الهشاشة النفسية
الأربعاء / 6 / جمادى الأولى / 1447 هـ - 21:39 - الأربعاء 29 أكتوبر 2025 21:39
لماذا أصبحنا أكثر هشاشة؟ وما مستقبل الأجيال القادمة؟ هذا محور مقالتنا لهذا الأسبوع التي سأحاول فيها تغطية الموضوع تغطية شاملة قدر الإمكان، فما هي الهشاشة وما مفهومها وما المساوئ التي لن تتوقف عند الأفراد، بل يتعداها إلى المجتمع كله. نجد في لسان العرب في مادة «هشش» تعريف ابن منظور للهشاشة حيث يقول «هَشَشَ: الهَشُّ والهَشِيشُ مِن كل شيء: ما فيه رخاوة ولين، وشيءٌ هشٌّ وهَشيش وهَشَّ يَهِشُّ هَشاشَةً، فهو هَشٌّ وهشيش. وخُبزَةٌ هَشَّةٌ: رخْوَةُ المَكْسَر.. وهَشَّ هشوشة: صار خوارا ضعيفا». أما في علم النفس فلم أجد الجواب الشافي للهشاشة، ولم أجد لها تعريفا علميا لكننا نفهمها بأنها الضعف الشديد الذي يشعر معه المرء بأنه لا يقوى على شيء.
أصبحت الهشاشة سمة يمكن رصدها بسهولة في قبيل كبير من الناس ولا سيما ممن اعتاد استعمال وسائل التواصل الاجتماعي خصوصا، فلم تعد مقتصرة على المشاعر والأحاسيس وحدها، بل لحقتها الإرادة والقدرة على فعل الأشياء الطبيعية بحالتها الطبيعية كما اعتاد الناس على ذلك عبر العصور، فهي تجعل علاقة الإنسان مضطربة ضعيفة بنفسه وبالعالم المحيط به. فلم تشف التكنولوجيا الإنسان من وحدته، وهو مسكون بالخواء رغم الوفرة التي يمتلكها، ورغم انفتاحه في الحديث على العالم بأكمله في وسائل التواصل المختلفة المتنوعة إلا أنه منعزل انعزالا قاتلا في الوقت ذاته. إن وسائل التواصل الاجتماعي قائمة على المقارنات اللانهائية، في الشكل والملبس والمأكل والمشرب والكماليات. فهي واجهة اجتماعية ثقافية اقتصادية سياسية، فيشرئب المتشبع بها إلى الحصول على القيمة والمكانة منها، فهو يبحث عن الشهرة، عن الإعجاب، القبول، والمكانة المفقودة. لكن أين تكمن الهشاشة إذن؟ تتبدى الهشاشة حين تتحول وسائل التواصل الاجتماعي إلى شيء يُفقِد المرء ما أراده منها، فهو لا يحصل منها على ما يريد، بل يتعمق لديه الشعور بفقده ونقصانه، مما يعمق النقص الكامن بداخله ويزيده غورا.
يرى بعض الفلاسفة ومنهم نيتشه بأن الوعي لعنة ومرض يصيب الكائن المفكر، فهو يقارب الهشاشة من منظور مختلف وغير معتاد -وإن كنا نعرف البيت الشهير ذو العقل يشقى في النعيم بعقله- بما يشبه التنظير الفلسفي الذي نثره في مؤلفاته المختلفة بصيغ عدة. فالهشاشة عنده هي ذلك الضعف -يرى نيتشه الضعف مرضا- الذي يصيب الإنسان باعتباره شيئا حادثا، لا أصيلا في المرء. لكن هذا الوعي هو ما ينقذنا من الهشاشة أصلا؛ فالأمل والمرونة والنظرة التفاؤلية إلى الغد الذي يمكن أن يحمل في راحتيه ياسمين العمر القادم، كلها أشياء ممكنة الحدوث ولها دلائلها ونظائرها في التاريخ الإنساني الممتد. لكنه يختار أن يرى ما يريد.
لم نعد نتصدى للرياح العاتية بصلابة كما في السابق، بل ساد الشعور العام بالقلق والتيه والضبابية والرغبة الملحة في البحث عن معنى الوجود والحياة واستمراريتهما، وللقارئ أن ينظر إلى قوائم الكتب الأكثر مبيعا في العالم كله، ليجد أن الكتب التي تعالج هذه الموضوعات هي المتسيدة للمشهد، بل والأدهى أن هنالك من الكتب ما يروّج للهشاشة والأمراض النفسية باعتبارها سمة فارقة تميز الإنسان عن أقرانه، وعلامة فارقة تستدعي الفخر لا العلاج! إن أسوأ ما يحصل للعلم، أن يتدخل فيه من لا يعلم، فقد تظل معلومة زائفة محفورة في أذهان الناس، بل وتنتشر انتشار النار في الهشيم باعتبارها الحقيقة الثابتة التي لا يمكن دحضها، وللمرء أن يتيقن في هذا السياق من المشهور عن تشارلز داروين العالِم الطبيعي، وهل قال فعلا بأن أصل الإنسان قرد، أم أن هذا مما ينسب إليه زورا وبهتانا!. وإن كان لهذه الكتب وهذه الموجة بارقة، فهي أنها لا تقدم الأمراض النفسية باعتبارها عيبا وخللا فاضحا يمس المرء في دينه، أخلاقه، تربيته، أوعائلته. بل يقارب الأمر مقاربة علمية تبحث في العلل والأسباب وتعالج جذور المشكلة. كما لو أن المرء يحصل على المفتاح الذهبي الذي يفتح له مغاليق نفسه.
إن وعي الإنسان بالموضع الذي هو فيه، والموقع الذي يريد الوصول إليه؛ هو الدافع والحافز الذي يحدد السبيل الذي سيسلكه لبلوغ ذلك الموقع وتلك المكانة. أكان الأمر داخليا، أي تلك الأمور القابلة للتحقيق لذات المرء ودون أن يعلم بها الآخرون، وهي التي تكون بين الإنسان ونفسه. أو تلك البارزة للعيان المتعلقة بفراغ يشغله، في العمل، المجتمع وغيرها؛ فالرغبة الداخلية بتغيير الإنسان لوضعه، تدفعه للعمل والفعل والمثابرة، لكن ما أصابنا هو الانتقال من البحث عن الأساسي والمفصلي والمحوري للحياة؛ إلى التوق والجوع إلى الكماليات. ففي غزة على سبيل المثال، لا يوجد للإنسان رفاهية الهشاشة النابعة من الوفرة، بل هو يقاوم كل شيء ليحيا يوما بيوم.