عمان الثقافي

افتتاحية: قراءة التاريح

 

يعاد اليوم طرح سؤال التاريخ في الدراسات الإستراتيجية وفي بناء الدول والهويات باعتباره شرطا من شروط الفهم العميق للذات وللمجتمع. يفتح التاريخ ما يشبه «معمل الخبرة الإنسانية»؛ نرى فيه كيف تشكّلت الأفكار والمؤسسات والقيم عبر قرون، وكيف تمّ اتخاذ القرارات في لحظات الأزمات، وكيف دفعت الشعوب ثمن الأوهام وسوء التقدير. هذه الرؤية الطويلة للنفس وللآخرين تغيّر طريقة فهمنا للحاضر، وتمنعنا من الوقوع في سذاجة من يتعامل مع واقعه كأنه قدر أبدي لا تاريخ له. 

أول ما يقدّمه التاريخ للفرد هو تصحيح الفهم. دراسة الماضي بمنهج نقدي تكسر الاعتقاد بأن ما نعيشه «طبيعي» أو «وحيد الإمكان»، وتكشف أنه نتاج مسار طويل من الصراع والتفاوض والتجريب. حين يدرك الفرد أن الدولة، والاقتصاد، والحدود، والهويات، هي بناءات تاريخية متحوّلة، يصبح أقل قابلية للانجرار وراء الشعارات المبسّطة، وأكثر قدرة على مساءلة البُنى الموروثة بدل التسليم الأعمى بها. يعمل التاريخ هنا بوصفه أداة لتحرير العقل من الخوف من التغيير، وليس لاستدعاء حنين معزول إلى ماض متخيَّل. 

على مستوى المجتمع، لا يمكن الحديث عن مواطنة راسخة دون ذاكرة تاريخية فاعلة. المواطن الذي يفهم كيف تشكّلت مؤسسات بلده، وكيف صيغت القوانين، وكيف تطوّرت العلاقة الاجتماعية بين المجتمع والسلطة، يتعامل مع الدولة بوصفها شريكا في مسار ممتد. هذا النوع من الوعي يولّد انتماء نقديا، انتماء يدافع عن الكيان العام لأنه يفهم قيمته التاريخية، وفي الوقت نفسه يطالب بتطويره لأنه يعرف أن كل ما صنعه البشر قابل للمراجعة والتحسين. التاريخ، بهذا المعنى، يربط المواطنة بالمسؤولية. 

أما على مستوى المهارات، فالتاريخ مدرسة متقدمة في التفكير النقدي؛ فالمؤرخ يتعامل مع مصادر ناقصة ومنحازة؛ يفرز بين الوثيقة والدعاية، يوازن بين روايات متعارضة، ويقرأ ما قيل وما لم يُقَل، ثم يبني تفسيرا للتغيّر عبر الزمن. هذه العملية تدرّب العقل على تقييم الأدلة، وعلى التمييز بين الرأي والحقيقة، وعلى اكتشاف المغالطات والخطاب التحريضي. 

لذلك، فدراسة التاريخ وفق مناهج حديثة ممارسة فكرية تُعيد تنظيم علاقتنا بالزمن.. نفهم بها ماضينا، ونقرأ بها حاضرنا، ونمتلك عبرها قدرة أكثر وعيا ومسؤولية على المشاركة في صناعة المستقبل.