اقتصاد العالم في عصر مضطرب
ترجمة قاسم مكي
الأربعاء / 29 / ربيع الثاني / 1447 هـ - 21:11 - الأربعاء 22 أكتوبر 2025 21:11
ما وضع اقتصاد العالم؟ الإجابة هي -كما ذكر زميلي تيج باريك مؤخرا- «مُربِك». ويجب ألا يدعو ذلك الى الاستغراب؛ ففضلًا عن بعض أوضاع عدم اليقين الواضحة في الاقتصاد الكلي (كالاتجاهات المزعجة في العجوزات المالية والديون في بلدان عديدة إذا ضربنا مثلًا واحدًا) نحن نشهد حدثين ضخمين هما تنازل الولايات المتحدة عن هيمنتها العالمية، والبداية المنفلتة لما يمكن أن يكون أهم الابتكارات التقنية للبشرية، وهو الذكاء الاصطناعي. لا عجب أن نرتبك، لكن الشيء اللافت هو الكيفية التي تمكن بها اقتصاد العالم من التعامل مع الصدمات والبلبلة حتى الآن على الأقل.
هذا موضوع أساسي في الخطاب الافتتاحي لكريستالينا جورجيفا المديرة العامة لصندوق النقد الدولي في الاجتماعات السنوية لهذا العام بواشنطن، وتقرير آفاق الاقتصاد العالمي للصندوق. (عقدت الاجتماعات السنوية المشتركة للصندوق والبنك الدولي بالعاصمة الأمريكية في الفترة من 13 الى 18 أكتوبر الجاري ( المترجم.) النتيجة الكبيرة والمهمة هي أن الصندوق يرى تباطؤا قليلًا نسبيًا للنمو هذا العام وفي العام القادم. ولا حاجة للقول: إن أي استنتاج مثل هذا في حد ذاته ليس مؤكدًا إلى حد بعيد، لكنه متَّسق مع ما حدث حتى الآن في هذا العام على الرغم من الاضطراب والبلبلة.
لماذا ظل اقتصاد العالم قويًا نسبيًا؟ تقدم جورجيفا وتقرير الصندوق أربعة أسباب هي: أن نتائج الرسوم الجمركية أقل خطورة مما كان يخشى منه، وتكيّف القطاع الخاص، والأوضاع المالية المعزِّزة، وتحسُّن الركائز الأساسية للسياسات.
أولا: صحيح حقًا أصبحت الرسوم أقل ارتفاعًا نوعًا ما مقارنة بما ذكر ابتداء في «يوم حرية» دونالد في 2 ابريل. ففي النهاية -كما تحاجج جورجيفا- « هبط معدل الرسوم الجمركية الأمريكية المرجَّحة بالتجارة من 23% في أبريل الى 17.5% الآن. إلى ذلك -وهذا مدهش- لم يكن هنالك ردٌّ يذكر على الرسوم الجمركية، لكن مع ذلك تظل هذه الرسوم مرتفعة.
ثانيا: تعامل القطاع الخاص معها بطريقة إيجابية، وكان هذا صحيح خصوصا في المدى القصير. وهكذا أشار تقرير الصندوق الى «مسارعة العائلات والشركات الى الانفاق الاستهلاكي والاستثماري استباقًا لسريان الرسوم».
إلى ذلك سمح التأخير في تطبيق الرسوم للشركات بتأجيل تغيير الأسعار. كما تحمّل المصدرون والمستوردون بعض الزيادات في الأسعار، لكن بعضها يمرر للمشترين. واقع الحال أن الرسوم ضريبة مؤذية؛ فهي نهاية المطاف تشوه هيكل ونمو إنتاج العالم.
ثالثا: واصلت أسواق الأسهم انتعاشها، وظلت الأوضاع الاقتصادية داعمة على نحو أوسع. ومن بين أسباب ذلك -خصوصا في الولايات المتحدة- طفرة الاستثمار في الذكاء الاصطناعي. وليس معلومًا ما إذا كان هذا الازدهار يتجذر في الواقع، أو مجرد فقاعة من ذلك النوع الذي كثيرًا ما يرافق مثل هذا الابتكار.
الملمح الرابع يبدو سمة حقيقية للاقتصادات الصاعدة. لقد تعلمت بلدان عديدة من تجارب الماضي القاسية؛ لذلك اتبعت سياسات مالية ونقدية أكثر انضباطا من تلك التي اعتادت عليها.
ذلك هو موضوع الفصل الثاني من تقرير آفاق الاقتصاد العالمي. المشكلة هي أن الأوضاع الخارجية لن تكون أكثر سهولة للعديد من هذه البلدان؛ فالصين تحاول التصدي لعداء الولايات المتحدة ولمكامن الضعف المحلية. والبرازيل والهند تعرضتا الى رسوم جمركية فاحشة في ارتفاعها بلغ معدلها 50%. وفي حالة البرازيل كان ذلك إلى حد بعيد؛ لأن محاكمها تذكرت دكتاتورياتها العسكرية، وقررت وضع جايير بولسونارو (وهو مشروع دكتاتور) خلف القضبان لمدة 27 عاما. فلماذا يكره ترامب ذلك إلى هذا الحد؟
في مثل وقتنا الحالي، وعندما ينقلب نظام العالم رأسًا على عقب؛ من الخطورة الاطمئنان إلى ما سيحدث في المستقبل. وكما لاحظ صندوق النقد الدولي؛ هنالك الكثير من الهشاشات وخصوصا العجوزات المالية والديون؛ فهو يشير مثلا الى توقع تراجع معدل التوازن المالي الحكومي إلى الناتج المحلي الإجمالي في الولايات المتحدة بنسبة 0.5 نقطة مئوية في عام 2026. «ويعود ذلك أساسا إلى إجازة مشروع قانون ترامب الجميل والكبير، وعلى الرغم من تعويض فقدان حوالي 0.7 نقطة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي بإيرادات الرسوم الجمركية المتوقعة». هذا أيضا يستبعد خفضًا كبيرًا في اختلالات الحساب الجاري العالمية على الرغم من أن الصندوق يتوقع خفضًا متواضعًا.
ذلك بدوره ينذر بمزيد من المناوشات في الحرب التجارية العالمية خصوصا بين الولايات المتحدة والصين؛ ففضلا عن ميل ترامب الى اعتبار أي فائض تجاري ثنائي دليلا على أن الشريك التجاري يستغل الولايات المتحدة يُنظر الى الصين أيضا كمنافس استراتيجي شامل.
الولايات المتحدة منزعجة خصوصا؛ لأن الصين تستخدم عضلاتها التجارية في هذه المشاجرات. لقد اتهم سكوت بيسنت وزير الخزانة الأمريكي بكين بمحاولة إيذاء اقتصاد العالم بعد فرضها قيود تصدير واسعة على العناصر النادرة والمعادن الحيوية. فكيف يتخيل بيسنت شعور ضحايا الولايات المتحدة تجاه الحرب التجارية التي تشنها ضدهم؟
اجتماعات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي فرصة ليس فقط للنظر في الوضع العام للاقتصاد العالمي والمخاطر الواضحة لتعاظم الاضطراب، ولكن خصوصًا للتركيز على وضع البلدان والشعوب الأكثر فقرًا.
يذكر تقرير آفاق الاقتصاد العالمي أن «أفقر بلدان العالم لا سيما تلك التي تعاني من صراع متطاول معرضة خصوصا لخطر تباطؤ زخم نموها». أحد أسباب ذلك تقليل المنح، وخفض الإقراض الميسر. ومن المرجح أن يكون الإغلاق الفجائي للوكالة الأمريكية للتنمية الدولية مؤثرًا على نحو خاص على الصحة؛ فقد توصلت دراسة مقلقة نشرت في مجلة «لانسيت» الطبية إلى أن تفكيك الوكالة «قد تنتج عنه أكثر من 14 مليون وفاة إضافية بحلول عام2030». أنشئ كل من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في عام 1944 لإرساء مبدأ التعاون الاقتصادي العالمي، ومن المؤكد تقريبا أن الحاجة اليه لم تنته. ومن المشجع أن الولايات المتحدة لاتزال عضوًا فيهما.
التحديات المستقبلية هائلة، وليس أقلها الحاجة الى الحفاظ على التقدم الاقتصادي في وقت يشهد مثل هذا الاضطراب الجيوسياسي. ولن يكون أي بلد مهما كان قويًا في مأمن إذا انفجر النظام الاقتصادي العالمي بدلا من ذلك.