الفن والواقع-2 صلة الفن بالسياسة
الثلاثاء / 12 / جمادى الأولى / 1447 هـ - 23:29 - الثلاثاء 4 نوفمبر 2025 23:29
وأعداء أثينا الذين يقصدهم أفلاطون هم أهل إسبرطة الذي كان هو معجبًا بموسيقاهم التي تحافظ على التقاليد. والحقيقة أن رؤية الفن عند أفلاطون ـ مثل رؤية القدماء في معظمهم ـ كانت مرتبطة بالأخلاق؛ ولذلك فإن المنظور السياسي للفن عنده ينبغي فهمه داخل إطار الأخلاق.
وهذا أدى إلى طرح السؤال عن دور الفن في عالمنا: هل الفن وظيفة سياسية واجتماعية أم أن ماهيته تكمن في البعد الجمالي؟ لقد سعى كثير من المتأثرين بالماركسية -لا سيما أعضاء مدرسة فرانكفورت- إلى التوفيق بين هذين البعدين للفن، ومن هؤلاء هربرت ماركوزه Herbert Marcuse- أحد أبرز حركة اليسار الجديد الذي عمل في أجهزة الاستخبارات الحربية الأمريكية، والذي رأى أن الفن يعمل على تغيير الواقع من خلال الشكل الجمالي؛ فالشكل الجمالي يعمل على التحرر من أسر الواقع الراهن بواسطة الخيال.
ومع ذلك؛ فإنه يقدم لنا رؤية تلفيقية أكثر من كونها توفيقية؛ لأنه لم يستطع أن يبين لنا كيف يمكن للشكل الجمالي أن يعمل على تغيير الواقع السياسي والاجتماعي.
ومع ذلك؛ فينبغي أن نلاحظ أن الفن لا يعبر عن هذا الواقع بطريقة مباشرة، وإنما يصوره باعتباره واقعًا يجري في زمان ومكان ما، ولكنه يمكن أن يجري في أزمنة وأمكنة أخرى.
وهذا يتبدى لنا ـ على سبيل المثال ـ في روايات نجيب محفوظ وأعمال كبار الأدباء؛ إذ نرى أعمال هؤلاء الأدباء يُعاد إنتاجها في عوالم أخرى غير عوالمها الأصلية، وهذا ما يجعلها أعمالًا خالدة. وبخلاف ذلك؛ فإن الفن يصبح محدودًا في إطاره الزماني المكاني العابر من دون أن يكون قادرًا على أن يكون مسموعًا أو مقروءًا أو مُشاهدًا خارج هذا الإطار.
وهذا يصدق حتى على أعمال الموسيقى والشعر التي تُكتَب لأجل إحياء حفلات أو مناسبات معينة، وهو أيضًا الفارق بين الموسيقى الراقصة التي كانت تُكتب من أجل العزف في حفلات العشاء في البلاط، وبين سيمفونية البطولة التي كتبها بيتهوفن سنة 1804 وأهداها في البداية لنابليون بونابرت، وإن كان قد سحب هذا الإهداء فيما بعد، وأهداها إلى الأمير جوزيف ماكسميليان (فهي مكتوبة بوحي من روح البطولة بصرف النظر عن الأحداث والأشخاص الذين يجسدون روح البطولة).
ويمكننا أن نسوق هنا أمثلة أخرى لإيضاح تلك الفكرة فيما يتعلق بصلة الفن بالسياسة. لعل الأغاني تعد مثالًا بارزًا في هذا الصدد؛ ذلك أن الأغنية يمكن أن تعبر عن إذكاء الروح القومية أو الوطنية، وتلك ظاهرة نجدها في كل البلدان لا سيما بلدان عالمنا العربي.
ولهذا السبب نفسه فإن أغاني عبد الحليم حافظ التي تغنى فيها ببناء السد العالي وباسم الزعيم جمال عبد الناصر تعد ـ رغم مشروعيتها وأهميتها في تلك المناسبات ـ أسوأ أغانيه الوطنية من الناحية الفنية والجمالية في حين أنه حينما تغنى في أغنية «النهار» بكلمات الأبنودي بعد هزيمة 67 قد عبر عن إذكاء الروح الوطنية بلغة جمالية ترقى فوق زمانية الحدث الذي يبقى في الخلفية؛ لتبقى الدلالة الفنية والجمالية قابلة للتلقي في أي زمان ومكان آخر.
كما قدمت لنا سينما هوليوود أفلامًا لتبرير الحرب الوحشية الأمريكية على فيتنام باسم الوطنية وباسم الأخلاق في مواجهة قوى الشر. ومثل هذا النوع من الأفلام لم يصمد بعد ذلك أمام النقد، وطواه الزمان؛ ذلك أن الفن -وإن كان يرتبط بالسياسة- لا ينبغي أن يكون معبرًا عن أيديولوجيا أو دعاية سياسية.