من الورق إلى الشاشة: تأملات حول الأدب والسينما
الأربعاء / 6 / جمادى الأولى / 1447 هـ - 10:01 - الأربعاء 29 أكتوبر 2025 10:01
د.سعد البازعي -
بين الأدب والسينما علاقة قربى واحتياج، في كل منهما شبه بالآخر ولدى كل منهما حاجة إلى الآخر. تستمد السينما قدرًا لا بأس به من مادتها وقيمتها من الأدب القصصي والمسرحي، ويوظف الأدب بعض سمات السينما في الاعتماد على الصورة واللقطة حينما يحتاجها، من ناحية أخرى، للوصول إلى قطاعات يصعب عليه الوصول إليها بدون تلك الصلة. قيل عن المسرح أنه «أبو الفنون» وأنا أقول عن السينما إنها «أم الفنون». في الفيلم تجتمع الفنون على الشاشة مثلما تجتمع على خشبة المسرح، وفي ظني أن وصف السينما بأم الفنون أدق من وصفها بالفن السابع، فهي وإن كانت فنًا سابعًا بمعنى أنها أضيفت إلى فنون سابقة، فإن احتوائها على الفنون الأخرى: النص، والموسيقى، والمشهد، والتشكيل، وغيرها أهم وأكثر إيضاحًا لطبيعتها.
تلك الصلة بين الأدب الروائي بصفة خاصة والسينما اقترحت على ناقد السينما والرواية اللبناني إبراهيم العريس في كتابه «من الرواية إلى الشاشة» (دمشق، 2010) توظيف مصطلح يبرز اتصال الفنين بعضهما ببعض وهو «أفلمة» القصة والمسرحية. تلك الأفلمة أود أن أضيف إليها مصطلحًا آخر قد يكون ثقيلًا لكن العلاقة تستدعيه وهو «تأديب» الأفلام، التأديب بمعنى الامتزاج بالأدب، وإن لم أستبعد المعنى الآخر للتأديب تمامًا إذا تذكرنا اكتساح الرداءة بعض الأفلام.
من زاوية مختلفة يتناول ناقد هندي تلك العلاقة ملخصًا بعض الدراسات حول الموضوع فيقول: إن هناك ثلاثة مستويات لتلك العلاقة التي يسميها العريس «أفلمة» ويطلق عليها الناقد الهندي المفردة المتعارف عليها بالإنجليزية «أدابتيشن» أو تكييف «adaptation»:
1. التكييف الحرفي: حين يلتزم المخرج بنص العمل الأدبي ما أمكنه ذلك، والمثال تحويل شركة بي بي سي لمسرحيات شكسبير.
2. التكييف التقليدي: الذي يلتزم فيه المخرج أيضا بالنص مع إحداث تعديلات تناسب الجانب التصويري في السينما، ومثال ذلك تحويل رواية غارسيا ماركيز «الحب في زمن الكوليرا» حيث أعيد إنتاج التفاصيل مع بعض الاستثناءات.
3. وأخيرًا التكييف المتطرف: الذي يجري فيه المخرج تعديلات كبيرة وواضحة على القصة تبرز سينمائية العمل على حساب طبيعة السرد الروائي.
العمل الذي يتناوله الناقد الهندي هو فيلم ورواية «اللون الأرجواني» «Color Purple»، الرواية للأمريكية أليس ووكر والفيلم لستيفن سبيلبرغ، الرواية صدرت عام 1982 والفيلم عام 1985، وكلاهما من الكلاسيكيات، كل في فنه. يرى الناقد الهندي أن تناول سبيلبرغ تقليدي بمعنى أنه ظل وفيًا للنص وإن أجرى بعض التعديل الذي لم يكن منه بد، هذا إلى جانب ما يحدثه التمثيل وقدرات الممثلين من أثر لا تحدثه الرواية (براغاتي شوكلا: «ترجمة الأدب إلى صور بصرية: من الرواية إلى الفيلم»
ضمن دراسته يقدم الناقد الهندي ملاحظة مهمة تبرز الاختلاف بين الرواية تحديدًا والفيلم، وهي أن قارئ الرواية يتخيل تفاصيل يصعب على الكاتب ملؤها، في حين أن الفيلم لا يترك مجالًا لذلك التخيل، فالتفاصيل ماثلة أمامه، ومع أن هذا يبدو منطبقًا في كثير من الحالات إلا أن تعميمه صعب، فمن الروايات ما يملأ الذهن بالتفاصيل ومن الأفلام ما يترك مجالًا للتخيل، ومن الأمثلة ما أشير إليه هنا من روايات وأفلام.
غير أن ملاحظات الناقد الهندي، مثلما هي ملاحظات إبراهيم العريس، مهمة بالنسبة للموضوع ولي شخصيًا إذ أتناول موضوعًا كهذا، ذلك أنني لست متخصصًا في نقد السينما وإن كنت من مشاهديها بل المعنيين بها إلى حد الكتابة في الموضوع، ففي اثنين من كتبي («سرد المدن: مقالات في الرواية والسينما»، 2009، و«سؤال المعنى في الأماكن والفنون»، 2021) مقالات حول السينما، ومع أن محور تلك المقالات لم يكن علاقتها بالأدب كما في حديثي اليوم، فإن مشاهدتي وما كتبت حملا بالضرورة ما نشأت عليه في دراسة الأدب، فالأرجح أنني حمّلت السينما حمولات سردية أو مسرحية جئت بها من قاعات الدرس والقراءة تلميذًا ثم معلمًا. وإذا كان التعليم مسارًا مختارًا لبعضنا، مسارًا مهنيًا، فإن التلمذة تبقى هي الأساس والسمة ونسغ الحياة لمحبي المعرفة ومتذوقي الفنون. في كل مرة أكتب مقالة أو أؤلف كتابًا أو أترجم نصًا أجد نفسي مرة أخرى في مقعد التلميذ المتعلم، وآخرها أثناء إعدادي لهذه التأملات، فقد عدت إلى كتب وقرأت نصوصًا وشاهدت مقاطع تعلمت منها الكثير في مجال كنت أظنني أعرفه بعد أن كتبت حوله العديد من المقالات وقرأت حوله بعض الدراسات لأكتشف من جديد حاجتي المستمرة إلى التعلم.
هذا مع أن الصلة بين الأدب والسينما ليست مما يحتاج إلى علم كثير لكي تتضح، فالأفلام تعلن أحيانا كثيرة أنها تأسست على هذه القصة أو بنيت على تلك المسرحية، ومن يقرأ الأعمال السردية والمسرحية يدرك، أو عليه أن يدرك، أنه أمام عرض يتكئ على المَشاهد ويستدعي القدرات البصرية، إما مباشرة كما في المسرح، أو في المخيلة كما في الأعمال السردية طويلة كانت أم قصيرة. ولذلك يكون الحديث حول الموضوع ضربًا من التجوال في البدهيات، لكنه سيكون حديثًا هشًا إن هو توقف عند البدهي أو المتعارف عليه. وكثير من معرفتنا في حقيقة الأمر تقف عند تلك الحدود. نشاهد السينما وقلّ من يتساءل عن أصل الفيلم أو كيفية تحوله من نص مكتوب إلى مشاهد. وإذا كان هذا أمرًا طبيعيًا، لأنه ليس بمقدور كل مشاهد أو قارئ تحليل كل ما يرى ويسمع، فإن تجربة التحليل حين ينهض بها المرء كثيرًا ما تضيف إلى معارفنا معارف ومتعًا خاصة بها. ذلك أن النقد أدبيًا كان أو سينمائيًا عالم آخر يضج بما لذ وطاب، وإن شابه أحيانًا بعض القلق والخيبة، لاسيما حين لا ترقى النصوص أو المشاهد إلى التوقعات. النقد هو طريق الأدب والسينما لترك أثر عميق لدى القارئ أو المشاهد، فهو يفتح نوافذ لا تتاح لمن لا يملك أدوات النقد أو بصيرته.
في حديثي التالي سأعرض لأعمال يلتقي فيها الأدب بالسينما سعيًا من كليهما للوصول إلى متلقين قد لا يكون من السهل على أيهما الوصول إليه منفردًا ومن ثم ترك أثر لدى أولئك المتلقين. هي أعمال تعد من النماذج المميزة في إظهار أهم وأجمل ما في ذلكما الحيزين الكبيرين من عالم الفنون.
أشير ابتداءً إلى فيلم مصري تأسس على رواية مصرية أيضًا، واسترعى انتباهي ما انطوى عليه ذلك التأسيس من التباس أو إشكال. الفيلم هو «الكيت كات» للمخرج داوود عبدالسلام وبطولة محمود عبدالعزيز وآخرون. الفيلم يعد بما يشبه الإجماع من أفضل ما أنتجته السينما المصرية في العقود الثلاثة الأخيرة، أي منذ عُرض عام 1991، وهو فيلم تأسس على رواية للكاتب المصري إبراهيم أصلان عنوانها «مالك الحزين» صدرت عام 1983. النجاح المدوي للفيلم سواء على مستوى الجماهير وعائدات الشباك أو في رأي النقاد، وهو اتفاق لا يتكرر كثيرًا، سلط الضوء على العلاقة بين الفيلم والرواية. التغيير كبير، وحين سُئل أصلان الذي توفي عام 2012 تحدث عن الفرق وأنه انزعج في البدء من ذلك الفرق وما أصاب روايته من تحوير، لكنه يقول إنه تقبل التحوير فيما بعد لأنه أدرك كما يقول: «إن العلاقة الصحيحة بين العمل الأدبي والعمل السينمائي لا تقاس بمدى التماثل بينهما وإنما بمدى عمق التعبير السينمائي عن مضمون وأجواء العمل الأدبي».(1) بعيدًا عن الاختلافات الفنية التي لا بد منها بين رواية وفيلم، فإن بعض التحوير الذي أزعج أصلان في البداية مسّ أمورًا جوهرية وبعضها أقل من ذلك. من الأمور الجوهرية الأمور السياسية، ففي الرواية احتجاج سياسي ألغاه الفيلم، وكان هذا مما أزعج أصلان لكنه تقبله على مضض فيما يبدو، فقد أبقى العمل مؤثرًا لكنه نقله من منطقة تأثير إلى أخرى.
في فيلم «الكيت كات»، وهو اسم منطقة شعبية في القاهرة، يلعب الشيخ حسني (محمود عبدالعزيز) دورًا محوريًا في الحارة التي يسكنها، فهو كفيف ويتاجر بالعقار ويتعاطى الحشيش ويحب المتعة بصورها المختلفة على ما في مظهره من وقار يدل عليه وصفه بالشيخ. ابنه يوسف شاب يبحث عن عمل ويعيش حالة ضياع وتسكع: يشبه أباه في علاقاته النسائية وحبه للمتعة، ومن هنا فإن الفيلم يظهر علاقتهما وهي تتجاوز علاقة الأب بالابن ليكونا أشبه بالصديقين، في حين أنهما متباعدان في الرواية، فالشيخ حسني في الرواية كفيف فعلًا لكنه ليس أبًا ليوسف، بل إنه شخصية ثانوية، وكما لاحظ بعض النقاد فإن الرواية تخلو من شخصية رئيسية أو بطولة. الشاب يوسف يحتل مكانة مرموقة في الرواية لكنه ليس بطلها، ومن وجوه أهميته أنه يتيح لأصلان التعبير عن مواقفه السياسية ورفضه للظلم والعنف، الجانب الذي يهمشه الفيلم حين يجعل يوسف شابًا يبحث عن عمل ويفكر في الذهاب إلى السعودية. نحن إذا أمام أنموذج للتكييف أو الأفلمة المتطرفة حسب تصنيف الناقد الهندي الذي أشرت إليه مطلع هذا الحديث.
ما أود التوقف عنده هنا أو في علاقات أخرى بين الأدب والسينما هو ذلك التكييف المتطرف وما يتضمن من جوانب إشكالية تستدعي مقاربة تعين على معرفة الجوانب التي التقى فيها ذلكما الفنان وتلك التي افترقا فيها. سأقترح مقاربة تعين على ذلك التعرف، وهي نقد التلقي، وفي رأيي وجوه الاختلاف أهم من وجوه الشبه في هذا السياق لأنها ترينا التفرد والاستقلال في علاقة فن بآخر وعمل بعمل. الرواية، بغض النظر عن مستواها، تتجه إلى قارئ، وهو قارئ نخبوي غالبًا، بمعنى أنها لا يمكنها الوصول إلى من لا يقرأ سواء عن أمية أو عن عدم حب في القراءة، كما أنه يصعب وصولها إلى محدود الثقافة، في حين أن الفيلم المعروض في صالة سينما أو عبر واسطة أخرى كوسائط الإنترنت قادر على الوصول إلى عدد كبير من المتلقين، حتى الروايات التي تسعى للانتشار والتأثير يصعب عليها تحقيق ما يحققه فيلم يسعى أيضًا إلى الهدف ذاته، فانتشار ذاك مربوط بالقراءة بما تقتضيه من معرفة ومجهود ذهني، بينما انتشار الفيلم لا يحتاج إلى كل ذلك الجهد. ومن هنا نفهم لماذا آثر مخرج فيلم «الكيت كات» أن يغير الرواية فيجعلها أقرب إلى الجماهيرية وأسهل على التلقي بإزالة الإشكاليات التي قد يختلف حولها الناس أو تعترض عليها المؤسسات السياسية أو الاجتماعية ومن ذلك اختياره لاسم منطقة شعبية بدلًا من «مالك الحزين».
لكن عليّ أن أسارع إلى القول إن من الأفلام ما ينهض على الإشكاليات ذاتها حتى إن لم يبرزها النص، لكن تلك أقل في تقديري، ويقودنا هذا إلى مسألة في غاية الأهمية هي الجانب الاقتصادي: إنتاج رواية لا يكاد يكلف شيئًا بالقياس إلى إنتاج فيلم، وهنا نلمس فرقًا جوهريًا بين الأدب والسينما. الأدب يحتاج كاتبًا وورقًا وناشرًا، بينما الفيلم يحتاج منتجًا ومخرجًا وكاتب سيناريو وجيشًا من الممثلين والمتخصصين في الإنتاج والتسويق وفي جوانب كثيرة فنية وغير فنية، ومن ذلك بالطبع ميزانية كبيرة؛ ولذا يمكن القول إن إنتاج الأدب عمل فردي بينما إنتاج الفيلم عمل جماعي ومؤسسي، والفيلم في هذا قريب من المسرحية التي تتطلب أيضًا جهدًا كبيرًا في تحولها من نص مسرحي قريب من السيناريو إلى قصة يمثلها عدة أشخاص على خشبة يبنيها متخصصون ويعمل عليها فنيون أمام جمهور يدفع التذاكر إلخ... يبرز هذا حجم التفاوت الذي لا بد منه بين النص الأدبي والفيلم. يقول إبراهيم العريس: إن تقديم عمل أدبي سينمائي هو «ذريعة لعمل جديد، قد يكون مختلفا كليًا، إنه نوع من الاستحواذ على النص»، ويضرب لذلك مثلًا من تحويل الممثل الإنجليزي لورنس أوليفييه أو كينيث برانا مسرحية هاملت إلى فيلم سينمائي، فهما يسقطان على المسرحية أحداث عصرنا هذا، ثم يذكرنا العريس بأن شكسبير نفسه قام بعملية استحواذ حين حول حكاية شعبية هي حكاية هاملت أو الملك لير أو ماكبث إلى مسرحيات تحكي ظروف عصره هو. الفيلم أو المسرحية تحملان رؤية المخرج والممثل التي تختلف كثيرا أو قليلا عن رؤية كاتب النص.
على المستوى العربي، تبرز من الأمثلة الشهيرة في تاريخ التحول من الأدب إلى الشاشة، رواية «دعاء الكروان» لطه حسين التي حولها المخرج المصري هنري بركات إلى فيلم شهير بذات العنوان أبطالها فاتن حمامة وأحمد مظهر وأمينة رزق. يقول الناقد السينمائي المصري أمير العُمري: إن هذا العمل يعد «أحد أهم ما أنتج من أفلام عن أصول أدبية في تاريخ السينما المصرية المعاصرة» («السينما المصرية والشاشة: قصة حب»، القاهرة،2021، ص19). توفرت للفيلم، كما يقول العمري، عناصر النجاح الفني ومنها كتابة السيناريو التي تعد العمود الفقري في الانتقال من النص إلى الشاشة، فقد نجح كاتب السيناريو «في نقل الرواية من لغة الأدب إلى لغة السينما، أي من أفكار ومشاعر داخلية كثيرة، إلى مشاهد ولقطات لمواقف مرئية محددة في الفيلم». ويشير العمري في هذا السياق إلى أن الرواية «ليست من النوع الذي يزخر بالصورة مثل روايات نجيب محفوظ، بل يعتمد على البلاغة اللفظية، والاستطرادات، والاستخدام المكثف للمترادفات». الحالة اللغوية مهمة جداً في دراسة العلاقة بين الأدب والسينما. لغة الأفلام، سواء العربية أو الغربية، تقع في الغالب ما بين المبسطة والعامية، وحين تكون الأعمال الأدبية أيضاً مبسطة اللغة، كما هي روايات إبراهيم أصلان، فإن الانتقال إلى السيناريو يكون أسهل من رواية طه حسين التي تبدأ بقوله: «لم يكن يقدّر أني سألقاه قائمة باسمة حين أقبل إلىّ في ظلمة الليل يسعى كأنه الحية أو كأنه اللص، ولكنه لم يكد يبلغ باب الغرفة ويتبين شخصي ماثلاً في وسطها وعلى وجهه ابتسامة الأشباح حتى أخذه شيء من الذعر». المشكلة، كما أشار بعض نقاد «دعاء الكروان»، ومنهم المصريان محمد مندور وعلي الراعي وكذلك الناقدة الكويتية سعداء الدعاس، أن عملية التكيف السينمائية أو الأفلمة انطوت على مشكلات كثيرة منها اللغة، ومثالها تلك التي تستعملها شخصيات ريفية يجعلها طه حسين تتحدث بتمكّن كاتب مثله تخرج في الأزهر واحتوى الكثير من الثقافة العربية، فتلك اللغة ليست أصلاً مناسبة لشخصية الفتاة الأمية القروية التي تتحدث وتروي الحكاية، ناهيك عن أن تصلح لسيناريو فيلم. لذا كان لابد من إعادة الكتابة بصورة جذرية غالباً. قارن استهلال طه حسين الذي اقتبسته قبل قليل بفقرة من الصفحة الأولى من رواية أصلان: «في الحجرة الخارجية التي تطل على الوسعاية الصغيرة، أزاح البطانية عن نصفه الأسفل، وجلس على الكنبة وهو يداري ساقيه بطرف الجلباب». رواية «مالك الحزين» كتبت أيضاً بلغة فصحى لكنها وسطى أو مبسطة، لغة بيضاء كما يقال، لكنها لا تتردد في توظيف العامية بين الحين والآخر، وهو ما يصعب تصوره في كتاب لطه حسين.
أمر آخر يجب ألا يغيب عن هذه التأملات هو تحويل أعمال أدبية أجنبية إلى أفلام بلغة أخرى كتحويل روايات فرنسية إلى أفلام عربية أو روايات يابانية إلى أفلام فرنسية وهكذا. في هذا السياق تحضر تجارب مخرجين كبار مثل الياباني اكيرا كوروساوا الذي استلهم مسرحيات لشكسبير وروايات لمكسيم غوركي ودوستويفسكي. يقول إبراهيم العريس إن كوروساوا «أخذ جوهر العمل ومعانيه العميقة، مزج أسلوبه الخاص كمخرج من بيئة يابانية، بأسلوب دوستويفسكي الإنساني السمات أو أسلوب شكسبير أو غوركي، فكانت النتيجة أعمالاً لكوروساوا ولا لأحد غير كوروساوا» (من الرواية إلى الشاشة، ص9). فيلم «ران» لكوروساوا مؤسس على مسرحية «الملك لير» لشكسبير ولكن من يشاهد الفيلم يدرك أنه يشاهد فيلماً يابانياً اتكأ على المشترك بين الثقافتين اليابانية والإنجليزية مع حذف ما ليس بمشترك. يذكرنا ذلك بأننا نتحدث عن عملية ترجمة، لكنها ليست بين لغات وإنما بين فنون، أو إن شئتم بين لغات فنية متفاوتة تستل ما يراه الفنان أرضية مشتركة. ويمكن قول ذلك عن أفلام أجنبية عديدة أخرى، مثل تحويل رواية «الدكتور جيفاغو» (1957) للروسي باسترناك إلى فيلم هوليوودي، مع أن ذلك المثال يختلف من حيث إن الرواية كانت ممنوعة في الاتحاد السوفييتي الأمر الذي حتم أن يصور الفيلم في مكان آخر اختيرت له إسبانيا بدلاً من روسيا. لكن الفيلم حقق نجاحاً هائلاً لم تحققه الرواية نفسها. بل إن باسترناك نفسه حقق نجاحاً في الغرب بمنحه جائزة نوبل بعد صدور روايته بسنة واحدة (وإن كان قد منع من استلامها بل وأرغم على رفضها من قبل السلطات السوفييتية)، وفوز الفيلم بجوائز عديدة.
هذا والأمثلة كثيرة والنقاش يطول، لكني أؤثر أن أتوقف هنا فلعل في ما ذكرت ما يوحي بتلك الصلة الحميمة والإشكالية في الوقت نفسه التي ربطت الورق بالشاشة، أو الأدب بالسينما.
1- جريدة «الميزان» المصرية (بدون تاريخ): موقع الجريدة كيف تَقَبَّل إبراهيم أصلان اختلاف فيلم الكيت كات عن أحداث رواية مالك الحزين.
د. سعد البازعي مترجم وناقد سعودي