أعمدة

لماذا نراهن على الثقافة؟

يختزل البعض مفهوم الثقافة في الإنتاج الأدبي والفكري والفني وغيرها من أشكال التعبير، لكن الحقيقة أن الثقافة تتجاوز كل المفاهيم إلى تجسيدها كأسلوب حياة وطريقة تفكير وخيار معرفي في اكتساب المعارف والسلوكيات والتفاعل والتعامل معها. لذلك يتوجب العمل بالثقافة كأمر مسلم به وليس ترفا أو حاجة عرضية. فالثقافة ليست مؤسسات أو هيئات أو جمعيات ينصّب عملها حول الأنشطة الثقافية فحسب بل هي أعمق من ذلك.

صحيح أن وهج الثقافة بدأ يخبو في العديد من المراكز الثقافية العالمية التي رفعت عاليا مشاعل التنوير وقيم الحداثة، وبدأت تتصاعد خطابات عنصرية تحمل في مضامينها الكراهية والتحريض على الآخر ومعاداته.

في هذا الزمن الذي نرى فيه تسطيح القيم وسيادة طبع الاستهلاك وتغول الماديات وصورها البائسة وروائحها العطنة، لا نجد إلى ضرورة اللجوء إلى روح الثقافة فلا نعول إلا على الكلمة الصادقة والعبارة الواضحة التي لا لبس فيها ولا مجاملة، النغمة التي لا تنتظر من يترجمها ولا يفسرها. الفن الذي لا نجد له بدائل في التعريف بجوارح الإنسان وأعماقه الدفينة، اللوحة التي تختزل الجمال وتثير الأسئلة التي تستعصي على الأجوبة. أليس السؤال هو قرين المعنى وكل المعرفة؟! ماذا نريد نحن المحبين للحياة التي لا زيف فيها ولا تنطع ولا مجاملة ولا جرى خلف الأضواء والشهرة المزيفة، ولا الانقياد لمؤثري وسائل التواصل الذين لا تقنعنا ثرثرتهم. إذن نحن مع كل فعل يعيد الإنسان إلى إنسانيته، ويُعلي سموه الفطري وتغليب الروح على المادة. ماذا نحتاج من الثقافة سوى تلك الروح الصادقة الداعية لانتصار الإنسان على جشعه وأنانيته. نراهن على الثقافة المُعبّرة عن القضايا الأساسية والصادقة، لأنها -أي الثقافة- أول الخطوط في مواجهة البشاعة، وآخر الأشياء التي لا يمكن تبسيطها أو التقليل من فاعليتها. نراهن على الثقافة في تبديد الزيف والمجاملات المُقنّعة وتزلف الإنسان الساعي للحصول على فتات الأشياء، نراهن على الثقافة لأنها آخر ما تبقى لدينا من ذلك الأصل السماوي الذي ينبض فينا كالنفس والروح، هل بالغنا في وصف الأشياء؟ أبدا على الإطلاق؛ لأن ذلك ما نشعر به ونستشعره وننادي به لتبديد هذه الصور المزيفة التي تقابلنا كل صباح وكل لحظة وبعد انتهاء الفصول وفي ختام اللقاءات.

نعول على الثقافة لإيقاف النزيف الروحي في جسد الإنسانية الساعي لاستبدال الروح بالمادة الجافة. هل علينا أن نزيد البوح أكثر ونكشف عن جوانبنا المتعبة النازفة والمرهقة مما يستجد ويحدث ويتراءى لنا؟.

إذا فضلنا الثقافة على غيرها من مجالات الحياة المتعددة والتي تمنح صاحبها فرحة وألقا وسلطة، فلأننا لا نرى خلودا ولا ثقة ولا أملا، إلا في الثقافة لأنها الروح، الروح التي تجعل الإنسان إنسانا، ولا تضخم فيه سلطة الاستعباد والاستبداد ولا تبيح له العنف ولا تزرع فيه الأنانية المفرطة في صورها وأشكالها، نعول على الثقافة؛ لأنها المعول الأخير في تكسير حواجز التفاهم والتسامح بين مختلف الأجناس البشرية والأيديولوجيا المتشنجة والمتصارعة لأجل وهم التربع على عرش الخسارات المقيتة.

يصعب على الإنسان المحتاج لفهم حب الحياة والسلم والطمأنينة أن يُقدّر الأرواح الداعية إلى إعلاء الثقافة على الاقتصاد والسياسة والرياضة وغيرها من المجالات والميادين التي لا تنفع إلا فئة من البشر التوّاقين لحصاد الزرع قبل أوانه، أولئك الذين لا يقدرون ظل الشجر، ولكنهم يقيمون الشجرة حسب إنتاجها الموسمي لا على أثرها الدائم السرمدي.

ختاما نقول: إننا ربما بالغنا في ضبابية المشهد الراهن، لكننا في المقابل لأننا لا نتحمل الحسرات والندم على ما سيجري من نزيف لأرواح البشر في النزاعات المجنونة التي تزهق أرواح البشر الذين يفترض بهم إعمار الأرض حسب الوصية والرسالة المكتوبة لهم من السماء. لكن الجحود الإنساني استشرى وتغول الجانب المادي في الاستحواذ على مقدرات بقية البشر، فالظلامية تُعمي البصر والبصيرة وتنشر السوداوية الماحقة لكل الأجناس والطوائف والبقاع. ماذا صنع الإنسان أجمل من الثقافة؟ خلق من الكلمات أرواحا مجسدة في تشكيل الكلمة ومعانيها وظلالها وانعكاس المعنى على مرايا الذات.

ومع ذلك هل نشهد فعلا انحسار الثقافة الجليلة السامية التي تُعلي من قيمة الإنسان اسما ومعنى أم أننا نتوهم أن الثقافة في لحظة جزر تنتظر طاقة سماوية ما لتمددها وانتشارها؟