مصير الإمبراطوريات
الثلاثاء / 5 / جمادى الأولى / 1447 هـ - 19:09 - الثلاثاء 28 أكتوبر 2025 19:09
قرأت قبل أيام مقالًا للباحث يوهان نوربرج في صحيفة واشنطن بوست - نقلت خلاصته بعض المواقع الإخبارية ومنها الجزيرة نت ــ تناول فيه مصير الإمبراطوريات العظمى وسرّ سقوطها. المقال يناقش الأسباب الكامنة وراء انهيار الإمبراطوريات العظمى وأسبابها، تحدث الكاتب فيه عن الأسباب الخارجية لسقوط الإمبراطوريات كالحروب والأوبئة والكوارث باعتبارها أسباب الانهيار، لكنه ركز بشكل أكبر على العوامل والأسباب الداخلية التي كانت السبب الحقيقي وراء انهيار معظم تلك الإمبراطوريات كالصراع على السلطة وتفكك الوحدة الوطنية، وتآكل الثقة في مؤسسات الدولة، والانحلال الأخلاقي، ويقارن نوربرج في مقاله بين ما حدث في الإمبراطورية الرومانية التي انهارت بفعل الانقسام والفساد، وبين ما تشهده الولايات المتحدة اليوم من انقسامات حادّة وتراجع في منظومة القيم الغربية، ليصل إلى نتيجة واحدة: إن أخطر ما يواجه الأمم ليس الغزو الخارجي، بل هو التفكك الداخلي الذي يؤدي إلى الانهيار والتلاشي.
ما أشار إليه يوهان نوربرج في مقاله ليس بجديد على الباحثين والمؤرخين لمسارات الحضارات، لكنه يعيد طرحه في توقيت تتشابه فيه المقدمات مع النهايات التي شهدها التاريخ من قبل، فمقارنته الحضارة الرومانية بالحضارة الأمريكية الحديثة تبدو لافتة، لا من حيث الشكل السياسي فحسب، بل في البنية الثقافية والاجتماعية التي تُظهر أن التشابه بينهما يتجاوز الصدفة إلى قانون التاريخ الذي يعيد نفسه متى تكررت الظروف نفسها، فالولايات المتحدة التي ستحتفل قريبًا بمرور قرنين ونصف القرن على تأسيسها، تعيش لحظة مراجعة عميقة في ظل انقسامات سياسية حادة، وتراجع في التسامح مع الآخر، وتنامٍ للخطاب المتشدد، إلى جانب أزمات اقتصادية واهتزاز في منظومة القيم والدين -كما أشار إليها الكاتب في مقاله- وهي الأسباب نفسها التي سبقت انهيار الإمبراطوريات القديمة.
التاريخ كتاب مفتوح، يمكن للمرء أن يقرأ صفحاته متى شاء، وأن يستعيد منه الوقائع والأحداث بيسر، لكن استخلاص العبر منه هو ما ظلّ صعبًا على كثير من الأمم والحضارات، فالأحداث التي وقعت في الماضي للدول العظمى والإمبراطوريات الكبرى تتكرر اليوم بالسيناريوهات ذاتها تقريبًا، وكأن البشرية لا تتعلّم من تجاربها، ولا تحفظ من التاريخ سوى مظاهره لا جوهره، فالحضارات لا تسقط فجأة، بل تتآكل من الداخل ببطء، حين يضعف نسيجها الأخلاقي، وتتصدع منظومتها الفكرية، وتفقد قدرتها على الإصلاح الذاتي. عندها يصبح سقوطها مسألة وقت لا أكثر، تمامًا كما حدث للرومان قبل ألفي عام، وكما قد يحدث لغيرهم حين يغريهم مجد القوة عن مواجهة هشاشتهم من الداخل.
ما من إمبراطورية وجدت إلا وكان شأنها أن تزول، هكذا تقول سنة الكون وتلك هي خلاصة التاريخ التي أجمع عليها المؤرخون منذ القدم، فقيام الأمم وسقوطها سنة كونية لا تستثني أحدًا، تشبه في مسارها دورة حياة الإنسان يولد صغيرًا، يقوى ويزدهر، ثم يشيخ ويضعف حتى يفنى، ليُفسح المجال لغيره من بعده. وهكذا هي الإمبراطوريات، تبدأ فكرة ثم دولة، ثم قوة طاغية، قبل أن ينهكها الزمن أو يُسقطها غرورها. وهكذا هي أيضا أعمار الإمبراطوريات تختلف باختلاف نظمها وقيمها ومقدار ما تمتلكه من وعيٍ حضاريّ. فإمبراطورية الإسكندر المقدوني ونابليون لم تدم سوى بضع سنين، فيما امتد عمر إمبراطوريتي الأنكا والأزتك قرنًا ونيفًا، وبلغت الإمبراطورية العثمانية ستة قرون، بينما عاشت الرومانية قرونًا خمسة، وتجاوزت البيزنطية الألف، وبلغت الإمبراطوريات الصينية نحو ألفي عام. ومع ذلك، لم تنجُ واحدة منها من النهاية المحتومة، مهما طال بها الزمن أو بلغت من القوة. ويؤكد التاريخ أن القوة مهما اشتدت، إذا انفصلت عن القيم والعدل والمعنى، تصبح عبئًا على أصحابها، تمهد لانهيارهم. فالخلود لا يكون في عظمة الجيوش، بل في دوام الفكرة التي تحفظ روح الأمة من الفناء.
في عمري الخمسيني، شهدت بعضًا من انهيارات الدول والإمبراطوريات، منها ما كان عظيمًا يهتز له العالم، ومنها ما مرّ بصمت حتى لم يذكر اسمه في خرائط التاريخ. كما شهدتُ صعود دولٍ لم تكن تُعرف بالأمس، فإذا بها تصنع لنفسها مكانًا ومقعدًا بين الكبار. رأيت الغطرسة تطيح ببعض القوى، ورأيت الهشاشة تُنهي أخرى، ووقفت متأملًا أمام هذا المشهد المتكرر من قيامٍ وزوال الأمم وكأن التاريخ يعيد دورته الأبدية في كل جيل.
أعترف أنني جئت في لحظة صغيرة من لحظات التاريخ البشري، لكنها لحظة فارقة تغيّر فيها وجه العالم على نحو لم يعرفه من قبل؛ تبدلت الخرائط، وتبدّلت معها موازين القوى، وتحوّل الإنسان من عصر الصناعة إلى عصر التقنية، ومن هيمنة الجغرافيا إلى سلطة المعلومة. ومع كل هذا التحوّل المذهل، ما زلت أؤمن أن المشهد لن يتوقف هنا، وأن ما قرأناه عن أفول الحضارات سنشهده بأعيننا في صور جديدة. فالدول مثل البشر، تولد وتنمو وتشيخ وتموت، وبعضها يُدرك لحظة ضعفه فيتجدد، وبعضها يُعاند فينهار. تلك هي سنة الكون التي لا تستثني أحدًا، وسرّ الحياة التي تمضي غير آبهة بمن سقط أو بمن سيقوم من بعده.