داخل حديقة العامرات وخارجها
السبت / 9 / جمادى الأولى / 1447 هـ - 20:55 - السبت 1 نوفمبر 2025 20:55
ماذا يمكن أن نقرأ في ضجة فعالية الجالية الهندية في حديقة العامرات؟ ولماذا ضج المشهد معنا بهذه الحادثة خاصة على مواقع التواصل؟ وماذا لو أن الفعالية كانت احتفالًا دينيًا طقوسيًا لا عرضًا ثقافيًا كما صرّح بيان نادي الجالية الهندية لاحقًا؟ لا تزعم هذه المقالة أنها مبنية على متابعة حثيثة للضجة، بل على ما وصل كاتبها منها، وهو مجرد أصداء وردات فعل، لكننا نتوقع رغم ذلك أن نقاشًا وحوارًا دار داخل تلك الضجة تباينت فيه الآراء. ومجرد تباين الآراء، وعملية الشد والجذب حول الموضوع، وتبادل النظر والنقاش المفتوح، واحترام الاختلاف هو في حد ذاته مظهر صحي للمجتمع في حين أن المظهر المنبئ بالخطر والمَرَضيّ هو الموقف الأحادي المتطرف، الموقف الذي يفرض على الآخرين رأيه دون مراعاة لأي اعتبارات، والذي يريد احتكار الرأي، ويعادي كل من يخالفه، فهذا مظهر مرضيّ بكل تأكيد، ومن هذه المنطلقات يمكننا إعادة قراءة الحدث وردات الأفعال.
الواقع أن قبول الآخر، والانفتاح على الثقافات الأخرى ليسا مجرد عبارات جوفاء نتشدق بها، أو عرضًا نصدّره للمعارض والمحافل أو مجلة نصدرها، بل هو ثقافة وممارسة وسلوك. ومن يدرك حركة التاريخ والموقع الجغرافي العماني يعرف أن الجزيرة العربية هي مركز ملتقى حضارات الشرق والغرب، ومن يراجع التاريخ يعلم كذلك أن أهل الجزيرة حافظوا على صلات تاريخية وثيقة مع محيطهم منذ أقدم العصور رغم اختلاف الثقافات والأجناس وتجددها. وهكذا شكل حوض المحيط الهندي ظاهرة تاريخية متنوعة يلذ للمؤرخين العودة إليها لرسم الصلات المستمرة بين موانئ الشرق، وفي براريه، من أدناه لأقصاه. وتلك الصلات قامت تأسيسًا على انفتاح ثقافي فطري، وعلى تفاعل واحترام متبادل، وكذلك على قبول الاختلاف والاستفادة منه. وهكذا ألفينا حركة تجارية وثقافية وموجات هجرة مستمرة بين كل المجموعات البشرية الشرقية منذ أقدم الأزمنة، وهي الهجرات التي خصّبت الشرق، وصنعت صورته كأفق مفتوح لمسيرة الحياة الإنسانية، ومكنت الإسهام الحضاري الإنساني الشرقي، أي كل المعالم والآثار التي نفتخر اليوم بها.
إن التفكير في الشرق وثقله، وتأمل التاريخ الحضاري الطويل مما قبل التاريخ بقرون منذ عصور الفراعنة والسومريين يجعلنا ندرك أن البناء الحضاري كان دومًا عبارة عن هضم وإعادة إنتاج حضارية، وأن البناء الحضاري الإنساني مذ كان إلى اليوم هو دائمًا عبارة عن هذه الدورة الحضارية في التمازج والتلاقح والخصوبة، وأن من يعزل نفسه عن هذه الدورة الحيوية يندثر ويضمحل. ولعل هذا الانفتاح الحضاري من أقوى الملامح التي تميز الإسلام عن غيره من الديانات الشرقية، والذي جعله يعبر الثقافات والأجناس والهويات، وهو الأمر الذي التفتت إليه المسيحية لاحقًا في عصر ما يدعى بعصر الاكتشافات الأوروبية في القرنين الخامس عشر والسادس عشر. وهو نفس المبدأ الذي تقوم عليه اليوم النظم والقوانين في البلدان الغربية، وهو باختصار أن احتضان الثقافات الأخرى يخصّب الثقافة الحاضنة، والعكس صحيح.
ليس الإنسان في وجوده كائنًا معزولًا ومكتفيًا بما لديه، كما تثبت لنا كل الدلائل من الطعام والشراب إلى الأفكار والفن والإبداع؛ فحياة الإنسان الاجتماعية تقوده منذ الطفولة إلى الاعتماد على محيط اجتماعي، وليست مقولة (الإنسان اجتماعي بطبعه) مقولة تقتصر على الفردي وحده، بل هي تتمدد بالضرورة إلى الجمعي. ولا يمكننا عزل الإنسان داخل قوقعة، بل لا شك له تداخل وترابط بمحيطه، وهكذا لا يمكننا أن نعزل الجزيرة العربية -وأي جزيرة كانت- عن التفاعل مع محيطها، بل تقف بين أيدينا اليوم كل البراهين الدالة على أن الجزيرة العربية لم تكن معزولة رغم الجغرافيا والبعد والصحراء من جهة والبحر من جهة أخرى، وأن الذي شكل الجسر المتصل بين سكان الجزيرة ومحيطهم هو الإنسان نفسه الإنسان الذي حول البحر والصحراء إلى طرقات، ورسم بسفنه وقوافله مراكب فضائية تجوب الفضاء المحيط بسفنها وقوافلها، وتتعرف على كواكبه، بل تتمازج معها، وتنقل ثقافاته ومنتجاته وفنونه بين الشرق والغرب، وكانت عمان في لب هذا الحراك الحضاري طوال التاريخ، وما تزال إلى اليوم.
والعكس صحيح؛ ذلك أنه مثلًا في أزمنة الإغلاقات المفروضة سلطويًا، وفي العصور التي تحولت فيها البلاد إلى الانغلاق على ذاتها تحرك الإنسان بفطرته للخروج في الاتجاه المضاد، وشهدنا موجات هجرة مستمرة للخارج كما في منتصف القرن العشرين، ولم يشفع لإيقاف تلك الهجرات -خاصة من جيل الشباب تحديدًا آنذاك- كون السلطات الحاكمة آنذاك سلطانية كانت أو إمامية شديدة التمسك بالمظاهر الدينية الإسلامية؛ ذلك أن الفطرة السليمة للإنسان ظلت دائمًا تقوده للأفق المفتوح مهما كان البيت المغلق يكيل الوعود، ويبذل الإغراءات الدنيوية أو الأخروية.
فإذا عدنا للحادثة الهندية فعلينا أن نتذكر أن مجتمعاتنا ليست وليدة البارحة ولا العقود الخمسة الأخيرة، بل هي انعكاس ومرآة لمحيطنا، وهكذا نجد داخلها وفي تكوينها انسجام نسيج كل الأجناس والأقوام المحيطة بنا، وازداد ذلك أكثر في المجتمع الحديث، حتى تكاد تجد اليوم موشورًا من كل جهات الأرض الأربع من حملة نفس الجنسية. وإذا خصصنا الحديث بالجالية الهندية وتاريخها الاجتماعي فإن الحضور الهندي للتجار قديم منذ آلاف السنين، بل اندمج أفراد وعائلات وبيوت كثيرة منهم في النسيج العماني منذ قرون، وتمازجوا في الثقافة العمانية وأثروها بدورهم. كما لعبت كل القوى العاملة الهندية -خاصة الكيرلية-؛ كونها الجهة المقابلة لنا في الضفة الأخرى دورًا حاسمًا في وفرة اليد العاملة والمتخصصة في عصور النفط الحديثة، وكل ما لزم لحركة الحداثة والبناء والعمران والنهضة العمانية، بل الخليجية كافة، وهي أدوار مشهودة ومعروفة وما تزال. وفي المقابل اندمجت أقوام عربية وفارسية في الضفة الهندية وما جاورها، وامتزجوا بثقافتها، وشكلوا جزءًا منها، وكذلك في بلدان الشرق الأقصى، وفي كل بلد شرقي بلا استثناء تقريبًا.
يبقى أن الغريب في الأمر -وهو ما تلفتنا إليه حادثة حديقة العامرات الأخيرة- أن كل هذه العشرة الطويلة القديمة والمعاصرة لم يواكبها تعارف ثقافي أعمق، ولا تفهم حقيقي لحدود وعمق هذه العلاقة الشرقية القديمة والعميقة بين ضفتي المحيط، بل استطاعت الخطابات المتطرفة التأثير حتى في هذه العلاقة المباشرة. وإذا كان أهل الضفتين القدماء استطاعوا اجتياز المحيط، وربط الموانئ بنتاجهم وثقافتهم؛ فإن أحفادهم لم ينجحوا كما يبدو بعد في اجتياز القطيعة المفروضة عليهم بفعل الهيمنة الغربية، بل ما زالت خطابات الكراهية ونعراتها الجاهلية تجد صدى، ولا أدل على ذلك من قبول واحتضان وفوز الأحزاب اليمينية المتطرفة، وانتشار خطاباتها التي تزرع الكراهية حتى ضد أبناء الوطن الواحد فضلًا عن المقيم بين ظهرانيهم وجيرتهم.
إن البناء الحضاري -إذا كانت تطلعاتنا الحضارية صادقة- يقوم على انفتاح الأفق وعدم تضييقه؛ فالتشدد مؤداه للتطرف، وليس التطرف ما تنبني عليه الحضارات، ولا استعراض العضلات على الأقليات، واحترام الآخر لا يتجزأ عن احترام الذات الحقيقي. وفرض الاحترام المتبادل يقوم على السلوك الذاتي، وليس على الهجوم على الآخر، وتعايش الديانات واقع قديم ومكسب علينا تقديره حق قدره، والانطلاق منه والبناء عليه؛ لأن احترام الديانات الذاتية يقوم على احترام الديانات الأخرى وعدم تسفيهها أو محاربتها، وليس الأمر حكرًا على الديانات، بل هو أمر ثقافي عمومًا، وبالتالي احترام الثقافة الأخرى هو من احترام الثقافة الذاتية. أما خطابات التهويل والتضخيم التي تريد أن تصور حدثًا اجتماعيًا ضيق النطاق يخص جالية بعينها، بل جزءًا محددًا منها، فكان يمكن أن يمر مرور الكرام لولا الضجيج والتخويف الذي صوره بوصفه هجومًا وخرقًا ومحاولة تدميرية. فتلك خطابات لا تبني السلوك الحضري، وتعزز مكاسبه بقدر ما تخربه وتهدمه، بل قد تبدو هذه الحساسية المفرطة رعبًا غير مبرر، أو حساسية مفرطة مفتعلة لها أغراض أخرى؛ خاصة لأنها تتجاهل تعارضها مع القواعد التأسيسية إذا استعدنا أن الدين المعاملة، وأن الدعوة كما في النص تقوم على الحكمة والموعظة الحسنة، فهكذا تتأسس الحضارة أما بالعكس فتتعثر وتنهار.
إبراهيم سعيد شاعر وكاتب عُماني