في الكتب وسحرها
الأربعاء / 20 / جمادى الأولى / 1447 هـ - 21:15 - الأربعاء 12 نوفمبر 2025 21:15
قد يبدو أن الكتب تحولت من كونها مصدرا للمعرفة، إلى اعتبارها دلالة على المكانة أو المقام الذي يمنح صاحبه امتيازات بعينها أو يُضفي عليه شيئا آخر ضمن الفئة الفلانية وطريقة الحياة ونمطها. لكنها لكثيرين ليست وسيلة للوصول، بل هي الوصول بحد ذاته، ففيها يجدون أرواحهم المفقودة وذواتهم الضائعة والشغف للحياة التي أحبوا يوما وحملتها الرياح بعيدا.. يعتبر بعض الناس حديث الآخرين عن الكتب ضربا من الخيال والمبالغة التي لا تمت إلى الواقع بصلة، لكنها حقا وصدقا طوق نجاة لكثيرين. فكم من مهموم واسته الكتب، وكم من مغموم كشفت عنه غمه وكربته، وكم من متألم لفوت مطلوب أو موت محبوب وجدوا في الكتب الرضى والسلوان، وكم من مطلوب هارب يكاد يغشى عليه من الخوف وجد فيها الطمأنينة، وكم من إنسان أنسته الكتب صوت القصف والقنابل والرصاص المصبوب فوق سقف بيته ومسكنه، فلا يختار سوى الكتاب ليكون درعه وملجأه الذي يحتمي به من الطلقات الطائشة والجزع اللانهائي والمركّز لرائحة الموت النتنة.
إن في الكتب حياة وروحا، فهي ترشدنا إلى الينابيع الصافية للحياة، وتجلو عن عقولنا صدأها، وتدلنا على السكينة الصافية، والحكمة المتدفقة للعقول العبقرية التي مرت على البشرية فذوت أجسادها وبقيت كلماتها وأفكارها حية متجددة على مدى الأزمنة والأحقاب. قيل الكثير عن الكتب، وما ينبغي أن يقرأه المرء في حياته؛ فمن تكديس الكتب والأفكار، إلى اكتناز قائمة القراءة بأسماء وعنوانات كتب لا نهائية لمؤلفين لا حصر لهم، يتشتت المرء بين «الأفضل» و«الأروع» و«العالمي» وغيرها من العبارات، لكن السؤال الحقيقي، لمن أقرأ؟ ولماذا؟. إن جواب السؤال الأخير متعلق بذات القارئ أكثر من كونه سؤالا عاما يستدعي جوابا يساويه في العمومية، فالمسألة ليست في «كُتيّب الاستعمال» الذي نعممه على الجميع ونتوقع أن يفيدهم جميعا، بل في الحاجة الحقيقية للشيء. فأن تقرأ لتتثقف في جانب معين -على سبيل المثال- يجيب على سؤال «لمن أقرأ؟». لكن سؤال «لماذا؟» يأخذنا إلى مناطق غير مطروقة، وأبواب لم تكن مشرعة، وإلى أراضٍ بِكر تنتظر من يحرثها ويكتشف خصوبتها والكنوز التي اختبأت تحت أكوام الأتربة والصخور. وهذا يحدث مع تلك الكتب التي يستخف بها الناس نظرا لأن مؤلفها ليس مشهورا معروفا، أو لأن الكتاب لم يسبق أن تداولته أوساط معينة يُؤخذ برأيها، ويُعتد بنظرتها في الكتب وجدواها.
أميل اليوم إلى أن القراءة النافعة تلك التي تغير فينا شيئا يترجم إلى فعل، التي تبصّرنا بالخطأ وتدلنا على الصواب، التي تنتشلنا من الحيرة والضبابية وتحملنا إلى الشواهق الصافية النقية للفكر والروح. ثم إن القراءة في كل شيء، ولكل أحد، دون هدف أو غاية؛ كمن يريد أن يكون في كل مكان، والذي يبتغي أن يكون في كل مكان «يعني ألا تكون في أي مكان» على حد قول الحكيم سينيكا. وهو الذي يلقي إلينا بنصيحة ذهبية في رسائله حين يقول «كثرة الكتب تعرقل طريق المرء. لذلك، إن كنت عاجزا عن قراءة كل ما تملك من الكتب، فاكتف بأن تملك كل الكتب التي تستطيع قراءتها».
إننا ننسى أن العقل أشبه شيء بالأرض، فما نزرعه في ذلك العقل نحصده فكرا وقولا وعملا، بل قد يسبق العمل القول والفكر فهو حيادي تماما ويأخذ ما يُزرَع فيه كما هو، دون تحيّز أو تأمّل أو تمحيص. وللمرء أن يزرعه قمحا، أو قتًّا أو ما يشاء من حشائش ضارة أو أشجار مثمرة. والفعل يسبق القول والفكر، لأن ما يستقر في نفس الإنسان وعقله اللاواعي، يُترجم إلى فعل قبل أن يدرك الإنسان بواعث ذلك الفعل. ثم يفلسف الإنسان فعله ويتأمل فيه بعد أن ينقضي، لذلك يقول الشاعر القديم
تَبَيَّنُ أَعقابُ الأُمورِ إِذا مَضَت
وَتُقبِلُ أَشباهًا عَلَيكَ صُدورُها
ليست المسألة مقتصرة على القراءة فحسب، فالنمو يتطلب الوقت والمزاولة والثبات؛ ولذلك نطلق على الخبير هذا اللقب، فهو الذي قضى شطرا من حياته يعمل ويكدح ويزاول ذات العمل أو المهنة، واكتسب خبرته بفعل التكرار، وتعاقب الليل والنهار. ولنا في شجرة الزيتون مثال وحياة، فهي تقضي السنوات الأولى من حياتها -حتى عشر سنوات حسب بعض المصادر- في تكوين الجذور وتأسيس جذعها وأغصانها تأسيسا يؤهلها للإنتاج؛ فهل ستنمو هذه الشجرة لو كانت تُنقَل من أرض إلى أخرى كل يوم؟ وكيف سيتسنى لها أن تمد جذورها وتغرسها في قلب الأرض المباركة وهي لا تلبث في مكان، حتى تنتقل عنه إلى آخر؟. لا يُطالب المرء بتغيير الكون والعالم رأسا، بل يبدأ الأمر بتغيير نفسه ولو تغييرا بسيطا، وفي الكتب يقول لك الكثيرون أن تقرأ الكاتب الفلاني، أو العمل ذائع الصيت؛ لكن هناك من الأعمال ما تحمل بداخلها بذرة التغيير الجذرية والتأسيس لما سيأتي في الحياة، وهي تتطلب نظرة حقيقية فاحصة واهتماما حقيقيا لنيل ما فيها من كنوز غير مكتشفة. فالكتب التي تغير العادات أو تصنع عادات جديدة، هي ما ينبغي أن يبدأ به المرء قراءاته في أول الخَطو وبادئ الأمر. وما يصلح لإنسان، لا يعني أنه يصلح لغيره. فبعض الكتب كالدواء، ينفع المصاب بالعلة الفلانية ويشفيه، أو يُهلك غير المستعد لها وغير المصاب بتلك العلة. وقد وجدت في كتب يصنفها البعض بأنها من الفضول أو الهوامش، ما روى ظمأي إلى معلومة ما، أو حقيقة لطالما بحثت عنها، أو أجاب عن سؤال ظل يحفر العقل دون هوادة. وفي العموم، فإن الكتب أرواح أخرى أُودعت تلك الصفحات، وما تشابه منها مع أرواحنا ائتلف، وما تنافر منها اختلف. ولربّ كتاب لا يُعرف اسمه، ولا يُذكر صاحب قلمه ورسمه، نفع إنسانا وغيّره، وأحيا روحا وأنقذها، فلننظر في مكتباتنا ولنرجع البصر كرّة تلو أخرى، فربما نجد فيها ما يشفي الصدور وما يجلو الظُّلَم ويوصل للنور، ولنتهيأ ونتزود لنوائب الدهور بالحكمة والمعرفة التي ظلت تحت أنظارنا طوال الوقت، ولم نتنبه لها أو نعرف قدرها إلا بعد حين، كما في «خيميائي» باولو كويلو، فلربما كان الكنز الذي ظللنا نبحث عنه خارجا بحوزتنا وطوع إشارتنا!.