منوعات

فيلم " من الأعلى إلى الأسفل".. رحلة صانع النجوم بين القمة والواقع المنسي

 

طاهر علوان -


عبر مسار السينما هنالك تجارب لابد من التوقف عندها خاصة تلك الأفلام التي تشكّل ظاهرة وتتصدى لقضايا ومتغيرات اجتماعية وسياسية وثقافية مهمة وأساسية بشكل مختلف بعيدا عن الشعاراتية والملامسة السطحية للقضايا التي تمس حياة الفرد بشكل مباشر، يقابل ذلك نوع فيلمي ينأى بنفسه عن القضايا الإشكالية المركبة التي يستوجب عرضها تقديم وجهات نظر متعددة وهو ما يتطلب مستوى فكريا متقدما وحسّا جماليا رفيعا.
تحضر هذه المقاربة مع هذا الفيلم للمخرج الأمريكي الكبير سبايك لي في فيلمه الذي يمكن ترجمته أيضا إلى: 'من القمة إلى القاع' والذي يجمعه مع النجم الكبير ذائع الصيت دينزل واشنطن فكيف اذا كان ثالث هذا الثنائي هو المخرج الياباني الكبير الراحل أكيرا كوروساوا بإرثه المعروف، وهو رمز السينما اليابانية عبر الزمن وواحد من أهم 100 مخرج عبر تاريخ السينما العالمية.
يحاكي سبايك لي في فيلمه هذا فيلم كوروساوا الذي كان قد أخرجه في العام 1963 والذي حمل ذات الإسم – الأعلى والأدنى، لكن المخرج الفذ سبايك لي لن يغادر مرابعه الأصلية ولن يتخلى عن تصديه المعتاد للقضايا التي نذر نفسه لها عبر عقود منذ بداياته في الثمانينيات وحتى يومنا هذا وفي مقدمتها قضايا الأمريكان من أصول أفريقية، وقضايا التناشز الفكري والثقافي القائم على الطبقية والتمييز ما بين البيض والسود حيث فتح سبايك لي عيناه عليها ( مواليد 1957) وترسخت في وعيه وضميره عبر أكثر من 30 فيلما لم يتخل خلالها عن التصدي الجريء لأشد القضايا حساسية تلك التي تعصف بالمجتمع الأمريكي بين حين وآخر والمتعلقة بحقوق السود واضطهادهم والممارسات العنصرية ضدهم وما إلى ذلك.
تحضر هنا جغرافيا المكان حيث أحد معاقل السود الأمريكيين ثقافة وحضورا اجتماعيا ممثلا في مدينة بروكلين، وها هو ديفيد كينك- يؤدي الدور دينزل واشنطن، الشخصية الثرية الذي كرس حياته لإنتاج الموسيقى والاستثمار التجاري الهائل فيها والخوض في مضارباتها حتى لحظة اختطاف إبنه من طرف عصابة ما، هنا تصطدم الذات المفعمة بالموسيقى بجمود المدينة وناطحات سحابها والحياة المترفة التي لا تغير الكثير من شخصية ديفيد كينك الذي يغرس فيه سبايك لي ما كان قد غرسه في شخصيات من أصول افريقية في أفلامه، شخصيات غالبًا ما تكون معقّدة ومتناقضة: لا هي خيّرة بالمطلق ولا شريرة بالكامل وذلك هو حال ديفيد كينك.
نمضي طيلة زمن الفيلم الممتد لأكثر من ساعتين مع تلك الدراما والسرد الذي يتحول الى نوع من الأفلام البوليسية بملاحقة العصابة التي اختطفت ابن ديفيد كينك ثم أفرجت عنه لتختطف ابن باول وهو صديقه وأحد مساعديه – يقوم بالدور الممثل جيفري رايت، مطالبة بمبلغ يزيد على 15 مليونا من الدولارات، لتجري وقائع المطاردة على خلفية احتفال شعبي ضخم يقدم موسيقى وغناء من بورتوريكو ويخلد ذكرى أحد ألمع نجوم تلك الجالية إيدي بالميري وفرقته.
يمكننا القول إن ذروة الفيلم، بصريا وسمعيا، هي هذا الإحتفال الصاخب بيوم بورتوريكو والذي تبلور في شكل نسيج متقن، مونتاجاً وموسيقى وحركة كاميرا، وحيث يمضي الإحتفال وينغمس الجمهور بالغناء والرقص وسط تدفق موسيقى السالسا والجاز اللاتيني والإيقاعات الحيوية المعقدة للكونغا والبونغو وغيرها مع عناصر الجاز الكلاسيكي، وهنا كانت المطاردات بين فرق الشرطة وبين عصابة الخاطفين تجري على طريقة الكر والفر وتتنقل كاميرا مدير التصوير البارع ماثيو ليباتيك وثنائي المونتاج المتميز باري براون واليسون جونسون بين العديد من الأماكن والمواقع.
.
هنا لابد من التأكيد على الأهمية التي حضي بها هذا الفيلم على صعيد القراءات النقدية في العديد من المواقع والمنصات والتي اهتمت بالفيلم وما هو الجديد الذي جاء به سبايك لي في فيلمه هذا وهنا سوف نتوقف عند
ما كتبه الناقد ريتشارد برودي في موقع مجلة ' ذي نيويوركر' ذائعة الصيت وحيث أوجد مقارنات ملفتة بين أسلوب لي في هذا الفيلم وأساليب مخرجين كبار آخرين تصدروا المشهد السينمائي الهوليوودي بشكل خاص حيث يقول:' من المثير للاهتمام عندما يقوم صانعو الأفلام بتحولات جذرية في أواخر مسيرتهم المهنية، كما فعل مارتن سكورسيزي في فيلم 'ذئب وول ستريت' وفعل فرانسيس فورد كوبولا مؤخرا في فيلم 'ميغالوبوليس'. والآن جاء دور سبايك لي، وفي فيلمه الدرامي الجديد 'الأعلى والأدنى'، فإنه يعد تحولا بطريقة مفاجئة. إنه واحد من أكثر أفلامه شخصية، عاطفيا وفكريا'.
اما الناقد اللامع مايكل وود فيكتب عن الفيلم في المنصة البريطانية الشهيرة لندن ريفيو قائلا' مع بداية الفيلم سوف نسمع عبارة 'كل أصوات الأرض هي موسيقى'، ومع بطلنا، ديفيد كينك الثري، سوف نواجه منهجية سبايك لي المعهودة، السماح لكل قصة بأن تستحوذ عليها قصة أخرى قبل أن تستقر باتجاه نهاية او حصيلة ما.
يحّول 'لي' الفيلم إلى مغامرة حقيقية، وفضلا عن ذلك يعبر عن ولعه السابق في مزج الأنواع السينمائية والعودة إلى الأماكن والأشخاص الذين سبق وتعايش معهم في أفلام سابقة على اختلاف الممثلين'.
في موازاة ذلك تصبح الموسيقى شاهدا على زمن وحياة وشخصيات، بل هي هنا مفتاح للحل وحيث يمضي ديفيد كينك في سماعه المرهف للموسيقى الذي سوف يوصله إلى اقتفاء الأثر الصوتي لرجل العصابات خاطف الصبي ومقارنته بصوت أحد مغني الراب، وها هو يحاول اقناع رجال الشرطة بأن مغني الراب ما هو إلا الخاطف نفسه ومعه عصابته وهو ما سوف يدفعه للوصول إليه بالفعل.
خلال ذلك ومع توالي الحبكات الثانوية لم يتوان سبايك لي من السخرية والنقد اللاذع لأولئك الصانعين الكبار لنجوم الغناء والموسيقى، وها هو الخاطف يونغ فلون – يؤدي الدور الممثل آساب روكي، وهو مجرد مغني راب معجب إلى درجة الإفتتان بشخصية ديفيد كينك حتى أنه يسمّي ابنه على اسمه ولطالما كان حلمه أن يستقطبه ويتيح له فرصة الغناء ولكن مسافات الثراء والبيروقراطية وصراعات المصالح تجعل ديفيد كينك في القمة الشاهقة كما هي اللقطات البارعة التي تظهره في بروكلين مطلا على جسر المدينة الشهير في مقابل مغني الراب الذي هو في القاع وهي الجدلية الفكرية والثقافية التي يشتغل عليها الفيلم منذ المشهد الذي تعلن فيه زوجة كنك عن تبرعها ببساطة بمبلغ نصف مليون دولار إلى جمعية خيرية بينما مغني الراب لا يكاد يجد قوت يومه.
الحاصل هو أن الحل بالموسيقى كان على الدوام مناسبا بالنسبة لكينك حتى لو انتهى بمغني الراب إلى السجن لا تشفع له أن يُغني أغنيته لكينك لتكتمل الحلقة مع صوت السود الأمريكيين الصادح الذي لا يطرب كينك إلا إليه وها هو في منزله الفخم يستمع إلى سولا – تقوم بالدور الممثلة أيانا لي أندرسون، تُسمى الأغنية التي تغنيها 'من الأعلى إلى الأسفل'، ولكنه وهو ينفرد مع نفسه يعيش اضطرابا يحدّث نفسه ويتخبط في قراراته وخاصة في المضاربة برأسمال شركته وصولا إلى علاقته بابنه بينما الغناء الصادح يملأ المكان تبدأ به الرحلة وتنتهي.
...............
إخراج/ سبايك لي
سيناريو/ ألان فوكس
عن رواية فدية الملك – إيفان هنتر
عن فيلم أكيرا كوروساوا
تمثيل/ دينزل واشنطن في دور ديفيد كينك، الفينيش هاديرا في دور بام – زوجة كبنك، جيفري رايت في دور بأول، آساب روكي في دور مغني الراب يونغ فلون، أيانا أندرسون في دور سولا.
مدير التصوير/ ماثيو ليباتيك
مونتاج/ باري براون واليسون جونسن