عن القهر الاجتماعي والاقتصادي الذي عاشه الجنوبيون على مدى عقود. فقد وجدوا أنفسهم منفيين في الوطن بلا دولة تحمي أرواحهم وبيوتهم وحقولهم من بطش الاجتياحات الإسرائيلية المتلاحقة منذ أن سقطت فلسطين سنة 1948.
بموازاة حرب الإبادة المستمرة على غزة تواصل إسرائيل حربها على جنوب لبنان. هناك عملية تهجير منهجية للسكان، وحرب تطهير عرقية تتسع ببطء. وقفتُ على قرى ممسوحة بالكامل وحقول زيتون محروقة، وحاولنا المشي في طرق جرَّفتها الآليات الإسرائيلية عن قصد وعدوانية مرسومة. أخبرني بعض الأهالي بأنهم عمروا بيوتهم ثلاثًا أو أربع مرات في تاريخهم العائلي، وذلك بعد كل حرب إسرائيلية عليهم. وما زال البحث جاريًا عن مقاومين لم يُعرف أين سقطوا، وما زالت «تسقطُ كل صبيحة بندقية على الجبل، ونحن نرى ذلك بصمت، بصمت بصمت بصمت.. يا علي»!
سالم الرحبي شاعر وكاتب عُماني