ثقافة

إنجاز ثقافي عربي

تحسين يقين

 

كان نهارا جميلا حين كنت أتنقل بالقاهرة، حين مررت أمام مبنى الهيئة المصرية العامة للكتاب، قبل 36 عاما، فرجت أتأمل المبنى الكبير الخاص بالكتاب. كانت السنة الدراسة الأولى بكلية الآداب قد انقضت، وكنت أعرف أن هذه الهيئة هي التي تنظم معرض القاهرة الدولي للكتاب، كواحد من أكبر معارض الكتاب في بلادنا والعالم.


سرّ زميلي وأنا أقول له بأنني أشعر أن هذه الهيئة الثقافية هي لنا أيضا؛ فثمرها يصلنا نحن العرب في بلادنا جميعها، أن كان تأليفا أو ترجمة، ورحت أذكره بنهارات معرض الكتاب وأمسياته الليلية التي كانت تستضيف الشعراء العرب.


تذكرت طفولتي حينما صافحت مجلة 'العربي' عيوني ذات نهار في السبعينيات، فقد أعجبني كثيرا استطلاعاتها، ولم أعرف البلد الذي تصدرها، ولم يدر الطفل الذي كنته أنني سأكون أحد كتابها بعد عقدين من الزمن، ثم لأكتب يوما عنها مقالة بعنوان 'العربي: إنجاز عربي'. وكنت طفلا حين أرى بعض المشاهد التي تظهر فيها جامعة القاهرة، لأتحدث في الصباح عنها للأطفال، وبأنني سأدرس فيها يوما مثل أخي الأكبر. وسيأتي يوم احتفل بمئويتها، بعنوان 'الجامعة الأم'، كما كان يطلق عليها، فهي ليست فقط أم جامعات مصر، بل أم جامعاتنا العربية.


لم نكن أطفالا قد عرفنا طريق الرجاء الصالح، فعرفنا ذلك من مسلسل عربي حمل عنوان 'أحمد بن ماجد'، فشعرنا بالزهو أن أمير البحار عربيّ، ثم لنعرف بعد عام أنه ينتمي لسلطنة 'عُمان'، وقد رحنا ببراءة نكتشف الجناس اللغوي بين 'عُمان' الدولة، و'عمّان' عاصمة الشقيقة الأردن توأم فلسطين.


وكم سررت يوما حين عرفت أنه تم إطلاق اسم 'التلفزيون العربي' على التلفزيون المصري، وما زلت أتذكر د. إدوارد سعيد أثناء زيارته لمصر، وهو يذكره بهذا الاسم. وما زلت أذكر والدي رحمه الله حين كان يستمع للإذاعات المصرية والعربية في السبعينيات، حيث لم تكن لنا إذاعة، فقد تمت مصادرتها في أحداث النكبة عام 1948. كل ما كان يدركه الطفل والفتى هو أنها عربية وكفى.


في عام 1978، كنا في الصف السادس الابتدائي، حين درسنا استقلال الدول العربية، فمنحنا ذلك الأمل، أما تعلّم الجغرافيا، فقد أصبحت وزملائي، قادرين على ليس فقط كتابة أسماء الدول العربية الشقيقة على الخريطة الصمّاء، بل وضع المدن والأنهار وسدود المياه وآبار البترول. كنت لا اكتفي بذلك بل كنت أرسم الخارطة، وأكرر كتابة الثروات الطبيعية. كانت الخارطة تحمل اسم العالم العربي أو بلادنا العربية.


كذلك حين كنا نتعامل مع بلدنا الصغير الذي نعيش فيه تحت الاحتلال، كنا نرى منجزات الأدب الفلسطيني هي منجزات عربية، كذلك الآثار والمقدسات، وحين كبرنا كنا نرى حواضر يافا وحيفا والقدس حواضر النهضة العربية في أواخر القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين.


أحببنا أطفالا 'جامعة الدول العربية' كإطار وحدويّ، فقد ننظر للأمور ببراءة، وأمل، وبالرغم من الوعي على الواقع الحقيقيّ للعمل العربي المشترك، في الدفاع والجوانب الأخرى، إلا أنني بقيت، ومعي كثيرون، نؤمن بالعمل المشترك، خصوصا في مجالات الثقافة والتربية والتعليم، كذلك في الإعلام باتجاه تصالحي تعاونيّ، لا التأثر بالخلافات السياسية المؤقتة.


لذلك، بالرغم من نقدنا البناء لما يرشح عن مؤتمرات وزراء الثقافة والتربية والتعليم والإعلام العربي، إلا أننا نجد أن هناك فرصة لتطوير عمل منظمة 'الألكسو'، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، لأن فائدة ذلك تعمّ بلادنا جميعها؛ فالتعاون العربيّ خطوة استراتيجية، يمكن من خلالها استخدام ما نملكه جميعا.


نحن الجيل الذي كان مخرجا لمناهج عربية جيدة، وتعلمنا على أيدي معلمين ومعلمات لديهم نزعات وطنية وقومية وروحية دينية بعيدا عن التطرّف. نحن ومن كان قبلنا، ومن جاء بعدنا لسنوات معينة، لعلها عقد الثمانينيات، نحن من كنا نشعر بالشعور القومي الجميل، فأحببنا كل بلادنا وتغنينا بكل منجزاتها شعرا ووعيا، إلى أن بدأت عملية شبه ممنهجة، تتم بتفاوت بين بلادنا، خفّ فيها شغف المتعلم والمعلم، فقلت هيبة العلم والعلماء، وقلّ معها القراءة والاطلاع، فكان نتاج ذلك هو ما رأينا، ولولا رعاية الله لنا لحدث مالا يحمد عقباه؛ فوجود جيل الستينيات والسبعينيات ظلّ ضمانة فكرية ومعرفية وقومية ودينية.


إن النظرة لأي إنجاز عربي في هذا القطر الشقيق بانه إنجاز عربي، هي ما يشجّع التعاون، وسيظل أي مؤتمر أو مهرجان يحمل الاسم العربي في عنوانه تعميقا لهذا الاتجاه العروبي في إطار إنساني وعالمي.


وبذلك، ستكثر إنجازاتنا الثقافية، حيث ستكون محصلتها روافع نهوض وارتقاء للمجتمعات والأمة معا.
من هنا، من هذا المنبر الجميل والواعي، لعلنا نذهب إستراتيجيا الى الأصول والجذور، فنعمّق عند الأجيال الجديدة هذا الوعي، حيث سيكون ذلك ملهما لجذب الطلبة نحو التعلم والتثقيف، وسيكون ذلك حيويا من خلال الفرصة الذهبية اليوم للقاء الأجيال العربية الفتية والشابة عبر وسائل التواصل الاجتماعي.


تتقاطع الأهداف ثقافيا ومعرفيا وعلميا، ولنا فيما أنجزناه في بلادنا قديما وحديثا أمل بأننا قادرون على إنجاز المزيد؛ بما نركّز المتعلمين إنسانيا، ومعرفيا؛ ففرق بين من تكون له قضية يسعى فيها وبها لتحقيق أهدافه الشخصية والعامة، وبين من يشعر بالاغتراب، فيزهد بالعلم والأدب والفن.


اليوم، وغدا ونحن نسير ونتنقل بين بلادنا في مؤتمرات متنوعة، فإننا نفرح بكل مبنى يتم تأسيسه، وكل مهرجان، وكل نشاط قطريا كان أو عربيا. ولعل هناك من يحتفي دوما بمنجزات بلده وبلاده، بوعي على منجزاتنا معا، بتوازن وطني وقومي؛ فلا ازدهار للمسرح العربي مثلا بدون ازدهار المسرح في أقطارنا، كذلك الأدب وباقي الفنون.


إن تعميق هذا المنظور يمكن أن يخفف من تكرار المؤتمرات والمواضيع، كما يمكن أن يثير التنافس المعرفي المبني على التعاون؛ حيث إننا اختبرنا ذلك في أنشطة وأعمال إبداعية وثقافية شارك فيها فنانون وفنانات من بلادنا. كذلك، فإن المحافظة على معايير ثقافية يضمن الاستمرار بقوة.


هناك الآن فعلا فرص طيبة يمكن استغلالها إيجابيا، في وقت زادت فيها قناعة المثقفين العرب بشكل خاص، بأهمية الارتقاء القومي والوطني، من خلال روافع الثقافة والإبداع الذي يجذب الشعوب، بمن فيهم الفئات الشابة.