الذكاء والغباء
السبت / 2 / جمادى الأولى / 1447 هـ - 21:26 - السبت 25 أكتوبر 2025 21:26
هل يستدعي مستقبل الذكاء الاصطناعي نسبة من الاستغباء البشري؟
تناقلت وسائل الإعلام الأسبوع الماضي دراسة نشرتها مجلة جاما نتورك الطبية استمرت ١٥ عامًا أثبتت أن استخدام الشاشات يؤثر سلبًا على التحصيل الدراسي والعلمي لدى الأطفال، وخلص الباحثون إلى أن قضاء الطفل ساعة واحدة يوميًا أمام الشاشات يرتبط بانخفاض بنسبة ١٠٪ في احتمالية تحقيق مستويات أكاديمية أعلى»؛ ومن قبل أثبتت دراسة أخرى أن تلك التأثيرات تشمل البالغين كذلك، وأن القدرات الذهنية للأفراد تتأثر عكسيًا بقدر إدمانهم الإنترنت أو الشاشات بشكل عام، وهذا بين دراسات علمية أخرى تؤكد في مجملها التأثير العكسي لنمط الحياة الرقمية المعاصرة، وهذا يعيدنا لمربع تأثير الحياة المعاصرة على الإنسان، وإذا كانت تأثيرات المعاصرة وآلاتها على الإنسان ظلت من قبل عند الحدود الصحية الجسدية والنفسية، فإنها في عصر اللايك «like» كما أسماه بيونغ شول هال في كتابه خلاص الجمال، أصبحت تؤثر بشكل مباشر حتى على المقدرات العقلية والذهنية للإنسان المعاصر، وهذا يضعنا كأبناء هذا القرن والغرقى خلف شاشاته في وجه تحديات جديدة.
إذا كان الذكاء الاصطناعي اليوم هو واجهة اللحظة مع كل ما يثيره من آمال ومخاوف في الوقت نفسه، فإن ذلك يبدو هو المحصلة المنطقية لتراكم البيانات والمعلومات الهائل الذي ظلت أجهزة قواعد البيانات تجمعه من المستخدمين، ولا يبدو أن هناك أداة أخرى يمكنها التعامل مع ذلك القدر من تلك الأكوام الضخمة من البيانات المجموعة من الأفراد المستخدمين للإنترنت عبر العالم وتحويلها لشيء مفيد، وبغض النظر عمّن هو المستفيد المباشر كالشركات، أو المستفيد الأخير في هذه الحالة، فإن مفاعلات الواقع نفسه، كما آمل ـ ويبدو أنه أمل شائع ـ يمكنها إعادة توجيه البوصلة نحو الصالح البشري العام.
ما يهمنا هنا الآن هو التركيز على هذا التحدي الجديد الذي يضعنا هذا الذكاء المصطنع أمامه، وهو التحكم المباشر بنمط حياة الأفراد، وتوجيههم لغايات تخدم الشركات المصنعة، وهي أهداف ربحية مباشرة، لا تهتم، ما لم تلزمها القوانين، بآثار تقنياتها على الإنسان، وهكذا بدأنا نسمع الدعوات بإلزام تلك الشركات تجنيب الأطفال أو حجب مواقع التواصل خاصة عنهم، ولكن ذلك عمليًا يشبه البحث عن ذرة رمل على الشاطئ.
إذا كان القرن الـ 20 بنمط حياته التي فرضها على الإنسان عبر وسائل النقل الحديثة، وانتشار الكهرباء والأجهزة ، قد انعكس بشكل أو بآخر بشكل على الصحة العامة، الجسدية والنفسية للبشر، فلا شك أن آثار هذا السيل المعلوماتي الرقمي، وهذا الارتباط الإدماني المنتشر بين مختلف الأعمار في عالم اليوم سيكون له تأثيرات وانعكاسات، ولعل مثل هذه الدراسات التي ذكرناها بدأت تشير إلى اتجاه تلك التأثيرات، وهي كما يبدو ذاهبة بشكل مباشر للتأثير على القدرات العقلية والذهنية، ولعل من التطرف الذهاب بتلك المعطيات المبدئية انسياقًا وراء الخيال السوداوي للكارثة، خاصة مع الانطلاقات الحالية لتحكم الذكاء الاصطناعي بمعظم، إن لم يكن كل، التطبيقات والبرامج ، لكن يبقى أن ذلك وارد، وليس مستحيلًا، بل وممكن الحدوث.
لقد أثبتت الطبيعة الإنسانية أن لديها مساراتها الخاصة، وتلك المسارات أمكنها التغلب ولو جزئيًا على التحديات التي وضعها فيها هذا الشره الإنساني المتعاظم للتقدم والتطور في هذه القرون الأخيرة، وإن كان ذلك على حساب البيئة والاحتباس الحراري والصحة العامة، فمن جهة أخرى تطورت بدورها الخدمات الطبية العامة، لكن لنضع في الحسبان أن رفاهية الخدمات الطبية المتكاملة بدأت تقتصر على من يملك قدرة الوصول إليها، سواء بموقعه في الخريطة، أو بقدراته المالية، وبالتالي فإن الأغلبية الكبرى من البشر بدأت تحرم شيئًا فشيئًا من الوصول المجاني إلى تلك الخدمات الطبية المتطورة، فمن يسأل عن آثار الكآبة في البيئات الفقيرة، ويبدو واضحًا اليوم أن حتى مثل هذا السؤال أصبح ترفًا لا يمكن التفكير فيه، لأن التحديات الأساسية نفسها لم يتم التغلب عليها، فكيف بالسؤال عن مستوى الصحة النفسية، ولكن رغم ذلك فإن هناك دراسات تؤكد العكس، وهو أن سكان البلدان الفقيرة أفضل من ناحية الصحة النفسية بمراحل من البلدان المتقدمة، والعكس صحيح وهو أن سكان البلدان المتقدمة أسوأ نفسيًا ومعرضون أكثر للكآبة والانتحار.
هكذا يبدو من الواضح أن التقدم التقني يحمل معه تحدياته، وأن ما يبدو أفضل ظاهريًا بالنظر إليه من زاوية ما، هو من زاوية أخرى أسوأ، وإذا كان التحدي المطروح اليوم هو قدرتنا على التأقلم مع هذه الظاهرة الرقمية كأفراد وكمجتمعات بالتالي، ذلك أن تأثير الشاشات وخاصة الهواتف ومواقع التواصل لا يستثني أي مرحلة عمرية، من الصغار دون سن المدارس والحضانات إلى الشيوخ والعجائز المدنفين، ونجد اليوم الأفراد غرقى في سيول معلوماتية، والمعلومات ليست سياقًا معرفيًا بالمحصلة، وذلك كما يشير بيونغ هال في كتابه المذكور، لأن المعلومات نفسها أصبحت في مواقع التواصل وسيلة وأداة تشويش دون تراكم معرفي، وبالتالي أصبح الذهن البشري يتعرض لتشويش متواصل، عبر المعلومات التي لا تنقطع، والتي تنتقل دون أي سياق، والسياق الوحيد الذي تتبعه بفضل الخوارزميات هو الإثارة، وذلك لضمان بقاء المستخدم أكبر وقت ممكن في التطبيق، والمحصلة هي الاستثارة والاستنفار المتعاظم في عموم الناس، لكنه في الوقت نفسه استنفار رقمي، مخزّن، كامن وينتظر لحظة الانفجار ليعبر عن نفسه بطريقة عشوائية عادة، ولأن إدمان الشاشات يتطلب البقاء متصلًا، وهذا بدوره يتطلب كذلك البقاء في وضعية استقبال، وهي إما الجلوس أو الاستلقاء، بالتالي فإن مستخدم الشاشات هو نفسه في وضعية انتظار مستمر، وترقب للشاشة، وهذا ما يجعله في المحصلة خاملًا عن القيام بأي فعل خارج دائرته المعتادة، وهو تعطيل ذهني في الوقت نفسه، وبالمحصلة ينعكس كل ذلك بشكل سلبي على حالته النفسية، والتي تستمر في البحث عما يلهيها عن حالتها، أو تبدأ في مرحلة لاحقة في البحث عن مسببات خارجية لتتهمها بما تشعر به من كآبة، بينما في الواقع أن الإنسان بشكل فطري كلما ضيّع حياته وزمنه في الفراغ يصاب تدريجيًا بالكآبة، ذلك أن فطرته وطبيعته ترفض إهدار الوجود الثمين، وإذا كانت الأيام تمضي على مدمني الشاشة بدون إنتاج أو عمل فإن النتيجة الحتمية هي انسحاب الحياة تدريجيًا من داخلهم، أو السخط الكامن غير المفهوم.
أين الطريق إذًا في هذه الحالة؟ من أي جهة يمكننا أن ننتظر الإنقاذ؟ إذا كانت أطواق النجاة ملقاة على سطح البحر لكن كل الغرقى لا يرغبون في إنقاذهم، بل هم مستمتعون بالغرق أكثر فأكثر، والحالة التي هم فيها تدفعهم لإرواء نهمهم المستمر للمشاهدة والتصفح والتشويش، حتى لو كان ذلك بلا غاية ولا هدف ولا محصلة متراكمة؟ لعل الإنقاذ سيعود يأتينا من الفطرة السليمة، رغم أن حساسيتنا البشرية اليوم نفسها مهددة، وتبدو الأصوات المحذرة التي تتعالى مجرد صرخة في واد، نسمعها لكننا غافلون عنها، لا نستوعبها، غرقى على أسطح شاشاتنا ننتظر معجزة ما تعيدنا إلى وعينا وتنتشلنا مما نحن غرقى فيه، أو ربما تأتي النجاة من هذا الذكاء الاصطناعي الذي سينبهنا، في محاولة منه للتذاكي المصطنع، إلى العمر الذي يبتلعه الفراغ الذي نصنعه بأيدينا.
إبراهيم سعيد شاعر وكاتب عُماني