النفايات وعِقدُ المدينة المنفرط!
الاحد / 10 / جمادى الأولى / 1447 هـ - 19:12 - الاحد 2 نوفمبر 2025 19:12
اعتدتُ المشي مع أبنائي في حارتنا الهادئة قُبيل نومهم بساعة؛ في محاولة لترميم الغياب الذي تُحدثه مشاغل الحياة، لكن نزهتنا باتت تتعثرُ بما لم نألفه: أكوامٌ من القمامة تتدفقُ من صناديقها المُكتظة، وروائح ثقيلة تعترضُ نسمة الشتاء. يحدثُ هذا في مدينة مسقط التي من أهم سماتها النظافة!
جوار المتنزه الذي يلعبُ فيه الأولاد، راقبتُ المشهد المروع، أجهزة لفظت آخر أنفاسها، أثاثٌ قديم أنهكته السنون، وأغصان أشجار مُقطّعة، مترامية هنا وهناك! يضعُ الناسُ مخلفاتهم جوار الحاويات لا بداخلها لشدة امتلائها. تتهافتُ القطط والكلاب والحمير على الأكياس تمزّقها بأسنانها الجائعة، يتناثرُ ما كان مخبوءًا في جوفها، فتتوحشُ الفوضى آنذاك وتغدو أكبر من أن تُلَمّ!
في نهاية الأسبوع عدنا إلى قريتنا، فاستقبلنا خيطُ دخان صاعد من مزارع الباطنة؛ خيطٌ يرتبطُ في طفولتنا بصخب الجري بين جلبات القت وسنابل القمح وأكواز الذرة، لكن الصورة الفاتنة للوهج الرمادي المعانق لحُمرة الغروب، تختزنُ آلامًا لا تُرى، وتُفصحُ عن مأزقٍ خفيٍّ يُثقلُ صدور من لا يجدون بديلًا لتنظيف مخلفات حصادهم!
وكما يبدو، لا تزال البنية التحتية للتدوير هشّة، إذ نفتقرُ لوجود حاوياتٍ مُخصّصة لفرز النفايات بحسب أنواعها، فتختلطُ ببعضها، مما يجعل عملية فرزها لاحقًا عبئًا يتطلّبُ جهدًا ووقتًا وتكلفةً عالية، كما يتبدّى ضعف الوعي العام لدى الناس كعقبة موازية أيضا. هنالك بعض المحاولات المتواضعة لتوزيع حاويات صديقة للبيئة، ولكن ماذا لو انتشرت بصورة أوسع: في الأحياء والمدارس والحدائق، ليُدرِك الناس أنّ الفرز ليس رفاهية تجميلية، بل ضرورة ماسة في كوكبٍ يتألم!
أشارت دراسة نشرتها شركة «بيئة» ضمن تقرير الاستدامة لعام 2022، إلى أنّ حجم النفايات في سلطنة عمان والقابلة لإعادة التدوير تُقدر بنحو 2.3 مليون طن سنويًا، ويمكن تحقيق عوائد بقيمة 530 مليون ريال سنويًا في حال إعادة تدويرها محليًا. مما يعني إمكانية التعامل مع مُعضلة التلوث البيئي إلى جوار تحويل النفايات إلى مورد اقتصادي جديد. تفصحُ بعضُ الدراسات عن أنَّ ما يتعذّر تدويره من النفايات يمكن أن يتحوّل إلى طاقة كهربائية تُنير البيوت، وتُعزّز الأمن الطاقي في زمنٍ تتزعزعُ فيه الموارد، كما يُمكن للتشريعات أن تكبح جماح «المنتجات البلاستيكية قصيرة العمر، وأنْ تدفع الشركات إلى ابتكار حلول تغليفٍ مُستدامة». وفي المقابل، على الدولةُ أن تمد يد العون عبر حوافز ماليةٍ وإعفاءاتٍ ضريبيةٍ تُشجّع على الالتزام بالمسار الأخضر المنشود. وإذا ما ابتعدنا قليلًا عن نفاياتنا المنزلية، سنجد أنّ البلاء الأعظم مُختبئٌ في المناطق الصناعية. إذ تُصنّف شركة بيئة -كما ورد في تحقيق نُشر في العربي الجديد- الإطارات التالفة، والبطاريات المستهلكة، والنفايات البلاستيكية، والمواد الكيميائية، والزيوت، على أنّها نفايات خطرة؛ تُلزم منتجيها بوضعها في حاويات مُخصّصة، لتنقل عبر شركاتٍ مُرخّصة ومؤهلة لاحقا، لكن السؤال: هل يجري ذلك حقًا كما ينبغي؟ أم أنّ جزءًا من هذا الخطر يتسللُ ليختلط بترابنا ومياهنا وهوائنا!
بعد نحو ستة عشر عامًا من تولّي شركة «بيئة» مسؤولية جمع ونقل النفايات في محافظة مسقط، استعادت بلدية مسقط هذه المهمة مجددا داخل الأحياء السكنية والتجارية، وللقرار -كما يبدو- قراءتان: فهناك من يراه إشارةً صريحةً إلى تعثُّر تجربة «بيئة»، بدليل تراجع مستوى النظافة في بعض المناطق، وتزايد الشكوى، وعدم استثمار البنية التحتية للتدوير على النحو الأمثل. وفي المقابل، يرى آخرون في هذا التحوّل مسارًا تصحيحيًا يهدف إلى لَمِّ ما انفرط من عِقد المدينة، وإعادة تنظيمٍ للأدوار؛ بحيث تعود البلديات إلى تقديم الخدمة المباشرة، بينما تُمنح «بيئة» فسحةً أوسع للتركيز على المشاريع الاستراتيجية. وفي ذلك ما يشبه الاعتراف الضمني بحاجة هذا القطاع إلى رقابة حكومية وثيقة على الخدمات التي تمسّ حياة كلّ فردٍ منّا، لكن لا يمكن تجاهل الحقيقة الأعمق: فالتوسّع العمراني المتسارع، وارتفاع عدد السكان، وتحوّل أنماط الاستهلاك؛ جميعها أفرزت تحدياتٍ مُضاعفة، جعلت منظومة النفايات أكثر تعقيدًا، وأكثر ارتباطًا بالصحة والاقتصاد ومؤشّرات التحضّر. ومن هنا، يظلّ الرهان معقودًا على ما ستقدّمه البلديات في المرحلة المقبلة: فهل تُعيد للمدينة صفاء وجهها؟ وهل ننجحُ في تحويل النفايات إلى موردٍ فعّال في قطاعٍ واعد؟
هدى حمد كاتبة عُمانية ومديرة تحرير مجلة «نزوى»