بغير الحقيقة والعدالة لن تنتهي حرب غزة حقًا
الثلاثاء / 5 / جمادى الأولى / 1447 هـ - 21:04 - الثلاثاء 28 أكتوبر 2025 21:04
ترجمة: أحمد شافعي
يصر دونالد ترامب على أن الحرب في غزة انتهت. وهي لم تنته. صحيح أن العنف تقلص كثيرًا. لكن التقارير تشير إلى أن القوات الإسرائيلية قتلت قرابة مائة فلسطيني وأصابت مئات آخرين منذ بدء وقف إطلاق النار في العاشر من أكتوبر. ولا تزال إمدادات المساعدات الغذائية معرضة لقيود كثيرة. والاحتلال مستمر في غزة وفي الضفة الغربية. ويخشى مسؤولون أمريكيون من أن يتراجع رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وشركاؤه عن الاتفاق مثلما حدث من قبل.
وبالمثل، تواصل عناصر حماس والعصابات المنافسة لها القتال. فالجماعة لا تقوم حاليًا بنزع سلاحها، والقوات الإسرائيلية لم تنسحب انسحابًا كاملًا إلى الخطوط المتفق عليها. ومقترحات الأمن والحكم وإعادة الإعمار المعروضة في الإطار الأمريكي لا تزال مبهمة وافتراضية وموضع نزاع، وأسباب الحرب الجذرية، وهي أساسا إنكار السيادة والدولة الفلسطينية، لم يجر علاجها. وما لم يتغير هذا، فسوف تندلع الحرب من جديد، عاجلا أم آجلا.
لكن في حدود الجدال، لنفترض، ولنرجُ، أن يكون ترامب على حق، وأن يظهر وسط أطلال غزة بطريقة أو بأخرى سلام بطيء قابل للدوام. فماذا يحدث بعد هذا؟ العدالة هي ما ينبغي أن يحدث بعد ذلك. وكما في أوضاع أخرى شهدناها بعد صراعات أخرى، يستحق الأحياء والموتى في إسرائيل وفلسطين الحساب.
فكل من ارتكبوا جرائم حرب، أو أشرفوا على ارتكابها، يوم السابع من أكتوبر سنة 2023 أو بعده لا بد من حسابهم على أفعالهم. ولكي لا ننسى، هناك أعداد غفيرة من الضحايا، في الجانبين، تصرخ بنا معاناتهم طالبة الاعتراف بها، ومنادية بالحل والتعويض. فلا بد من محاسبة، ووضع حد للإفلات من العقاب، ولو لم يكن لذلك سبب عدا تقليل خطر استئناف الحرب.
لا يجب أن تمر الإبادة الجماعية بلا عقاب. وإنه لأمر استثنائي في خطة سلام ترامب «التاريخية» المؤلفة من عشرين نقطة، ويفترض بها تغيير الشرق الأوسط، أن لا تشير أي شكل من أشكال عمليات التحقيق العامة الرسمية ما بعد الحرب، ولا تعرض طريقًا للتقدم نحوه. وكبار الساسة في أوروبا والعالم العربي والمملكة المتحدة يلزمون الصمت في هذا الشأن أيضا، ويبدون حريصين على إسدال النقاب على أحداث العار التي جرت على مدى السنتين الماضيتين.
ومما يفسر هذا، من أوجه مختلفة، أن حكومات هؤلاء كانت متواطئة. ومما يفسره أيضا أن الحرب فضحت عدم التأثير، والفشل الاجتماعي الضار، الذي استغله نتنياهو وبعض قادة يهود الشتات في التمييز بين معاداة السامية الفجة ومعاداة إسرائيل المشروعة والمشاعر المعادية للحرب.
بل إن البعض يشيرون إلى أن النظر إلى الوراء يعرض للخطر الجهود المبذولة المضي قدما. وهذا هراء. فالسعي إلى العدالة والحقيقة والمصالحة في سيراليون والأرجنتين ورواندا وجنوب أفريقيا وكمبوديا ويوغسلافيا السابقة يظهر أن العكس يمكن أن يكون الصحيح. والدروس المستفادة من هذه الأماكن قابلة للتطبيق في كل مكان.
إن المحاسبة ضرورية وملحة. ولنبدأ بالقمة. لقد اتهمت المحكمة الجنائية الدولية العام الماضي كلًا من نتنياهو ووزير الدفاع الإسرائيلي السابق يوآف جالانت بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية منها الاغتيال والتجويع. كما تم اتهام زعيم حماس الراحل محمد ضيف.
ومن العار أن يبقى هذان الهاربان من العدالة طليقين. لا بد أن تسلمهما إسرائيل، أو تواجه عقوبات. وكلمات شركاء نتنياهو اليمينيين وأفعالهم في زمن الحرب، وبخاصة إيتامار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش وكبار قادة الجيش الإسرائيلي والباقين من قادة حماس تستوجب أيضا تحقيقا عاجلا من المحكمة الجنائية الدولية.
ولا بد أن يواجه نتنياهو عواقب على المستوى الداخلي أيضا. فلا بد من لجنة تحقيق مستقلة في إخفاقات السابع من أكتوبر الأمنية. والآن وقد تحقق «السلام»، لا بد من الإسراع في إنهاء محاكمة نتنياهو في قضية الفساد التي كثر تأجيلها. وليس طلب ترامب بالعفو إلا فساد عميق في ذاته.
لقد صدمت أفعال القوات الإسرائيلية في غزة الرأي العام العالمي وأضرت إلى الأبد بسمعة إسرائيل. وقد صدر الحكم العالمي بالفعل بأن القوات الإسرائيلية انتهكت عن علم وعمد القانون الإنساني الدولي (بما في ذلك معاهدة جينيف) ودأبت على ارتكاب جرائم حرب بتعمدها استهداف المدنيين.
ولو أن هذا حكم غير جائر في حق ما يسميه نتنياهو ـ بكل جدية ـ «أكثر جيوش العالم أخلاقية»، فليبدأ تحقيق خارجي مستقل عسى أن يطهر سمعة هذا الجيش. ولا بد من محاسبة حماس على جرائمها أيضا.
من الصعب تعقب جميع الأعمال الوحشية، ناهيكم بمقاضاة المسؤولين عنها. في مارس، تم إعدام خمسة عشر من المسعفين وعمال الإنقاذ الفلسطينيين بحسب الأمم المتحدة. وفي أبريل، لقيت المصورة الصحفية فاطمة حسونة وستة من أفراد عائلتها مصرعهم في غارة جوية على منزلهم في مدينة غزة. وفي يونيو، تعرض مدنيون كانوا يبحثون عن مساعدات غذائية لإطلاق النار في واحدة من حوادث عديدة مماثلة. وما هذه غير ثلاث حالات حديثة من جرائم الحرب المزعومة التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي، وقد اختيرت عشوائيا.
إسرائيل متهمة من الأمم المتحدة وحكومات كثيرة وجماعات حقوق إنسان وأساتذة قانون و«محاكم شعبية» غير رسمية بارتكاب إبادة جماعية في غزة، وهي تنكر هذا. وبموجب بعض التعريفات القانونية ـ من قبيل استعمال الغذاء سلاحا والترحيل القسري ـ لا تزال «أعمال الإبادة الجماعية» مستمرة على الرغم من وقف إطلاق النار. وبعد أن طعنت جنوب أفريقيا ودول أخرى في تصرفات إسرائيل، تبين لمحكمة العدل الدولية في يناير وجود خطر واضح للإبادة الجماعية. ومع ذلك، قد لا يصدر حكم نهائي إلا في عام 2028. وهذا تأخير غير مقبول ـ وعلى أي حال، لا تستطيع المحكمة إنفاذ قراراتها.
الأمر اللازم بصفة عاجلة الآن هو محكمة جنائية دولية لغزة برعاية الأمم المتحدة، على غرار المحاكم التي أُنشئت في يوغوسلافيا السابقة ورواندا. ويجب منح هذه المحكمة صلاحية فحص جميع جوانب سلوك إسرائيل وحماس في الحرب، وبخاصة استهانتهما المشتركة بحياة المدنيين وقيامهما بالقتل والتعذيب وإساءة معاملة الرهائن والمعتقلين.
ينبغي لهذه المحكمة، التي تكمل عمل المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية، أن تنظر أيضا في عملية صنع القرار السياسي خلال الحرب، وما إذا كانت أطراف ثالثة من قبيل الولايات المتحدة وإيران، اللتين قدمتا الدعم والمساعدة للطرفين المتحاربين، تتحمل مسؤولية عن العواقب غير القانونية. كما يجب تقييم مسؤولية دول من قبيل المملكة المتحدة التي سلّحت الجيش الإسرائيلي. وللبدء في هذه العملية، يجب فتح جميع مناطق غزة فورًا أمام محققي الأمم المتحدة والصحفيين الدوليين.
إن إنشاء محكمة دولية تتمتع بسلطة معاقبة الجناة وتعويض الضحايا هو العلاج الضروري للفظائع المروعة التي شهدتها غزة. والأمر لا يتعلق بالانتقام، وإنما بالعدالة والإرادة السياسية. صحيح أنه ليس بوسع محكمة أن تغير ما حدث، لكنها تستطيع أن تضمن عدم تكراره. وإلى أن يكتمل إجراء تحقيق شامل ونزيه، لن تنتهي الحرب حقا.