«حياة كاملة» .. مُحترَفاتُ الكتابةِ والذخائرُ المُعطَّلة!
الأربعاء / 6 / جمادى الأولى / 1447 هـ - 10:01 - الأربعاء 29 أكتوبر 2025 10:01
هدى حمد -
في أغسطس 2024، تلقيتُ اتصالًا من الصديقة العزيزة أزهار أحمد، مديرة النادي الثقافي، تخبرني فيه عن وصول عدد من الأعمال الروائية إلى النادي بُغية النشر، لكنها أعمالٌ تعوزها المعالجة الدقيقة والمكثفة. ثمّ سألتني إن كنتُ متحمسة لخوض تجربة من هذا النوع.
ورغم أنّي قدّمتُ بعض ورش الكتابة في سياقٍ تنظيري، إلا أنّ قرارًا من هذا النوع بدا لي محفوفًا بالهواجس؛ فالمغاير في هذه الممارسة أنّها تتحرّك داخل حيوية النصوص -على اختلاف مواضيعها وتقنياتها- منذ لحظتها الأولى وحتى اللحظة التي يُدفع بها إلى النشر. مردُّ مخاوفي الأولى كامنٌ في أن يتسرّب شيءٌ من علاقتي الشخصية بالكتابة إلى أعمالهم، أو أن ينعكس ذوقي ونمط قراءاتي، أو ما أزعم أنّه «الكتابة الأصيلة» في نسيجهم الطري.
على الضفّة الأخرى من نهر الشكوك، لم أكن أمتلكُ يقينًا جازمًا إزاء ماهيّة الكتابة الأصيلة نفسها؛ فهي -لي على الأقل- وعيٌ متحوّل، يتبدّل بتبدّل القراءات، أو شأنٌ غير نمطي، غير مُحدّد، عصيّ على القبض لشدة رهافته وحساسيته من جهة، وما يكتنفه من مشقّة من جهة أخرى. ولطالما كنتُ أميل إلى الآراء التي تُقوِّض امتلاك أيٍّ منّا لجوهر الكتابة، أو الآراء التي ترى في ادعاء تعليمها للآخرين محض زيف، فلا أدلَّ على ذلك من تأمل أنماط اشتغال الروائيين وما تركوه لنا من ثراء أدبي يكشفُ بوضوح تمايز طقوسهم ورؤاهم، واختلاف زوايا نظرهم في هذا الفعل المُعقّد. فإذا كان الروائي الياباني كازو إيشيغورو لا يقترب من الكتابة إلا حين تنضج خطته المُحكمة عمّا سيكتب، فإنّ بول أوستر -على نقيضه- يبدأ نصوصه من جملة أولى يتيمة، يشقُّ بها طريقه خطوةً خطوة نحو الجملة الأخيرة.
ثمّ قلتُ في نفسي آنذاك: هل ثمّة ما تغيّر في الوعي العام؟ فلقد شاركتُ في مُحترَف نجوى بركات لكتابة الرواية عام 2014، وقد تمخّض عن المُحترَف روايتي «التي تعدّ السلالم» جوار أعمال أخرى من الوطن العربي، وقتها شعرتُ بنبرة لوم خفيّة من الكُتّاب الأصدقاء مردّها ذلك السؤال القديم المُتجدّد: «هل يُمكننا حقًّا تعلم الكتابة؟». كان ذلك السؤال مقبولًا آنذاك، فلقد تغذينا والأجيال التي سبقتنا على نظرة مُتصلّبة تُغلّف الكتابة بهالة الفردانية المُطلقة، تلك التي لا تنكشف إلا أمام آلة المطبعة الصمّاء.. إلا أنّ الأمر تغير كثيرًا في السنوات الأخيرة.
بعد طول تفكير، قلتُ في نفسي: ولمَ لا؟ فلستُ بصدد اكتشاف تجارب الآخرين وحسب، بل لعلّي أكتشفُ شيئا عن نفسي أكثرَ من أي وقتٍ مضى.
«حياة كاملة».. هكذا انقدح في ذهني اسم الورشة حين سألتني أزهار أحمد عنه، وهو كما نعلم عنوان رواية شهيرة للروائي النمساوي روبرت زيتالر. فالعمل الروائي، في جوهره، يتشرنقُ حتى تكتمل دورته شديدة الدقة والإيحاء، ثمّ يشقُّ قشرته الرقيقة، فيلتقي بالقراء اللانهائيين، ليحيا حيوات لا محدودة مجددًا.
وجدتُ نفسي أمام عدّة مسوّدات. بعض أصحابها آثروا الانسحاب باكرًا، فيما واصل خمسةٌ منهم خوض التجربة حتى نهايتها. أدركتُ باكرًا ضرورة خلق مساحة آمنة وحميمية، تُخفّف من وحشة انكشاف عوالمنا أمام الآخرين. كنتُ أعلم أنّ الأمر لن يكون يسيرًا عليهم وعليّ أيضا: أن نجلس جميعًا حول طاولة واحدة، وأن نتحدث عن أفكارنا، وأن يتلقى أحدنا سهام النقد -تلك التي قد تكون جارحة- خصوصًا إذا لم يختبر أحدنا مثل هذا من قبل.
وفي الحقيقة، الأعمال الخمسة التي صمدت حتى النهاية، كشفت عن تنوّع ثري في مواضيعها وأساليبها. فقد تنقّلت بين مخاضات السياسة وأوجاعها العربية، حيث لا ملاذ للحرية أوسعُ من مقهى سحري كما في رواية «مقهى الغُرباء» لأحمد المقبالي، إلى استدعاء نمط من العيش الاجتماعي في تناقضاته العارمة بين عُمان وشرق أفريقيا في منتصف القرن الماضي كما في رواية «المستظلُّون بالحُلْم» لسالمة الراسبية. ومنها ما اقترب من الميثولوجيا العُمانية أو حكايات التراث الشفهي القديم، كما في «كرَّاس سلمى» لشريفة الرحبية، و«جْرِيبا» لوفاء المصلحية، إذ حاولت الكاتبتان ألّا تتورطا في فخّ الخرافة بقدر ما تبتغيان بناء ديناميكية جديدة في ثناياها. ثم رواية «مناجِل» لفاطمة العجمية، التي جعلت من مرض الخلايا المَنْجلية بطلًا مُحمّلًا بالهواجس الإنسانية.
وأكاد أجزم أنّ العصف الذهني الجماعي هو الذي أوقد شرارة هذه النصوص ووسّع آفاقها. فقد تحدّثوا مرارًا عن صعوبة تخيّل المكان والشخصيات، فلجأنا إلى حيلٍ بدت بسيطة وعميقة في آن: ماذا لو جلبنا أشخاصًا نعرفهم، أو طِباعًا صادفناها في حقل الحياة الواسع، أو أمكنة جرّبنا العيش فيها، كي تتحرّك الشخصيات في فضاء أكثر واقعية داخل رؤوسهم، حتى وإن خرجت النصوص في أطُرٍ فنتازية؟ كنتُ في خضمّ ذلك، أميل إلى ما وصفه الكاتب البيروفي ماريو فارغاس يوسا: «أصلُ كلّ القصص ينبع من ذكريات مَن يخترعها».
انشغلنا طويلًا بالحديث عن اللغة، رأسمال الكاتب الأثمن، وقد بدت لي في عموم الأعمال جافّة، تقريرية، تمضي مباشرةً إلى مقاصدها دون أن تُشحَن بجرعة التأمّل أو بانتباهٍ واعٍ إلى الوصف المتأنّي. فقلنا: ماذا لو تغلّبنا على هذه الجمل المجرّدة بأن ننظر إلى الأشياء والأحداث وكأنّها لقطة سينمائية بطيئة، تمنحُ التفاصيل ما تحتاجه من شعورٍ، وما يليق به من حيوية. تساءلنا أيضا: ماذا أيضا لو كان المجاز والخيال والاستعارات أكثر من مجرد ذخائرَ مُعطَّلة!
كان لزامًا علينا أن نتعلّم نصب الفِخاخ لاصطياد الكتابة؛ فما من نصّ يُولد من فراغ، وما من إبداع يتشكّل بلا أدوات تُعينه على الظهور. فماذا لو تحايلنا على جفاف بئر الأفكار بالقراءة، أو بمشاهدة الأفلام، أو بالنظر مليًّا في اللوحات، أو بالإنصات إلى الموسيقى، أو بمحادثة البشر المقرّبين والغرباء على حد سواء، أو بتسجيل ملاحظاتنا اليومية، أو حتى بالذهاب إلى بيت العزلة، من أجل الإصغاء إلى اللغة الخفيّة.
ثم قلتُ في نفسي: لو استطعنا، خلال هذا الزمن القصير نسبيًّا -في حدود عام- وبكل ما أتاحته لنا اللقاءات في أروقة النادي الثقافي أو عبر برامج التقنية الحديثة، أن نُحرّض الأسئلة تجاه ما نكتب وتجاه ما نقرأ، لأيقنتُ أنّنا أصبنا شيئا ما. على الأقل زحزحة اليقين الجاهز، ودحرجة صخرة سيزيف؛ لا لإثارة جرعة الإحباط، بل لكي تُضاء التجربة، وتشع إمكاناتها في الأعمال التي ستأتي لاحقًا، فما سيأتي هو جوهر الأمر، ومحطّ الرهان الأصيل.. أكثر، ربما، من العمل الذي بين أيدينا.
تتباين آراء الروائيين تباينًا واسعًا بشأن ورش الكتابة الإبداعية في الشرق والغرب، الروائي الجزائري أمين الزاوي على سبيل المثال يرى أنّ الكتابة تُقيم خارج مسطرة التعلّم، بينما يحاول العالم المعلَّب اليوم أن يُدخلها إلى دائرة التصنيع، واصفًا ذلك بأنه «أكبر كذبةٍ أدبيةٍ صدّقها الكتّاب الحالمون الصاعدون». في المقابل، يُخرج الروائي المصري محمد عبد النبي الكتابة من الإطار الغيبيّ غير الملموس بوصفها وحيًا أو إلهامًا، إلى منطقة يمكن التعامل معها بالالتزام والانضباط. أمّا الكاتبة الأمريكية إليف باتومان، فقد كتبت في مقالٍ لها عام 2010 في London Review of Books ، بأنّ ورش الكتابة أكثر انعزالية، إذ تدفع إلى قراءة محدودة للكتب، وترى باتومان بأنّ قواعد الكتابة قد ترسّخت في هذه الورش إلى درجةٍ لم تعد تُساءل فيها اليوم!
ويرى الروائي الإريتري حجي جابر أنّ القول بأنّ ورش الكتابة لا تصنع مبدعًا قولٌ سليم، إذا نظرنا إلى الأمر بوصفه خطّ إنتاجٍ مصنعيٍّ، تدخل مواده الخام من جانب وتخرج مكتملة من الجانب الآخر. غير أنّ ذلك لا يمنع أن تكون الورش منطقة اختبارٍ وفحصٍ أيضا، قبل أن تكون مكانًا لتخريج الروائيين. ويشير حجي إلى أنّ أساليب التسويق لهذه الورش مُستفزّة، إذ تميل إلى محاكاة أساليب دورات التنمية الذاتية التي تعد بالخوارق. ويضيف: «وبينما لم نحسم رأينا في هذه القضية، فإنّ العالم قد تجاوزنا، فها هو يُدرّس الكتابة الأدبية في المعاهد والجامعات».
لطالما طُرح هذا السؤال: هل يُولد بعضنا مُصابًا بعلّة الكتابة فلا يجد شفاءه خارجها؟ هل تَحوُّلُنا إلى كُتّابٍ هو ثمرة المصادفات القدرية وضربات الحظ والجينات الوراثية، أو نتيجة استعدادٍ فطريّ تُوِّج بمخيّلةٍ خصبة؟ ولعليّ أقابل السؤال بآخر: كم من أشخاصٍ عبَروا حياتنا امتلكوا اللغة والخيال الساحر والحيل السردية، لكنهم انطفأوا وانسحبوا لانطواء شاحب، حين لم يمنحوا فعل الكتابة -الأنانية بطبعها- مُبتغاها. فالكتابة مشروع لا يكبر إلا بالدأب والممارسة، ولذلك فالرهان ليس على ما نمتلكه ابتداءً، بل على ما نُغذيه كي يستمر؛ ذاك العذاب الرقيق الذي لا يعرفه إلا من اختبره. أما «الإلهام» فهو مسألة عصيّة على القياس، على نقيض «التعلّم» الذي تتيحه لنا التجارب. وكما يقول همنغواي: «لا يولد الإنسان متمتعًا بالمعرفة، لكنه يولد مفطورًا على التعلّم بصورة أسرع من غيره، يُذهلُ بالكلمات كأنّه يقرأها لأول مرة».
ربما لا نستطيع التدليل على جودة هذه الأعمال الروائية المشاركة في محترف «حياة كاملة»، غير أنّ ما نستطيع تأكيده أنّها من نسخة إلى أخرى كانت تُظهر تحولًا: لغة تتبلور، وشخصيات تنمو، وحبكة تمضي نحو مزيد من التماسك قياسًا بالمسوّدات الأولى.. مع احتفاظ كلٍّ كاتب منهم بسماته الخاصة، ولغته وأسلوبه وطرائقه في الوصف وتقنياته -وإن خالفت ذوقنا الشخصي- ليبقى لكل عمل بصمته.
وكان ذلك مؤشّرًا حيًّا على حيوية الاشتغال الجاد. فالتقنية الحديثة -على ما تتيحه من منافذ وفرص- لا تُغني عن الحاجة الماسّة إلى إنعاش عضلة التفكير في الكتابة؛ والممارسة الفردية -على أهميتها- تظلّ قاصرة عن أن تمنح الكاتب الشاب احتكاكًا بأنماط أخرى من الرؤى، أو تضعه في مواجهة الأسئلة التي توسّع مداركه وتعينه على إعادة اكتشاف صوته.
«هل عليّ أن أكتب؟ اسأل نفسك. إن استطعتَ أن تعيش بلا كتابة، فاتركها وابحث لك عن ملاذٍ آخر. ولكن، إن لم تستطع أن تجد نفسك في مكانٍ سواها، فعدْ إليها. اكتب عمّا ترى وتعيش وتحب وتكره» هكذا أوصى ريلكه الشاعر الشاب، وأكاد أجزم بأنّنا نمتلك حياةً وتجارب قادرة على أن تقترح علينا نظرة مُغايرة حول جوهر غايتنا من الكتابة: بين ما يجعلها أصيلة وفارقة، أو ما يجعلها دون أثر يذكر!
من الجيّد أن نصنع لأنفسنا مكابح تُعيننا على التروي، فالكتابة عمل شاقّ، وليست كما تبدو من الخارج مجرد «حكي» مُفرغ من ذلك الدأب المضني. ولذا كان أكثر ما يُقلقني من هذه التجربة: «التوقعات العالية»؛ سواء من الشباب المتقدّمين إلى المُحترَف، أو من القرّاء الذين سيأتون لاحقًا، لإيماني بأنّ مُحترَفات الكتابة لن تجعل الكتابة مثالية بالضرورة.. إنّ أكثر ما يمكن أن تفعله هو إعادة التفكير في الذخائر المُعطَّلة.
ومن منظور بسيط، ليس ثمّة مُحترَف -مهما بلغت جدّته- قادرًا على أن يبعث الكاتب الخامد فينا، ما لم يتغذَّ على سؤالٍ عميق وتأمّل لديناميكية الحياة وما يعتمل فيها. فالكتابة لا تنهضُ بالموهبة والممارسة وحدهما، بل من تدفق شعورٍ مُزلزل بأنّ معنى وجودنا يتبدّد خارج معملها.
الكتابة -في نظري- شأنٌ قابل للتعلّم والتطوير والرهان، متى اجتمعت الموهبة مع الدأب والحساسية تجاه العالم والأسئلة والتوق الفردي. وأحبّ دائمًا في هذا الشأن أن أستعيد نصيحة مُحترَف غومبروفيتش: «عربة الكتابة تُربط بحصانين: حصانٍ بريٍّ يُدعى النشوة، وحصانٍ مُروّضٍ يُدعى الإدراك».
هدى حمد كاتبة وروائية عُمانية