ثقافة

مسرحية "الخياط" للفلسطيني فراس أبو صباح: البقاء الأكثر نبلا

تحسين يقين

 

'قلة الرد رد!'
إنه مضمون البقاء لعائلة غزية ترفض الرحيل، ومضمون شعب استطاع البقاء رغم كل عوامل الطرد والتهجير والتهديد بالقتل.
تختتم المسرحية بترك التلفون يرنّ في إشارة إلى أن عدم الرد على المتصل المهدد بالموت، هو أكثر الردود الإنسانية بلاغة في الفعل: البقاء.
يتنقل أبو عماد بنزق لغة وحركة، ما بين طاولة يكتب عليها مقاييس الثياب، وماكنة الخياطة، وجهاز التلفون، في حين تقف فساتين العرس مزهوة بجمالها بينهما.
إنها إذن 'المخيطة'، وإنه 'الخياط'، وإنها الفساتين، وإنها الحياة، إنه واقع العيش تحت القصف، وإنها دلالات عميقة تتعلق ببقاء الإنسان. لعل المخيطة والخياط والخيوط ثلاثية الاستمرار والديمومة.
يقوم الخياط بعمله، كأن كل شيء على ما يرام، لولا حواره مع ابنه عماد، الذي بمجرد مضمونه، نكتشف عمق اختيار الأب في هذا البقاء العجيب.
بصريا، أخذنا ما هو حاضر على خشبة المسرح الى ما هو غائب هناك؛ أي أن فساتين العرس البيضاء على الخشبة التي تعني الزواج والمواليد الجدد، تقود الى لون مشابه، لكنه مختلف، حيث يعني الموتى الملفوفين بالأكفان. مفارقة اللون الأبيض: الحياة والموت.
في ظل انتشار لون الأكفان، تظل فساتين الحياة الجديدة هي الأمل لذلك نجحت المسرحية بجعل الفساتين البيضاء على الخشبة، وزاد من حضورها استعادة ماضي الخياط مع عرسه هو، حين راح يمسك بالفستان متذكرا، بشجن كبير حيث تكون زوجته قد استشهدت أيضا مع من استشهدوا في الحرب. أما الأمل فيتمثل بإصراره على البقاء هو وابنه عماد الذي يجهّز لخطيبته فستان العرس.
يجمعهم اللون الأبيض، لكن هناك موت وهنا حياة؛ فأية مفارقة صادمة تلك التي يجد فيها صانع الفرح والبهجة للاحتفال بالحياة وسط كل ما يعني استلاب تلك الحياة! وأي بقاء هذا الذي يستمر في ظل وجود كل أسباب الذهاب!
في ظل قتل البشر من حوله، في ظل إبادتهم والحجر والشجر، والمشاعر أيضا، يرفض 'أبو عماد' الفكرة من أساسها؛ فكيف يمكن تخيّل ترك المكان؟ وإن حدث وتركه، فكيف يمكن ترك ما اعتاده من زمن في صنع الفرح والجمال الذي يليق به.
إنه خياط فساتين الأعراس، وسيبقى، وسيستأنف الناس حياتهم، وسيكون زواجا ويكون فرحا، وفساتين بيضاء جميلة.
وهذا ما لا يريد الغزاة فهمه؟
من روافع المسرحية أداء الفنان الكبير خالد المصو الذي أقنعنا من عمقه الإنساني والفني بالمضمون النفسي لدى الخياط أبو عماد. لقد سحرنا الفنان في التعبير عن داخل الخيّاط، أكان ذلك في استمراره بالعمل كأنه يعيش حياة عادية، وبنزقه تجاه ابنه الذي يريد ترك المكان خشية قصفه بعد تلقيهم تهديدات بقصف مكانهم لتهجيرهم.
ثمة ما يمكن الحديث هنا عن سيكولوجية التمثيل وحالة الشخصية، ولعل 'مسرحية الخياط'، مثل يمكن بحثه، من منطلق إضافتها للمسرح العربي. لقد بنى الكاتب، وهو الفنان خالد المصو، شخصية الخياط بشكل حقيقي معمق، تم فيه بيان شدة ارتباطه بحياته ومكانه ومهنته، بما فيها من دلالات الحياة والفرح والجمال، ما يعني في حالة الحرب على غزة الكثير، حيث شكل محصلة بقاء كل فرد ما مجموع المحصلات الجمعية، التي تحدّ التهجير، ولم يكن ليتم ذلك لولا العامل الشخصي لكل مواطن آمن بالبقاء، لأن الهجرة ستعني البدء بحياة جديدة غير مضمونة.
أما الذي عمّق ذلك، فهو عنصر التمثيل الإبداعي، فقد رأينا خالد المصو على الخشبة معبرا عن الخياط كشخص وشعبنا في غزة معا. لقد أدى خالد المصو واحدا من أهم أدواره، وواحدا من أهم الأدوار في المسرح العربي: البقاء.
ولعل مما يذكر لخالد المصو تمكنه من الأداء النزق، وانتباهه الدائم للحركة على خشبة المسرح؛ فقد اختار الحركة المسرحية الواعية لخطواتها وحركاتها.
قام بشخصية عماد الفنان عبد الله بنورة، والذي استطاع التمثيل أمام فنان كبير، حيث استطاع التواجد الفني، حيث كان من روافع التمثيل في الحفاظ على مستوى العرض.
الحدث: في ظل هدم الاحتلال الكثير من البيوت، فإن مشغل الخياطة الذي يملكه أبو عماد يظل قائما فيما يبدو تحت الركام، حيث نجا من التدمير. يصبح المشغل بيتا للناجيين: أبي عناد وابنه عماد. يستمر أبو عماد في عمله اليومي الذي اعتاده، في حين يعجب الابن من بقاء الأب في هكذا ظروف. الابن يضطر يوميا لتأمين النزر القليل من الماء والطعام، (بعض الخبز). يغضب أبو عماد مما يعجب منه ابنه، وصولا الى سخرية العمل بفساتين أعراس في ظل موت الناس بالجملة. وهنا تقع الفساتين المعلقة على الأرض، لتحاكي الأكفان بجامع اللون، وبجامع تمددها على الأرض.
في مشهد عبثي، في ظل انقطاع الكهرباء، يستخدم أبو عماد وابنه الكشاف، فيدور حديث عن أنواع القاذفات والصواريخ، كأننا إزاء لعبة، حيث يبدوان خبيرين في أنواع ما يلقى من صواريخ ومتفجرات.
يزداد أبو عماد توترا مع تلفون يهدد فيه المتحدث بضرورة ترك المكان، وإلا سيتم قصفه. وفي مرة يردّ الابن على التلفون فيفاجأ بتهديد المحتل، حيث يغضب الأب لأن الابن تحدث في التلفون. في لحظة يغادر الابن المكان، ولكنه يعود الى المكان، في هذا الوقت يرنّ صوت التلفون فلا يردان عليه، حيث يزهدان بذلك في إشارة الى تصميمهما على البقاء وعدم الهجرة.
أما الرؤية الإخراجية للفنان الشاب فراس أبو صباح، فقامت على مقاربة الحياة بالموت، من حيث وجود فساتين العرس، والوجود الحيوي للخياط، الذي يتعامل مع الحياة كأنها قائمة دون خوف، حيث تصبح المخيطة بناء للأمل على مستوى ثوب العرس، وتصبح الخيوط خيوط الأمل، ولعل استعانة الأب بابنه في إدخال الخيط في ثقب الإبرة، بسبب ضعف نظره في رؤية التفاصيل الصغيرة، في إشارة رمزية للمستقبل، بما يحمله الابن من دلالة العريس ودلالة الفعل. لقد قام الحوار هنا حسم الأب أمره بالبقاء وعلى تردد الابن بالبقاء، فكان هذا الحوار بمثابة انعكاس للواقع الصعب الذي عاشه الناس تحت القصف. لذلك حملت بصريات العرض الأمل، في حين، رغم الحديث عن الشهداء والأكفان، فقد آثر المخرج التركيز على الحياة بصريا. ولعل اختيار الإضاءات المتنوعة قد عمقت بصريا المشاهد، من خلال توظيف اللون نفسيا من خلال مستويات الإضاءة قوة وتعتيما، اسجم مع ذلك حالة الموسيقى المصاحبة.
كان التردد والنزق ملائما لحالة الحرب من جهة، ولحالة الصراع الداخلي، كذلك حالة الصراع بينهما في الاستمرار بالوجود في المشغل او تركه.
لقد ارتقى عرض 'الخياط' للحالة الفلسطينية المتعرضة للاستلاب، فجعل الأكفان البيضاء فساتين فرح تمتلك حلم الاستمرار بالحياة، ومنح الأمل من خلال قدرة الفلسطيني على البقاء.
سيظل أداء خالد المصو باقيا في الذاكرة طويلا، وهو الذي عبّر بقوة عما حمله الفلسطيني من مشاعر مختلطة في ظل الحياة على حرف، تلك الحياة المهددة بكل أنواع الاستلاب الدمويّ. كذلك سيظل صوت جرس الهاتف مسموعا في أكثر الردود بلاغة: قلة الردّ الرد!
'يخيط' أبو عماد الفلسطيني على ساحل البحر المتوسط الفساتين والأمل، كما رباه محمود درويش: في قصيدته 'حالة حصار' حين قال: 'نربي الأمل'. وهكذا بقي أبو عماد وابنه وشعبه رغم كل محاولات الغزاة طردهم. لعله البقاء الأكثر نبلا.