على حافة التصعيد .. سباق الصمت بين واشنطن وبكين
ترجمة ـ نهى مصطفى
الأربعاء / 22 / ربيع الثاني / 1447 هـ - 20:56 - الأربعاء 15 أكتوبر 2025 20:56
وكما قال النائب الأمريكي آدم سميث خلال زيارته الأخيرة إلى بكين: «الصين هي أسرع الجيوش نموًا، وأسرع قوة نووية توسعًا في العالم، في حين تمتلك الولايات المتحدة أكبر جيش في العالم. عجزنا عن التواصل المنتظم بشأن قدراتنا ونوايانا أمر بالغ الخطورة.» لكن على الرغم من المحاولات المتكررة من جانب المسؤولين الأمريكيين لتحسين الاتصالات العسكرية، تقاوم الصين حتى الآن إقامة قواعد واضحة للاتصالات العسكرية مع الولايات المتحدة بسبب شكوكها العميقة في نوايا واشنطن، رغم محاولات الأخيرة المتكررة.
ومع تقارب القدرات العسكرية وارتفاع مخاطر التصعيد، تحتاج واشنطن إلى فهم هذا الارتياب ومعالجته. وتُعد التجربة الأمريكية السوفييتية في الحرب الباردة نموذجًا ناجحًا، إذ أسفرت عن اتفاقيات عامي 1972 و1989 للحد من الحوادث العسكرية وتقليل مخاطر التصعيد رغم بقاء التوتر بين الطرفين. في بداية العلاقات الدبلوماسية بين الصين والولايات المتحدة في أوائل الثمانينيات، سعت واشنطن إلى تطبيق نموذج التواصل العسكري السوفييتي على علاقاتها مع الصين، من خلال تبادلات محدودة حول العقيدة والتدريب.
لكن هذه الجهود توقفت عام 1989 ردًا على الضربة العسكرية التي شنتها بكين على المتظاهرين في ميدان تيانانمين. عادت العلاقات جزئيًا في التسعينيات، غير أن التوتر تصاعد مع تزايد اقتراب الجيشين من بعضهما، ما أدى إلى حوادث كادت تتحول لاشتباكات، أبرزها حادثة البحر الأصفر عام 1994 حين اقتربت غواصة وطائرات صينية من الأسطول الأمريكي السابع. في المقابل، اشتكى المسؤولون الصينيون من رحلات الاستطلاع الأمريكية القريبة من مجالهم الجوي، معتبرين أنها تهدف إلى كشف أنظمة دفاعهم.
كما رأت الولايات المتحدة في تحسين العلاقات مع جيش التحرير الشعبي فرصة ليس فقط لتفادي الأزمات، بل أيضًا للتأثير في تفكير الصين وسلوكها الدولي، نظرًا لدور الجيش المتنامي في السياسة الصينية وفي الساحة العالمية. بلغت الاتصالات العسكرية الأمريكية - الصينية ذروتها بين عامي 1996 و1999، مع توقيع اتفاقية عام 1998 لمنع الحوادث البحرية وإنشاء الخط الساخن بين واشنطن وبكين.
كما جرت محادثات رفيعة المستوى حول العقائد العسكرية وحتى قضايا نووية محدودة. ومع ذلك، ظلت الشكوك عميقة؛ فالصين، التي رأت في التواصل انكشافًا غير مبرر أمام تفوق واشنطن العسكري، اعتبرت مبادرات بناء الثقة وسيلة أمريكية لمراقبتها والحد من صعود جيشها، لا لضمان الاستقرار أو منع الصراع . لا يزال المسؤولون الصينيون يحتفظون ببعض قنوات الاتصال مع الجيش الأمريكي، مستخدمين إياها لخدمة أهدافهم الخاصة، مثل الحد من عمليات الانتشار الأمريكية وجهود الاستطلاع قرب البر الرئيسي الصيني. ومع ذلك، حرصت بكين على إبقاء هذه التبادلات والالتزامات العسكرية غامضة، مصاغة بعناية، وشكلية إلى حد كبير.
وبدلًا من تعزيز الثقة، أسهمت هذه المقاربة في بث القلق وعدم اليقين لدى القادة والمشغلين الأمريكيين. وقد تجلى ذلك بوضوح في عام 2001، عندما اصطدمت طائرة صينية بطائرة مراقبة أمريكية من طراز EP-3 فوق بحر الصين الجنوبي. وبعد أن اضطرت الطائرة الأمريكية وعلى متنها 24 فردًا من طاقمها إلى الهبوط في جزيرة هاينان، التي تضم قاعدة عسكرية صينية، حاول المسؤولون الأمريكيون تفعيل بروتوكولات الاتصال رفيعة المستوى، لكنهم قوبلوا بالصمت والمماطلة من الجانب الصيني.
ظلّت الهواتف ترن دون إجابة بينما كان الأمريكيون يُستجوبون في منشأة عسكرية لمدة 48 ساعة، قبل أن يُحتجزوا أحد عشر يومًا إضافيًا ثم يُفرج عنهم . في العقود اللاحقة، تزايدت مخاوف الولايات المتحدة من وتيرة التحديث العسكري الصيني واتساع نشاطه، بينما أصبحت بكين أكثر انغلاقًا. حاولت واشنطن مرارًا إنشاء آليات لمنع أو إدارة أو الحد من الحوادث في مجالات عسكرية متعددة، من الفضاء الإلكتروني إلى الفضاء الخارجي، لكن هذه الجهود قوبلت دائمًا بعدم الاستجابة الواضحة أو الرفض الصريح من الجانب الصيني.
وحتى عندما جرت حوارات أمنية بين البلدين، لم تحقق الحد الأدنى من التوقعات. والأسوأ أن هذه التفاعلات كثيرًا ما عمّقت الشكوك وانعدام الثقة بدلًا من تعزيزها. فعندما اصطحب ضباط أمريكيون نظراءهم الصينيين لمشاهدة تدريب بالدروع في قاعدة فورت هود بتكساس، وصف الضابط الصيني الزيارة لاحقًا بأنها تهديدية ومقصودة لترهيبهم.ينبع هذا التحفظ الصيني من شكوك متجذّرة تتجلى في عدة صور؛ إذ تخشى بكين أن تكرس الاتفاقيات الثنائية مع واشنطن تفوّق الولايات المتحدة وتبقي الصين في موقع عسكري أدنى.
ومن هذا المنظور، تعد مدونة السلوك الأمريكية الصينية للمواجهات العسكرية وسيلة تمنح واشنطن حرية أكبر في تنفيذ عملياتها في المنطقة، لأنها تتيح لها إدارة المخاطر وتجنّب العواقب. كما يسود داخل جيش التحرير الشعبي اعتقاد راسخ بأن تدابير بناء الثقة تفيد الولايات المتحدة أكثر مما تفيد الصين، لأن الشفافية تصبّ في مصلحة واشنطن وحدها.
لكن هذا النهج تغيّر إلى حد ما؛ فاليوم ترغب بكين في أن تُعامل كقوة عظمى. ومع ذلك، وعلى عكس الاتحاد السوفييتي، لا تبدو قلقة من مخاطر التصعيد الناتجة عن ضعف التواصل مع الجيش الأمريكي، بل ترى في هذا الغموض ميزة. ففي حين تميل واشنطن إلى استعراض قوتها العسكرية لردع الخصوم، تختار بكين ترسيخ حالة من عدم اليقين في تحركاتها ودبلوماسيتها وعقيدتها، لتزرع القلق في صفوف القوات الأمريكية العاملة قربها.
تُعد هذه استراتيجية سياسية في جوهرها؛ فمع أن بعض المحللين والضباط الصينيين دعوا إلى مزيد من الشفافية العسكرية، يفضل قادة الحزب الشيوعي الصيني الإبقاء على الغموض بشأن قدرات جيش التحرير الشعبي وبروتوكولات الأزمات، اعتقادًا منهم بأن الغموض يمنحهم مرونة أكبر في الأزمات ويعزز قوة الردع.